الشرق اليوم– نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يتناول سعي الأردن لإحداث تحول حقيقي في قطاع التعدين، من خلال محاولة استكشاف العناصر الأرضية النادرة والاستراتيجية، ويتطرق إلى الحاجة الملحة للتوسع في هذا القطاع، والتحديات التي تواجه استخراج هذه العناصر النادرة.
أدناه النص كما ورد في موقع المركز:
يسعى الأردن لإحداث تحول حقيقي في قطاع التعدين، من خلال محاولة استكشاف “العناصر الأرضية النادرة والاستراتيجية”، وتطوير عمليات التنقيب والتعدين والصناعات التحويلية للعناصر اللافلزية. في وقت تكتسب فيه العناصر النادرة والاستراتيجية مكانة كبيرة في الجيوسياسية العالمية بوصفها ركيزة “الثورة الصناعية الرابعة” القائمة على الأتمتة والتقنية والذكاء الاصطناعي والتحول الأخضر والتكنولوجيا العسكرية، حتى باتت تلك المعادن تكافئ النفط الذي كان عماد الثورة الصناعية الثالثة، والكهرباء في الثورة الصناعية الثانية وطاقة البخار في الثورة الصناعية الأولى.
ومن شأن دخول الأردن لسوق المعادن النادرة والاستراتيجية، أن يضمن له مقعداً في “صناعات المستقبل”، ويُعيد تعريف قوته الجغرافية ومكانته الجيوسياسية ودوره الاستراتيجي على الصعيد الإقليمي والدولي في ظل التركيز المحدود لانتشار تلك المعادن حول العالم وارتفاع الطلب عليها بشكل غير مسبوق. لكن ذلك مرهون بمعالم خريطة المخزون الأردني من تلك المعادن، واعتماد استراتيجية شاملة لضمان وصول الأردن إلى الريادة في قطاعات المناجم والمعادن، والتي تتطلب التغلب على العديد من التحديات المحلية والخارجية.
توسع الأردن في قطاع التعدين حاجة مُلحة
منذ أولى الاكتشافات للمعادن الأرضية في الأردن عام 1903، كانت غالبية عمليات التنقيب والتعدين ترتكز على المعادن اللافلزية والطينية من فوسفات وبوتاس وملح وكربونات الكالسيوم والزيوليت والسليكا والحجر الجيري ومنتجات المحاجر. وقد نما قطاع التعدين بشكل كبير إذ بلغت صادراته حوالي 145 مليار دينار أردني خلال السنوات العشرين السابقة. ولم تكن المعادن النادرة والاستراتيجية تلقى اهتماماً في عمليات التنقيب والتعدين، حتى أدرجت رؤية التحديث الاقتصادي، قطاع المعادن بأنه ذو قيمة صناعية عالية، سيتم العمل على مضاعفة مساهمته من الناتج المحلي الإجمالي، ورفع قدرته التصديرية إلى 5 مليارات دولار بحلول العام 2033.
ومن هنا؛ أصبح استكشاف الثروات المعدنية وتحديد العناصر النادرة والاستراتيجية منها ودراسة جدواها الاقتصادية وثم استخراجها؛ أمراً بالغ الأهمية نظراً للمرحلة الصعبة التي يمُر بها الاقتصاد الأردني، ولا سيما في ظل العديد من “الدراسات العملية والتخمينية” التي توصلت إلى وجود وُفرة من الثروات المعدنية في الأردن، وهي النتائج التي تسعى الحكومة اليوم للتأكد من حقيقتها وجدواها الاقتصادية.
فقد عمدت الحكومة على تقسيم المملكة إلى ثمان مربعات تعدينية، في شمال وجنوب ووسط البلاد، ووقعت وزارة الطاقة والثروة المعدنية مع شركات متخصصة في التنقيب والاستكشاف لإجراء الدراسات الجيوكيميائية والتنقيبية الخاصة في العناصر النادرة والعناصر الاستراتيجية من ذهب ونحاس وليثيوم، فمنذ العام 2022، وقعت الوزارة الطاقة والثروة المعدنية عشر مذكرات تفاهم منها:
– مذكرة تفاهم مع القوات المسلحة الأردنية مطلع العام 2022، للتنقيب عن العناصر النادرة والاستراتيجية وتُركز في عملياتها على استكشاف الليثيوم في منطقة دبيديب جنوبي المملكة.
