بقلم: حسن أبو طالب- صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم– قبل ساعات قليلة سبقت وصول وزيرة الخزانة الأميركية إلى بكين، للتفاهم حول إدارة منافسة اقتصادية من دون مواجهة منزلقات كبرى، ألقى الرئيس شي جينبينغ كلمة أمام قادة الجيش الصيني، في موقع قريب من تايوان، حثهم فيها على الاستعداد للحرب، مبرراً الأمر بأن العالم تسوده اضطرابات كثيرة، وأن البلاد تواجه تهديدات قوية. في كلمته استخدم الرئيس شي تعبيراً ذا مغزى، داعياً القادة العسكريين إلى أن يتجرأوا على الحرب، والدفاع عن السيادة الوطنية والأمن. والجرأة لا تخلو من المبادأة، كما تتضمن قدراً من المغامرة بفعل كبير له أثمانه، كما له عوائده المقدرة، ويتوقف الأمر على كيفية المبادأة وحجم الاستعداد لها والتمهيد الجيد سياسياً وعسكرياً ودعائياً. فهل دعوة الرئيس شي تعد تمهيداً لتحرك عسكري كبير، أم أنها دعوة كلاسيكية تُقال في مثل هذه اللقاءات؟
كثير من تصريحات الرئيس الصيني تكشف عن إدراك متعدد الأبعاد؛ جميعها تدور حول حماية الصين ووحدة أراضيها ونموذجها الاجتماعي الاقتصادي ونفوذها العالمي المتصاعد تدريجياً، والتعامل مع التهديدات؛ سواء في الجوار الإقليمي المباشر، أو على الصعيد العالمي كله. هذه الحماية غير القابلة للنزاع تتطلب -وفقاً للرئيس شي- امتلاك قدرات عسكرية خاصة تتجاوز مفاهيم الحروب التقليدية، من حيث القدرة على تصنيع واستخدام الأسلحة الذكية في كافة الفروع، والاستعداد للحرب السيبرانية الموسعة، واستعادة تايوان للأرض الأم سلماً إن أمكن، وحرباً إن تعذر الأمر، وبناء نموذج للردع الاستراتيجي الشامل يمنع التورط في الحرب، اللّهم إذا كان قرار الحرب لا مفر منه ولا بديل له.
مفهوم الردع الشامل المانع للحرب -وفقاً للرئيس شي- يبدو بعيداً عن تحقيق أهدافه حتى الآن؛ بل إنه يجلب رد فعل عكسياً بخاصة لدى البلدان الآسيوية المتخوفة من صعود القوة العسكرية الصينية التي أصبحت الثالثة عالمياً، بموازنة تفوق 320 مليار دولار. كذلك بالنسبة لتايوان التي تجد التحفيز والدعم المُعلن من قبل الولايات المتحدة، للاستمرار في تجاهل المطالب الصينية بالخضوع للوطن الأم، وتعزيز النزعات الانفصالية تدريجياً، وهو تحفيز يعبّر عن نفسه في أربعة مسارات متشابكة؛ أولها مسار دبلوماسي يعلن الالتزام بسياسة صين واحدة؛ لكنه ضد أن يتم ذلك بوسائل عنيفة، وثانيها مسار الدعم العسكري وبيع الأسلحة بزعم تعزيز قدرات تايوان الدفاعية لغرض الدفاع عن النفس، وثالثها مسار الزيارات لكبار المسؤولين والنواب الأميركيين لتايبيه، ما يشكل دعماً معنوياً وعملياً لمبدأ الاستقلال عن الصين الأم. ورابعها مسار التحركات العسكرية البحرية في المنطقة البحرية الفاصلة بين جزيرة تايوان والأرض الصينية وبحر الصين الجنوبي؛ فضلاً عن التحالفات مع دول آسيوية لمحاصرة الصين.
