بقلم: د.ناصر زيدان – النهار العربي
الشرق اليوم– تُعتبر قمّة حلف شمال الأطلسي “ناتو” التي انعقدت في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، استثنائية بكل المقاييس، وربما تكون الأهم في تاريخ الحلف، إذ لم يحصل سابقاً أن اجتمع أقطاب الغرب بالقرب من موسكو، في قمّة مخصّصة لمواجهة روسيا، وفي تحدٍ واضحٍ لها، وذلك منذ تأسيس “الناتو” في العام 1949 بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى إثر التمايز الذي بدأته موسكو “الستالينية” في حينها، عندما أصرَّت على البقاء في الجزء الشرقي من المانيا، كما في غالبية باقي دول أوروبا الشرقية الأخرى، كتعويض عن خسائرها الفادحة، وعن مساهمتها الفاعلة في هزيمة النازية. وروسيا كانت في الحرب العالمية الثانية شريكة مع أقطاب “ناتو” الحاليين ( الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا) ضدّ دول المحور الذي كانت تتقدّم صفوفه ألمانيا وإيطاليا واليابان.
تعود الحكاية إلى بداياتها اليوم، وبدل جوزف ستالين “الشيوعي المتشدَّد” يتربّع على عرش الكرملين اليوم فلاديمير بوتين الملقّب بـ”القيصر”، وهو يُثير الحيرة، او الدهشة عند الأصدقاء كما لدى الأعداء. وغموض الطموحات الأميركية بعد رفض الرئيس جو بايدن دخول أوكرانيا في عضوية “الناتو”، يقابله غموض مماثل في الرؤى الروسية التي تتراوح بين تهديدات نووية يطلقها صديق بوتين المخلص، ونائبه في رئاسة جهاز الأمن القومي الرئيس السابق ديمتري مدفيديف، وبين إشارات حوارية يطلقها ذراع بوتين الديبلوماسي وزير الخارجية سيرغي لافروف.
مؤتمر “الناتو” الذي حضره 40 رئيس دولة وحكومة في ليتوانيا (من بينهم 9 دول أصدقاء للحلف لا أعضاء فيه) أنجز مجموعة من الرؤى الجديدة، كانت موضع تباين في الفترة السابقة، ومن أبرز الإنجازات: إقناع تركيا بسحب اعتراضها على قبول عضوية السويد في الحلف، وإقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنّ موعد انضمام بلاده إلى “الناتو” لم يحِن بعد، كما حسم المؤتمر مسألة اعتماد صرف 2 في المئة كحدّ أدنى من الدخل الوطني لكل دولة على النفقات الدفاعية.
والأبرز في مقرّرات القمّة؛ تحديد روسيا كمصدر للتهديدات التي تواجه دول الحلف وأصدقاءهم، وهو ما ينسف كل مقرّرات قمّة الأطلسي للعام 2010 في لشبونة والتي حضرها الرئيس الروسي حينها ديمتري مدفيديف، وتمّ التوقيع خلالهاعلى وثيقة تفاهم بين “الناتو” وروسيا، لا تعتبر فيها روسيا عدوة للحلف. كما أنّ تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ على هامش قمّة ليتوانيا؛ دفعت المواجهة بين دول الحلف وروسيا إلى خطوط متقدّمة، فهو قال: “إنّ القوة النووية لدول الحلف جاهزة لصدّ أي عدوان، وإنّ إبقاء بعض خطوط التواصل مع روسيا لا يعني تركها في منأى عن الردع عندما تدعو الحاجة”. والبيان الختامي للقمّة أشار إلى أنّ الحلف وضع خطة دفاعية شاملة لمواجهة روسيا.
إشارة البيان الختامي إلى أنّ الصين ليست عدوة للحلف، يحمل مجموعة من الرسائل، وفيه شيء من توزيع الأدوار بين أقطاب حلف شمال الأطلسي، خصوصاً بين واشنطن ولندن من جهة وباريس وبرلين من جهة ثانية، وهو يناقض إلى حدٍ ما مضمون البيان الختامي لقمّة الدول الصناعية السبع التي انعقدت في اليابان في شهر أيار (مايو) الماضي، وحضرها هؤلاء الأقطاب أنفسهم، وحمل حينها تهديداً واضحاً للصين كما لروسيا على السواء. والإشارة الإيجابية الحالية من الحلف تجاه الصين؛ تحمل تفسيرات عدة، وأهمها، السعي إلى إغراء بكين بعلاقات تعوِّض لها بعض خسائر الإنكفاء عن روسيا تجارياً، ومَنحها فرصة لعدم تطوير موقفها من الحرب الأوكرانية. والصين تقوم بمبادرة لرأب الصدع وإيقاف الحرب بين موسكو وكييف، وفرنسا وألمانيا تحاولان الفصل بين ملف التوتر الدولي حول جزيرة تايوان وملف العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي.
بعد ضمان انضمام السويد، والقبول النهائي لعضوية فنلندا؛ أصبح حلف “الناتو” القوة العالمية الأكبر على الإطلاق، من النواحي الجيو- سياسية، وفي الجانب اللوجستي والتسليحي والتكنولوجي، ذلك أنّ موقع العضوين الجديدين (فنلندا والسويد) يحيط بالجغرافيا الحيوية لروسيا من ناحية الشمال وفي بحر البلطيق، ويعطّل كل إمكان لاستخدام إقليم كالينينغراد في أي مواجهة عسكرية، إضافة إلى كون البلدين يتمتعان بقدرات صناعية وإلكترونية متقدّمة، لاسيما في مجال الأسلحة الخفيفة والتشويش السيبراني.
لا يمكن تجاهل أهمية انعقاد قمة حلف “الناتو” في ليتوانيا بالقرب من الحدود الروسية في هذه اللحظة السياسية والأمنية العصيبة التي يمرُّ فيها العالم، وفي ضوء الحرب الدائرة في أوكرانيا بين قوات حكومة كييف المدعومة من الدول الأوروبية والغربية عامةً وبين روسيا التي تعاني من بعض العزلة الدبيلوماسية الدولية جراء خوضها لهذه الحرب. وتأجيل البحث بطلب كييف للانضمام إلى الحلف؛ لا يعني تخفيفاً للمواجهة المفتوحة بين الناتو وروسيا، بقدر ما يعني تلافي مخاطر الهرولة نحو الانتصار، بينما ما زالت روسيا تتمتع باستقرار داخلي برز بوضوح بعد استيعاب تمرُّد قوات “فاغنر”، ولديها قدرات عسكرية ونووية كبيرة، قادرة على قلب الطاولة ضدّ المقاربات المتسرِّعة التي قد يعتمدها الحلف.