– مذكرة تفاهم مع الشركة العربية للتعدين في يناير 2022، للتنقيب عن الليثيوم في منطقة لسان بالبحر الميت.
– مذكرة تفاهم مع شركة تجانس لتملك وإقامة المشاريع التجارية في أبريل 2022 لوضع خارطة تحدد اهم المعادن التي يمكن الاستثمار فيها.
– مذكرتي تفاهم مع شركة سولفيست التركية في أبريل ويونيو 2022، للتنقيب عن خامات النحاس والذهب في منطقة أبو خشيبة جنوبي المملكة.
– مذكرة تفاهم مع الشركة الأردنية المتكاملة للتعدين والتنقيب في يونيو 2022، لاستكشاف النحاس في منطقة ضانا.
– في يناير 2023 وقعت مذكرتي تعاون مع الشركة العربية للتعدين، للتنقيب عن الليثيوم في منطقة فينان بوادي عربية، وعن الذهب في منطقة جبل مبارك في العقبة.
– بدأت وزارة الطاقة في يناير 2023 التنقيب عن العناصر الفلزية في منطقة سمرة الطيبة في وادي عربة.
– في يوليو 2023 وقعت مذكرة تفاهم مع شركة البوتاس العربية لاستكشاف توفر معدن الليثيوم من مناطق عمل الشركة.
الفرصة السانحة لقطاع التعدين في الأردن
كُشف مطلع العام 2023؛ وفق تصريحات وزير الطاقة والثروة المعدنية صالح الخرابشة، عن نتائج واعدة لعمليات التنقيب عن العناصر النادرة والاستراتيجية من النحاس والليثيوم والذهب بالإضافة إلى الزنك والرصاص في جنوب المملكة. إذ أشارت الاختبارات الأولية عن توفر تراكيز عالية للعناصر الفلزية في منطقة سمرة الطيبة. كما أظهرت نتائج شركة “سولفيست” عن وجود احتياطيات من النحاس في منطقة أبو خشيبة تقدر بنحو 117 ألف طن، وقد تتجاوز المليون طن مع توسيع عمليات الاستكشاف، وهناك آمال واعدة بوجود تراكيز عالية من الليثيوم في منطقة دبيديب، وتُرشح عدد من الدراسات أن البحر الميت يحتوي ما يقرب من 9% من احتياطات الليثيوم غير المعالج عالمياً.
ومن شأن الاستمرار في تحقيق تلك النتائج، ثم المضي قدماً في استخراجها، أن يضع الأردن على خارطة التعدين العالمية، ويساعده على تحقيق تنمية اقتصادية وتكنولوجية لعقود قادمة. فتلك العناصر اليوم مماثلة لحالة النفط قبل عقود مضت؛ تتسابق الدول لاستخراجها والتفوق في استخدامها.
من حيث المبدأ؛ جاء اهتمام الأردن في العناصر النادرة متأخراً مقارنة بدول أخرى تنتجها منذ عقود، أما من حيث التوقيت؛ فإن اللحظة الجيوسياسية الراهنة تتيح لدول جديدة دخول سوق العناصر النادرة وذلك لعدة عوامل من بينها:
أولاً: تشتد الحاجة للعناصر النادرة لوقوعها في قلب التحول التقني والأخضر وتحديداً عنصري الليثيوم والنحاس، فالأول يعد مكون أساسي في الصناعات الخضراء مثل السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والألواح الشمسية، والنحاس يعتبر حجر الزاوية في الكهرباء والصناعات التكنولوجية من هواتف وحواسيب وغيرها. ويعتقد أنه في ظل زيادة الطلب أن يواجه كل من الليثيوم والنحاس نقصاً في المعروض بواقع 50% و80% على التوالي بحلول العام 2030. ووفقاً لدراسة صادرة عن جامعة لوفان الفرنسية، فقد تواجه أوروبا خلال السنوات الـ 15 القادمة “نقصاً حاداً” في الليثيوم والنحاس.
