بقلم: سمير التقي – النهار العربي
الشرق اليوم- رغم التوقعات الظافرية لعدد من المحللين الغربيين في بداية غزو أوكرانيا، لم يتحقق ذاك التداعي “المنشود” للاقتصاد الروسي. ولا شك أن عدداً من خيرة الخبراء الاقتصاديين الروس نجحوا، بداية الامر، بشكل بارع وحصيف في مقارعة الموجات الأولى لتسونامي العقوبات وتداعيات عسكرة الاقتصاد الروسي.
تبدو بعض الارقام مذهلة، نزيف الحرب والعقوبات، لم يمنع الاقتصاد الروسي من تحقيق نسبة نمو ولا يزال قادرا على لجم التضخم بشكل معقول. لكن المقارعة البطولية لم تكن إلا لتدرأ مؤقتاً أو تؤجل المخاطر وحسب التي تحيق بالاقتصاد الروسي بسبب الحرب وعسكرة الاقتصاد والعقوبات.
في نهاية المطاف، ما يهمنا استراتيجياً، هو بناء تصور لآفاق الاقتصاد السياسي للدولة الروسية. تشير التقارير ودراسات الاقتصاديين إلى أن كعب أخيل في هذا الاقتصاد يكمن في محدودية الموارد البشرية التقنية، واستنفاذ الصندوق السيادي وأزمة تصدير الطاقة. وهي كلها مؤشرات تتفاقم بشكل خطير.
وبعد، بالنسبة للنفط، ثمة سوقان متميزان. سوق المستخرج الخام، وسوق أخرى لنواتج التكرير. بالنسبة لروسيا، شكلت القيمة المضافة لصادرات النفط المكررة مصدراً كبيراً للأرباح، وهي التي تملك منظومة التكرير الأضخم وتشمل 30 مصفاة عملاقة، تشغل عشرات الآلاف من الأشخاص.
كانت أوروبا سابقاً أكبر سوق لهذه المصافي، وبعد غزو أوكرانيا، لم يكن “أصدقاء روسيا” متحمسين لروسيا بقدر ما كانوا متحمسين لنزيفها المالي والنفطي. فقد رفضوا استيراد المنتجات الروسية المكررة، بل وفرضوا سعراً للخام الروسي، وصل أحياناً لأقل من 30% من السعر الدارج.
أهم هؤلاء “الأصدقاء” الأعزاء هم الصين والهند، اللتان فضلتا جني الارباح الطائلة من خلال تكرير النفط في مصافيهما بدل شراء المنتجات المكررة. خاصة انه بعد تكريرها لا يمكن التعرف على منشئها ويمكن اعادة تصديرها بأرباح كبيرة جراء سعر الشراء البخس والقيمة المضافة للتكرير. لذلك فبقدر ما كانت مغاسل النفط شريكة لروسيا، بقدر كانت مصلحتها في استمرار العقوبات. بل، كنتيجة مباشرة للمساومة مع “الأصدقاء”، انخفضت بشكل درامي أرباح روسيا من صادراتها المكررة، بل وضاق سوق النفط الخام، لتنعكس بشكل خطير على إيرادات الخزانة الروسية.
تحولت الصين والهند وتركيا وغيرها، من مستورد للنفط، لمصدر كبير له. بل وعلى مدار الاثني عشر شهرًا الماضية، زادت مشترياتها من النفط الروسي البخس، لتصبح روسيا بدل الخليج، المورد الاكبر لنفط الخام للهند، وحتى سنغافورة صارت مصدرة هامة للنفط المكرر! والأنكى، اضطرت روسيا لتقديم المزيد من الخصومات على أسعار نفطها، بعدما عجزت عن ايجاد بديل معتبر لتصديره. وبعدما كانت القيمة اليومية لصادرات النفط المكرر الروسي عام 2022، 150 مليون دولار، وعلى مدى الشهور الثمانية عشرة الماضية، اصبحت 82 مليون دولار يومياً، وكان ذلك نتيجة مباشرة لفقدان القدرة على بيع المنتجات المكررة والنفط الخام.
