بقلم: راغدة درغام- النهار العربي
الشرق اليوم– اعتمد حلف شمال الأطلسي “ناتو” في قمّته الأخيرة، خطّة عمل عسكرية وسياسية واستراتيجية، عمليّة في خطواتها، طموحة في تطلّعاتها، ذكية في الاستقطاب، ومخيفة في نهاية المطاف، لأنّها كرّست الحلّ العسكري مع روسيا خياراً وحيداً، واستبعدت فعلياً الحلول الديبلوماسية. فماذا ما بعد القمّة المصيرية التاريخية التي انعقدت في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا الأسبوع الماضي؟ ومَن هم المستفيدون والخاسرون من المواجهة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا؟
لنبدأ بالعناوين الكبيرة في وصف مكانة حلف “ناتو” في هذا المنعطف من الزمن. قبل محطة فيلنيوس، كان الناتو حلفاً لدول شمال الأطلسي يضمّ 31 دولة. بعد القمّة الأخيرة، واضح أنّ لدى “ناتو” مشروع تطوير تحوّله إلى حلف عالمي Globalization of NATO من أجل “تأقلم التحالف مع المستقبل”، كما قال الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرغ في اختتام القمّة، مشدّداً على أهمية قرارات “تعميق الشراكات حول العالم”.
بالتزامن مع قمّة حلف شمال الأطلسي، ترأس ستولتنبرغ اجتماعاً للحلفاء مع قادة أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، وقال إنّ “الناتو عبارة عن حلف إقليمي، إنما التحدّيات التي نواجهها عالمية”، في إشارة إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، وإلى حزم الصين المتزايد، بحسب تعبيره.
عولمة الـ “ناتو” تطوّر فائق الأهمية في موازين العلاقات الدولية ومستقبلها على المدى القريب والبعيد، تترتب عليه تداعيات وربما عواقب. أحد الخبراء المراقبين عن كثب للعلاقات الآسيوية- الأوروبية- الأميركية، وصف الانفتاح بين الـ “ناتو” والدول الآسيوية التي بدأت تتحرّك رسمياً نحو توطيد العلاقات، أنّه عبارة عن “إنشاء كتلة عسكرية هي عملياً ناتو-آسيوية، مهامها أن تتصدّى بالعداء لكل من الصين وروسيا”.
اليابان تقع في طليعة الدول التي تُعتَبر معادية للصين، ثم أنّ شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، تثير كوريا الشمالية المتأهّبة دوماً للاستفزاز… صاروخياً ونووياً.
النمط الذي اعتمدته قمم حلف شمال الأطلسي في تصنيف روسيا والصين في خانة العداء، يجازف في دفع القيادتين إلى التقارب بصورة قد تخلق مشاكل كبيرة لدول الـ “ناتو”. الرئيس الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين قد يجتمعان معاً في قمّة دول “البريكس” في أواخر آب (أغسطس) المقبل، إذا حضرها بوتين، وقد يتواصلان بتوقيت أبكر، نتيجة قرارات قمّة فيلنيوس، كما قال مصدر مقرّب من الكرملين، بسبب العقيدة والاستراتيجية الجديدة لحلف شمال الأطلسي، التي يمكن وصفها بأنّها “المسؤولية العالمية للناتو”، بما يتعدّى مواجهتها مع روسيا.
التحدّي المباشر هو المواجهة مع روسيا، بالرغم من تضمّن بيان قمّة الـ “ناتو” لغة تتجنّب التحدّث عن المواجهة مباشرة. فمنطق القمّة، هو أن لا مجال للحياد، ولا لاستئناف العلاقات مع روسيا، ولا لتلبية أي من شروط بوتين ذات العلاقة بتوسيع عضوية الـ “ناتو” أو بالتمهيد لعضوية أوكرانيا لاحقاً، فيما تتلقّى أوكرانيا ضمانات أمنية غير مسبوقة.
منطق القمّة هو أنّ العقوبات على روسيا مستمرة، وأنّ الدعم العسكري لأوكرانيا سيتزايد، وأّن دول الحلف جاهزة للمواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا، وأن لا مجال لإصلاح العلاقات بين الدول الغربية وروسيا، وأنّ التوتر سيتعاظم عبر الدول المجاورة مثل بولندا وكذلك بيلاروسيا.
أطاحت قمّة فيلنيوس حلم الرئيس فلاديمير بوتين في أن يتفكّك التحالف ويضعف، لأنّ درجة التماسك والوحدة داخل الـ “ناتو” اليوم أقوى مما كانت على الإطلاق- هذا سيئ للكرملين. والأسوأ هو ما حصل عليه رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي من القمّة، وخلاصته أنّ أوكرانيا زحفت إلى الحضن الرسمي لحلف شمال الأطلسي. هذا كارثي لموسكو. ثم أنّ هذه القمّة أسدلت الستار على الردّ السياسي على روسيا، لأنّ إجابة الـ “ناتو” واضحة تماماً في ردّه العسكري على حرب روسيا في أوكرانيا، بعيداً من الديبلوماسية.
قيادة الناتو العسكرية ترفض ارتداء القفازات البيضاء في أوكرانيا، فيما المؤسسة العسكرية الروسية تطالب الرئيس بوتين بخلع القفازات البيضاء، من أجل الانتصار في الحرب الأوكرانية- أو أقلّه تجنّب الهزيمة. هذه المؤسسة ازدادت غضباً بعد قمّة فيلنيوس، وبات جليّاً أنّ الضغوط على فلاديمير بوتين تزداد ليكون شرساً، على نسق ما يتحدّث به ديمتري ميدفيديف، رئيس روسيا الأسبق، بلغة الاستباق نووياً.