ثانياً: تنخرط الدول الغربية لا سيما الحليفة للأردن والتي تجمعها اتفاقيات تجارة حرة وشراكات اقتصادية معها ببرامج للتحول الأخضر، فقد أصدر الاتحاد الأوروبي في عام 2022 قانوناً يُحظر بموجبه بيع السيارات الجديدة التي تعمل بالوقود بدءاً من عام 2035. ويستهدف قانون “خفض التضخم الأمريكي” الذي وقع عليه الرئيس جو بايدن في 2022، خفض انبعاثات الكربون بنسبة 40% بحلول العام 2030، ويوفر تمويلاً يبلغ 369 مليار دولار لدعم سياسات المناخ وأمن الطاقة.
ثالثاً: توفر المنافسة الجيوسياسية العالمية لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، الفرصة لدول مثل الأردن بالاستفادة من مساعي الدول المتقدمة في البحث عن تنويع مصادرها من العناصر النادرة والاستراتيجية، خاصة بعد أن اختبرت الدول الأوروبية مخاطر الاعتماد على الغاز الروسي إبان الأزمة الأوكرانية، ومعاناتها في تلبية الطلب المتزايد في شتاء ذلك العام. ولذلك يُمكن ملاحظة سعي الدول الغربية إلى توطين قطاعات المناجم والتعدين وتنويع وارداتها منها، فقد أدرجت إدارة الرئيس بايدن سيطرة الصين على سوق المعادن النادرة ضمن تقييمها السنوي للتهديدات عام 2023. ويرجح أن تكتسب تلك الخطوات زخماً مضافاً في ضوء التوترات الجيوسياسية مع الصين بشأن تايوان. فيما تمنع “الاستراتيجية الأوروبية للمعادن الحرجة” دول الاتحاد استيراد أكثر من 65% من تلك المعادن من مصدر واحد.
رابعاً: تقلصت السيطرة الصينية على سوق العناصر الاستراتيجية من 90% إلى 60% حالياً، وهو ما خلق فجوة في السوق قد تستمر لسنوات. لكنها تفسح المجال واسعاً أمام دول جديدة للمشاركة في ملئ الفراغ الناتج عن تراجع الصين.
خامساً: تقدم الولايات المتحدة حوافز للشركات المستوردة للعناصر النادرة والاستراتيجية من البحث عن الأسواق الحليفة لواشنطن، وتلك التي تربطها معها اتفاقيات تجارة حرة، حيث يقدم قانون “خفض التضخم الأمريكي 7500 دولار، لمن يقتني مركبة كهربائية تكون مصادر المعادن النادرة المستخدمة في تصنيعها إما محلية أو من قبل الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، مما يضع الأردن الذي يمتلك اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة منذ عام 2000 في مرتبة متقدمة مُقارنة بدول الاتحاد الأوروبي واليابان التي لا تجمعهما اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
مع ذلك؛ ينطوي استخراج العناصر النادرة والاستراتيجية على تحديات عدة، من جهة تكلفة استخراج تلك العناصر وما إذا كانت ستعود بقيمة مضافة إلى الاقتصاد الأردني، ومن جهة عواقبها البيئية وتداعياتها على المجتمعات المحلية، وهي تحديات على الأردن التعامل والتعاطي معها قبل الحديث عن فوائد عوائد عمليات التنقيب والتعدين.
استخراج العناصر النادرة: التحديات والعواقب والتداعيات
لا يزال الأردن في المرحلة الأولى من مراحل التنقيب والتعدين، حيث يُنتظر ما ستكشف عنه نتائج عمليات التنقيب من موجودات وثروات، ليتم على أساسها استخراج تلك العناصر. وبالتالي فإن البلاد لم تكشف سوى عن قمة جبل الجليد الذي ينطوي التعمق في استكشافه على تحديات ومخاطر بدءا من الاستخراج ومروراً بالتكرير ووصولاً إلى المعالجة. وهي عملية ممتدة ومعقدة تتجنبها حتى الدول الأكثر تقدماً.