في محاولة منه لجعل الروبل عملة رئيسية لتداول النفط، أعلن الرئيس بوتين شخصياً، أن على جميع الدول تسديد مدفوعاتها المستقبلية بالروبل الروسي. لكن معارضة “الصديق الصيني” كانت فورية. واكثر من ذلك، فرضت الصين علي روسيا أن يجري التعامل بينهما باليوان، وليس بالروبل في مناخ من مخاوف الانكماش الاقتصادي في الصين بعد كوفيد. وكذا انخفض الروبل تجاه الروبية الهندية، و على مدار الاثني عشر شهرًا الماضية، انخفض الروبل بنسبة 60% تجاه للدولار الذي لا يزال يعتبر العملة المعيارية للروبل، وانخفض 53% تجاه اليوان الصيني، و75% مقابل اليورو.
ورغم تماسك الوضع الاقتصادي الروسي الراهن، فإن ما نراه الآن، هو تراجع كبير في قدرة البنك المركزي الروسي على ضبط التضخم وافتقاد قدرته على بيع الاصول لتسديد العجوزات من صندوق الثروة الوطنية، ودرء خطر التضخم، ليصبح الان ملزماً بتوجيه الأموال لدعم الحرب واقتصادها وضروراتها. والخلاصة انه لم يعد صندوق الثروة الوطنية قادراً على الاستمرار في تسديد العجوز.
لكن ما يدعو للعجب، ان دول التحالف الغربي وبالرغم من هذه الظروف، زادت وارداتها من المنتجات النفطية المكررة من دول المغاسل النفطية بمئات المليارات من الدولارات، لتصل نسبة الزيادة لأكثر من 70%. والأعجب، أن هذه المنتجات تنقل بسفن مملوكة أو مؤمنة من قبل دول التحالف الغربي. فما هو السر؟
نعود للاقتصاد السياسي. ما هو المغزى الاستراتيجي البعيد الأمد، لرؤية الغرب لصراعه مع روسيا.
فالغرب يعرف بل يساهم في تشكيل هذه الصورة. وهو إذ يقرر إخراج روسيا من السوق الدولية، فانه لا يريد أن يتم ذلك بالضربة القاضية للعقوبات، بل يتطلع لاستنزاف روسيا وعصر اقتصادها دون خنقها، على الأمد الطويل كما فعل مع الاتحاد السوفياتي.
إذاً، ليس المطلوب ولا المرغوب ان تنهار الدولة الروسية، ولا حتى أن ينهار النظام السياسي فيها، بل المطلوب أن تفشل في تحقيق أهدافها، وألا تعود قادرة علي تهديد أمن أوروبا. ثم.. “بطيخ يكسر بعضه”.
لكن ثمة صفحة أخرى من هذه الصورة. فبعدمقررا شي جينبينغ وبوتين خلال الالعاب الأولمبية في بكين، أن العالم ينقسم لعالمين (فسطاطين)، تراكض الغرب لإعادة ترميم المتاريس والتحالفات بعد ان اهملتها أميركا منذ التسعينات، لتبدو الان مضطرة ان تكون اكثر حصافة، ومضطرة لتقديم تنازلات ورشى منقطعة النظير، مقابل تصلبها. بل لا تفرض أمريكا على حلفائها التقيد بالعقوبات ولا ترغب بحرمانها من مرابح النزيف الروسي. لذلك، مثل غيرها في هذا العالم العاصف، تتحالف أميركا هذه الأيام، بالمفرق وليس بالجملة.
بعض حلفائها من تركيا وحتى سنغافورة، وبعض اصدقائها مثل مصر والهند ونيبال وبوتان وبنغلاديش وحتى سريلانكا وغيرها.. يستفيد من النزف الروسي، لكن ذلك، يحول العقوبات، لأداة مساومة أميركية تجاه الحلفاء والاصدقاء، وسعيها لابقاء سيطرتها على دفة العولمة ومنظومة التجارة العالمية. وهي بذلك تستخدم مفاتيح العقوبات على الصين وروسيا، أداة مناورة وضغط لبناء التحالفات ضدهما.
لذلك لا بأس ان ينزف الاقتصاد الروسي بهذا القدر لا أكثر ولا أقل، ولا بأس ان تقفز موارد “أصدقاء روسيا” فيما يشبه المعجزة، لكن المهم ان لا ترتفع اسعار النفط كي يستمر النمو العالمي، وألا يزيد الاحتياطي النقدي والعسكري لروسيا، وقبل كل شيء ان تبقى هيمنة الدولار دون منازع. وهذا هو المعيار الاميركي المتحقق حتى الآن.