ميدفيديف، وهو حالياً نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، يدقّ ناقوس الخطر النووي تكراراً، لكنه هذه المرّة، وفي تصعيد غير مسبوق، قال إنّ “الحرب العالمية الثالثة تقترب”، وإنّ إنشاء المجلس المسمّى “أوكرانيا- ناتو” سينتهي وجوده لدى “زوال أحد الطرفين”.
ميدفيديف ليس هامشياً في المشهد السياسي الروسي، بل هو في قيادة الذين يدعون إلى إجراءات نووية استباقية تغيّر مجرى الحرب الروسية في أوكرانيا، تدعمه في ذلك جهات فاعلة في المؤسسة العسكرية وجزء مهمّ من الرأي العام، بحسب استطلاعات أخيرة، إنما ليس الأكثرية.
المواقع النووية المهمّة لروسيا تشمل كالينينغراد والقرم وبيلاروسيا، حيث ممتلكات روسيا النووية. زاباروجيا تبقى أخطر موقع لما قد يُقال إنّه “حادثة” نووية، علماً أنّ المفاعل يقع في الأراضي الأوكرانية التي ضمّتها روسيا السنة الماضية. هناك تقع نقطة الاحتكاك والانطلاق لأولئك الذين يعتبرون أنّ لا مناص من حرب نووية استباقية تنهي الحرب الروسية- الأوكرانية من دون هزيمة روسيا- والمؤسسة العسكرية الروسية غاضبة ومتأهّبة، بالذات على ضوء ما حدث قي قمّة حلف شمال الأطلسي الأخيرة.
تركيا جزء مما حدث، بصورة أثارت امتعاض روسيا، ليس فقط بسبب تراجعها عن معارضة انضمام السويد الى حلف ناتو- أو أقلّه المماطلة في الموافقة- وإنما أيضاً بسبب ما حمله فولوديمير زيلينسكي معه عائداً إلى أوكرانيا مع انتهاء زيارته إلى أنقرة واجتماعه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كان مؤلماً لروسيا قرار تركيا تحرير قادة وعناصر مجموعة “آزوف” التي قاتلت الروس في ماريوبول بضراوة، وكان الألم مضاعفاً- على الأرجح- لفلاديمير بوتين، أمام قرار أردوغان بإعادة هؤلاء على طائرة زيلينسكي نفسها، لأنّ العلاقة الشخصية بين الرجلين تحوّلت إلى ركيزة مهمّة في العلاقات الروسية- التركية في زمن الحرب الأوكرانية. روسيا في حاجة إلى تركيا لتنظيم الملاحة وحركة العبور الروسية من المضائق التركية، وهي تشكّل متنفساً اقتصادياً فائق الأهمية لروسيا في زمن العقوبات.
لم تكن قصة “آزوف” الصفعة الوحيدة، وإنما رافقها قرار تركيا بإنشاء مصنع للطائرات المسيّرة في أوكرانيا تحمل اسم “بيرقدار”، قال مصدر روسي اشترط عدم ذكر اسمه، إنّ موسكو تعتبره “قراراً عائلياً” للرئيس أردوغان وصهره سلجوق بيرقدار.
الأهم، هو الاستدارة الاستراتيجية للرئيس التركي نحو توطيد العلاقة مع الغرب بشقّي الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي الذي وعدت السويد بالمساعدة في انتماء تركيا إليه. هذا إلى جانب إبرام صفقة F-16 مع الولايات المتحدة، والتي تقضي عملياً على صفقة S-400 الروسية- التركية.
الرئيس الروسي مُحرَج، وهو في موقع انتقادات المتشدّدين الذين يعتبرون “ليونته” مع تركيا في غير صالح روسيا، وهم الآن يريدون منه رفض طلب أردوغان باستمرار صفقة الحبوب التي يرعاها بين روسيا وأوكرانيا، والتي تنتهي مهلتها وصلاحيتها في الأيام المقبلة في 18 تموز (يوليو) الجاري. الأرجح أن لا تتراجع روسيا عن شروطها المتعلّقة بتمديد صفقة الحبوب، بعدما صعّدت علناً وفي المحافل الدولية، وهذا سيزيد من التوتر في العلاقات الروسية- التركية.
الرئيس بوتين يقع بين صعوبة انصياعه لمطالب المتشدّدين، لاسيما داخل المؤسسة العسكرية، وبين عدم تلبية شروطهم وما يترتب على ذلك من ضغوط داخلية. إنّها ورطة صعبة، قد لا تكون بصعوبة ورطة الضغوط عليه لاعتماد منطق العمليات الاستباقية النووية- لكنها ورطة لم يكن في حاجة إليها في هذه الفترة الدقيقة لروسيا ولمستقبله.
وهكذا، لم يكن كافياً لآلام روسيا أن تحصل أوكرانيا على ضمانات وامتيازات أمنية واستراتيجية من حلف شمال الأطلسي، وإنما نجحت قمّة الـ “ناتو” باستراق تركيا من آمال روسيا بها.
ماذا ستفعل روسيا؟ إنّها تتوعّد، بالتأكيد، بالانتقام من استفزازات الـ “ناتو” التصعيدية، وقراراتها المصيرية عبء ضخم على أكتاف الرئاسة الروسية.