وتشمل تلك التحديات على سبيل المثال؛ عواقب التعدين على البيئة وتداعياتها على اقتصاديات وصحة المجتمعات المحلية، وضرورة الحفاظ على بنية تشريعية ومالية تمنع التقلبات في قطاع التعدين المحلي، والتحول في التعدين من الاستخدام الكثيف للعمالة إلى التقنية والتكنولوجية. وتالياً أبرز التحديات الخاصة باستخراج المعادن:
أولاً: من الخام إلى المنتج النهائي
في الواقع فإن العناصر النادرة ليست نادرة كما يُطلق عليها، حيث تمتلك العديد من الدول احتياطات ضخمة منها. لكن صعوبة استخراجها وما يترتب عنها من عواقب هي ما تجعل من تلك العناصر نادرة. وبينما يُعد قطاع التعدين في الأردن فاعلاً منذ عقود إلا أن الطفرة التي يسعى إلى تحقيقها تتطلب موارد ومهارات واستراتيجيات غير تقليدية، من أجل ضمان المضي في الأنشطة التعدينية الواعدة، على عكس الخبرات المكتسبة في تعدين الفوسفات والبوتاس وغيرها من العناصر اللافلزية التي تتمتع بسهولة استخراجها ومعالجتها من الصخور المتكسرة على السطح، فإن العناصر النادرة تتطلب تكلفة وتقنية أعلى، بالإضافة إلى حاجتها لتجريف أطنان من الركام والصخور وبيئة عمل خطرة نسبياً، فضلاً عن تعقيد عمليات الفصل والمعالجة للوصول إلى المنتج النهائي.
على سبيل المثال؛ ينطوي على استخراج كل من النحاس والليثيوم تحديات مختلفة، فالنحاس يتواجد في التكتلات الصخرية ضمن نسبة تراكيز معينة تُشير الدراسات إلى بلوغها 1.36% في منطقة فيفان، و2.33% في خربة النحاس، وهذه النسب هي مؤشر على كمية النحاس المستخرجة من طن من الصخور، وبالتالي فإن الحصول على طن من النحاس، يتطلب تجريف أطنان من الصخور المحتوية عليه، ويخُلف حوالي 99 طن من المخلفات الصخرية والأتربة وغيرها. فيما يعد استخراج الليثيوم أكثر تعقيداً؛ حيث أغلب تواجده في المسطحات الملحية، ومن أجل استخراجه يتم حفر ثقوب في تلك المسطحات وضخ المحلول الملحي على السطح للتبخر.
وبالنسبة للأردن يكمن التحدي الأبرز في عمليات التعدين بأنها تتطلب كميات ضخمة من المياه طوال مراحلها، بما في ذلك بالنسبة لاستخراج النحاس؛ تستخدم المياه للحد من الأغبرة المتصاعدة عن عمليات الحفر والتكسير، وفي تقنية “تعويم الرغوة” وهي الطريقة الرئيسية لاستخراج خامات النحاس، ولاحقاً في حال الحاجة لفصل المعادن النادرة عن المعادن الأخرى. وباستخدام التكنولوجيا التقليدية من خلال أحواض التبخير فإن كل طن من الليثيوم المنتج يتطلب 2.2 مليون لتر من الماء.
وتكمن الإشكالية أن المياه في الأردن هي مورد نادر بالأساس، وبينما يُعد استهلاك قطاع التعدين للمياه عالمياً أقل نسبياً مقارنة بقطاعات أخرى كالزراعة، إلا أنه وفي حالة الأردن سيعتبر قطاع التعدين مستهلكاً كبيراً للمياه خاصة في نظر المجتمعات المحلية حيث تقع أغلب مناطق التعدين في بيئات تعاني من الجفاف. وفي ظروف تأثر الأردن في التغيرات المناخية، فإن أي حديث عن مشاريع تنموية تؤثر على الأمن المائي في البلاد سيكون له عواقب وآثار مستقبلية.
ثانياً: الحوكمة الرشيدة لقطاع التعدين
تعقد الحكومة الأردنية آمالاً واسعة على ما يُمكن أن يحققه استخراج المعادن النادرة من إيرادات مالية لخزينة الدولة. مع ذلك وبالنظر إلى ما تضمنته رؤية التحديث الاقتصادي، فهناك اتجاه لتشجيع الاستثمار في الثروات المعدنية الوطنية، ولهذا سيتم إنشاء منصة إلكترونية للفرص الاستثمارية في قطاع التعدين.