هذا السلوك الأميركي يجسد غموضاً متعمداً تجاه ما تعتبره الصين أمنها القومي ووحدتها الإقليمية غير القابلة للتنازل، وهو غموض يتكامل مع الاستراتيجية الأميركية الكبرى تجاه الصين، والتي تتحدث عن تنافس مفتوح ولكنه منضبط لا يسمح بالانزلاق لمواجهات كبرى، وذلك عبر آليات حوار بين مسؤولي البلدين، وتبادل منافع في مجالات محددة، لا تضر التفوق الأميركي، لا سيما صناعة الرقائق الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، والحاسبات الفائقة السرعة، والمواد ذات الطبيعة المزدوجة. والمثير للدهشة هنا أن تعبِّر وزيرة الخزانة الأميركية عن امتعاضها من قرارات بكين بفرض عقوبات على بعض الشركات الأميركية، تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل، في الوقت ذاته الذي تستمر فيه واشنطن بفرض عقوبات مباشرة وغير مباشرة على كثير من الشركات الصينية الكبرى، وترى الأمر مشروعاً لأنه يحمي المصالح الأميركية، ويتوافق مع نهج العقوبات المفروضة على دول مختلفة تتعامل معها شركات صينية، وهي العقوبات التي ترفض واشنطن رفعها حتى لو كان ثمن ذلك استعادة الاتصالات العسكرية بين الجانبين، وهي المقايضة التي طلبتها بكين ورفضتها واشنطن.
جوهر السياسات الأميركية على هذا النحو لا يستبعد احتمال التورط في مواجهة عسكرية كبرى مع الصين، ما يستدعى القلق والاستعداد لأمر جلل؛ لكن الإمكانات الراهنة لا تسمح بذلك، ومن ثم فتأجيل المواجهة يصبح هدفاً في حد ذاته إلى حين تتبدل الأمور، وتستقر أكثر التحالفات الأميركية مع القوى الآسيوية الكبرى القلقة من صعود القوة العسكرية الصينية. ويكشف الجدل الذي يثور بين الحين والآخر حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه الولايات المتحدة، إذا ما قررت الصين ضم تايوان بالقوة، معضلة استراتيجية كبرى. فهل ستواجه القوات الأميركية نظيرتها الصينية من أجل تايوان؟ وما هو الهدف من هذه المواجهة التي قد تتطور إلى أبعد من مجرد احتفاظ تايوان باستقلالها الراهن؟ والمؤكد أنه لا يوجد وضوح استراتيجي أميركي بشأن حجم التورط العسكري المباشر لحماية تايوان.
الإدراك الصيني لهذه المتغيرات يتسم بالوضوح، من حيث استيعاب حجم التلاعب الأميركي بحقائق الوضع الصيني، ولكنه أيضاً لا يستبعد مواجهة تحديات كبرى إذا أصبح خيار الحرب لا مفر منه. فتايوان التي لا يُحتمل التنازل عنها، تشكل تهديداً لأمن الصين إذا توفرت مساحة زمنية طويلة تتدعم فيها التوجهات الانفصالية مصحوبة بتعزيز القدرات الدفاعية بأسلحة أميركية حديثة. وهنا يشكل عنصر الزمن عامل ضغط على بكين، يجب التعامل معه بمزيج من الحذر والحكمة.
والشيء الأكثر قلقاً بالنسبة إلى بكين يتعلق بمدى التورط الأميركي في أي عمل عسكري يخص تايوان، فإذا كان ضم تايوان هدفاً كبيراً، فإن المواجهة العسكرية المفتوحة مع الولايات المتحدة مُحملة بتهديدات ومخاطر كبرى تتجاوز الصين نفسها إلى الأمن العالمي، لسنوات طويلة يصعب حسمها. وبالتالي فإن الجرأة على البدء في حرب -كما يدعو الرئيس شي جينبينغ- ليست مطلقة، فهي تخضع لحسابات معقدة للغاية ومتشابكة مع اعتبارات مختلفة محلية وعالمية. أما الاستعداد للحرب أياً كان حجمها ودوافعها فهو أمر مفهوم، قيمته الرئيسية تكمن في نظرية الردع الاستراتيجي الشامل. في الحالة مع الولايات المتحدة، فهي رسالة لعل المخططين الاستراتيجيين الأميركيين يدركون حجم إصرار الصينيين على حماية أمن بلدهم ووحدة أراضيه، وبالتالي قد يتراجعون ولو تدريجياً عن سياسة حفز الانفصال التايواني وإعلان الشيء والفعل بنقيضه.