وبالرغم من النتائج الإيجابية لعائدات الاستثمار في قطاع التعدين بالأردن إلا أنه وبالنظر إلى سوق العناصر الاستراتيجية عالمياً، يظهر ميل الدول المنتجة أو المستوردة إلى توطين كافة مراحل استخراج وتكرير ومعالجة تلك العناصر. حيث الدول التي عانت من نقص في التمويل واعتمدت على التمويل الخارجي والاستثمارات الأجنبية أظهرت نتائج إيجابية أقل مُقارنة بالدول التي اتبعت استراتيجيات تأميم وذلك لعدة ـأسباب منها: المرونة في تحديد أسعار تنافسية لسلعها، وإتاحة الفرص أمام تطوير قطاعات التعدين في معالجة العناصر الخام ما يُحقق أقصى استفادة، وكذلك تفادي الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية. حيث تًكثف الدول المتقدمة مطالبها للدول النامية بإنتاج المزيد من العناصر النادرة حتى تدعم تحولها إلى الطاقة الخضراء.
وبالنظر إلى النماذج العالمية فإن الدول التي اعتمدت على الاستثمار في قطاعات التعدين حققت عوائد مضافة أقل، ولا تزال تُعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، سواء في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، فقد صنفت جمهورية الكونغو الديمقراطية والتي تنتج حوالي 70% من الكوبالت عالمياً، ضمن أفقر خمس دول في العالم عام 2022، كما لا يوجد أثر ملموس لأهميتها في سوق التعدين على التنمية والسكان حيث 62% من سكانها تحت خط الفقر الدولي. إذ أن الشركات الكبيرة غالباً ما تستثمر في الدول الناشئة بشكل يُلبي متطلباتها على حساب متطلبات تلك الدول بالإضافة إلى تركز الأرباح في الصناعات التحويلية أكثر منها في عمليات التعدين للعناصر الخام.
ولذلك نجد تحولاً عالمياً نحو تأميم أو تقييد صناعات التعدين، ومن أمثلة ذلك إعلان بوركينافاسو تأميم التعدين في البلاد، وكشف كل من تشيلي والمكسيك عن خطط لتأميم صناعة تعدين الليثيوم، فيما فرضت إندونيسيا قيوداً على تصدير النيكل، وفرضت الصين بدورها قيوداً على تصدير معدني (الغاليوم والجرمانويم) الضروريين لتصنيع أشباه الموصلات في يوليو 2023.
وقد واجه الأردن مؤخراً إشكالية في محطة العطارات التي كان يفترض منها توليد الكهرباء من الصخر الزيتي، لكن أصبح المشروع الواقع في جنوب المملكة عبئاً على خزينة الدولة لما يترتب عنه من شراء الكهرباء بأسعار مُرتفعة تُخلف خسائر بنحو 280 مليون دولار سنوياً من خزينة الدولة طوال مُدة الاتفاق البالغة 30 عاماً، وهو ما دفع الحكومة لطلب التحكيم الدولي في مجلس تحكيم تابع لغرفة التجارة الدولية في باريس، وإذا ما جاء قرار التحكيم لصالح الصين فذلك وفق خُبراء يفرض على الحكومة رفع أسعار الكهرباء على المستهلكين بنسبة 17% لتغطية المدفوعات.
ثالثاً: العواقب البيئية والاجتماعية لعمليات التعدين
ترتبط عمليات التعدين بعواقب بيئية واجتماعية، ويُمكن أن تولد اضطرابات محلية نظراً لما تُلحقه من أضرار في الموارد الطبيعية والبنى الطبيعية، وبسبب حاجتها إلى استهلاك كميات كبيرة من المياه. وفي الأردن الذي فرض وضعه الجيولوجي أن تكون المناطق الغنية في الموارد الطبيعية تعاني من شح في المياه، أو تقع ضمن محميات طبيعية أو في مناطق سياحية، فإن اختيار وتحديد الأولويات يفرض نفسه في عملية صناعة القرار.
ومن الناحية الموضوعية؛ من المحتمل أن تصطدم الخطط الحكومية للتعدين والمعالجة بالحواجز ذاتها التي واجهت سابقاً التحول للطاقة النووية، إذ قوبل مشروع المفاعل النووي الأردني لأغراض توليد الطاقة معارضة شعبية واسعة.
وأحدث الأمثلة على ذلك؛ الجدل الذي رافق إعلان الحكومة التنقيب عن النحاس في منطقة فينان في محمية ضانا الطبيعية والمدرجة على قوائم اليونسكو العالمية، وفي خربة النحاس التي يعود عمرها إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد. وهذا يفاقم من الضغط المفروض على قطاع التعدين بين خيار التضحية في الموارد الحيوية والطبيعية والسياحية أو منح التعدين أولوية عنها، وهو ما يُخلف آثاراً على مئات الأسر التي تستفيد مادياً من مشاريع المحمية التي تقدر عوائدها بـ 3.38 مليون دولار سنوياً وفق التقرير السنوي لمحمية ضانا الطبيعية عام 2020، فضلاً عن عواقب إنتاج وتجهيز الموارد المعدنية البيئية والاجتماعية الأخرى، والتي يمكن أن تضر بالمجتمعات المحلية التي يعتمد جزء منهم على الزراعة والرعي.
وفي الواقع فإن التبعات البيئية والاجتماعية الناتجة عن عمليات التعدين قد تطال التربة والمياه والإنسان، ومن المحتمل أن تعاني المناطق التي تشهد التنقيب والتعدين حالات تلوث لتربتها ومياهها الجوفية فضلاً عن تأثيرها على التنوع الحيوي وعلى طبوغرافية الأراضي لما تنتجه من تشوه بصري جراء عمليات الحفر.
رابعاً: تحقيق الاستقرار المؤسسي والتشريعي في قطاع التعدين
إن تحقيق الاستقرار المؤسسي والضريبي والجمركي أمر هام من أجل جلب الاستثمارات وتحصيل الإيرادات من قطاع التعدين في الأردن، ويُمكن أن تؤدي معيقات الاستثمار بشكل عام وتحديات قطاع التعدين بشكل خاص إلى تثبيط الاستثمارات الأجنبية في العناصر النادرة في الأردن حتى وإن ثبت جدواها الاقتصادية، وهو ما قد يخلق مشاكل مرتبطة بتمويل مشاريع التعدين في البلاد خاصة في ظل عدم اهتمام المنظمات المانحة ومؤسسات التمويل الدولية في قطاع التعدين، ونظرة البعض منها للقطاع بأنه يفرض مخاطر بيئة واجتماعية.
فمن جهة، تضع الضريبة المفروضة على الشركات العاملة في قطاع التعدين أعباء كبيرة على قدرتها في توسعة مشاريعها أو تمويل مشاريع أخرى، حيث تبلغ الضريبة على الأرباح السنوية للشركات حوالي 24%، وبالإضافة إلى أسعار الطاقة ونُدرة المياه، فإن ذلك كله يعود بنتائج سلبية على تشجيع الاستثمار في قطاع التعدين من جهة، وعلى قُدرة الأردن من تحقيق التنافسية العالمية في أسعار العناصر النادرة من جهة أخرى، خاصة إذا علمنا أن الصين عبر سياساتها التعدينية المخالفة في بعض جوانبها لمعايير السلامة والبيئة، تبيع العديد من العناصر النادرة والاستراتيجية بأسعار تقل بنحو 30% عن الأسعار المعروضة عالمياً.
ومن جهة أخرى؛ فإن البنية التحتية الخاصة باستخراج العناصر النادرة والاستراتيجية، ورأس المال البشري العامل في القطاع والخدمات اللوجستية، تتطلب جميعها التأهيل والتطوير لتتناسب مع الطموحات الحكومية لتنمية القطاع.
وأخيراً؛ هناك حاجة إلى إدارة التحديات المرتبطة بالتعدين، من خلال اتباع سياسات توطين وشراكة مع القطاع الخاص والمستثمرين، وبشكل يغطي التكاليف الاجتماعية والبيئية منذ لحظة الاستكشاف إلى إغلاق المناجم، ويضمن مشاركة الحكومة في كافة مراحل التعدين من الاستخراج والمعالجة والصناعات التحويلية والقيمة المضافة، وبالتالي يجب التركيز على إنشاء سلسلة توريد خاصة بالأردن بالشراكة مع المستثمرين والقطاع الخاص، وليس الاكتفاء بتوريد المواد الخام إلى الدول المستفيدة.