بقلم: ناصر زيدان- النهار العربي
الشرق اليوم– كانت ألمانيا على الدوام مركز نقطة البيكار في المحطات الهامة التي حصلت فيها حوادث كبرى في أوروبا، منذ الحروب الطاحنة في النصف الأول من القرن السابع عشر، وفي حرب عام 1812 مروراً بالحرب العالمية الأولى عام 1914، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية التي انطلقت في عام 1939. وللدولة المهمة التي تقع في وسط القارة الأوروبية مميزات تفاضلية تمنحها عناصر قوة، ومن هذه المميزات الترابط العرقي، والقوة الاقتصادية (رابع أقوى اقتصاد في العالم) وعدد سكان يصل إلى حد 85 مليوناً، ولهم امتدادات قربى وروابط “جرمانية” في عدد من الدول المحيطة.
مع مرور أكثر من عام و4 أشهر على اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحركت ألمانيا بقوة على مسرح الحوادث، بعدما كانت واحدة من عداد الدول الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي المؤيدة لأوكرانيا في مواجهة ما يسمونه “الغزو الروسي”. ولعلَّ احتضانها المناورات الأكبر لحلف “الناتو” على أراضيها الشاسعة؛ إشارة واضحة إلى الدور المتقدم الذي بدأت تأخذه في سياق تطور الحرب الأوكرانية، وعلى مستوى التحديات التي قد تواجه أوروبا والعالم في ما بعد، باعتبار أن مسار الحوادث ما زال يأخذ طابعاً تصاعدياً، لا سيما بعدما أصبحت بعض المُسيّرات والصواريخ تطال الأراضي الروسية، كما أن تفجير سد نوفا كاخوفكا في جنوب أوكرانيا رفع منسوب المواجهة، كذلك المناورات التي أجرتها روسيا انطلاقاً من إقليم كالينينغراد الذي يقع في وسط شمال أوروبا.
يبدو واضحاً أن ألمانيا خرجت من القيود التي كبّلتها فيها اتفاقيات ريمس في 7 أيار (مايو) 1945 وبعد هزيمتها في الحرب، وهذه القيود منعتها من تطوير أسلحة هجومية، ومن بناء جيش قوي. لكن الحلفاء الذين يشرفون على تنفيذ قيود الهزيمة التي حلَّت بألمانيا في الحرب العالمية الثانية؛ هم ذاتهم حلفاؤها اليوم، ويهمهم أن تأخذ برلين دوراً محورياً في الصراع الدائر في أوروبا في مواجهة روسيا، وفي ذلك يصيبون عصفورين بحجرٍ واحد؛ من جهة يضمنون مساهمة فائض قوة تمتلكها ألمانيا من نواح مختلفة في ميدان المواجهة، ومن جهة ثانية يحصلون على تساو في فرص الاستثمار معها في مجالات عديدة، بعدما كان النمو في ألمانيا متفوقاً على باقي جيرانها الأوروبيين، وحتى على الولايات المتحدة الأميركية، نظراً إلى الانفتاح الذي كانت تتمتع به ألمانيا على أسواق العالم قاطبةً، بما في ذلك على الصين التي تعتبر شريكها التجاري الأول، لأنها لم تكن دولة مواجهة.
المناورات العسكرية لحلف شمالي الأطلسي في ألمانيا (12 إلى 23 حزيران/يونيو)؛ لها دلالاتها المهمة، من حيث الشكل، لأنها تجمع مشاركة دول الحلف كافة، إضافةً إلى فنلندا العضو الجديد في الحلف والسويد التي تنتظر قبولها بعد تذليل عقبة اعتراض تركيا، والدولتان جارتان لروسيا. ومن حيث النوعية، باعتبار أن المناورات تختبر قدرة أسلحة دول الحلف على التعامل الحديث مع التقنيات العسكرية المتطورة، بما في ذلك التصدي للطائرات المسيَّرة، وللصواريخ الفرط – صوتية التي تستخدمها روسيا بإتقان.
ويشترك في المناورات ما يزيد عن 250 طائرة حربية من أحدث الطرز الغربية، والأميركية على وجه التحديد، لا سيما من نوع أف-15 وأف-16 المعدَّلة، وأكثر من عشرة آلاف ضابط وجندي ومئات العربات المدرعة.
المستشار الألماني أولاف شولتس أكد أن المناورات ليست موجهة ضد روسيا، وهدفها اختبار القدرة على حماية دول حلف الناتو من أي عدوان خارجي، لا سيما بواسطة الدفاعات الجوية، ووزير الدفاع الألماني بوريس بوستوريوس اعترف بخلل في مجال الدفاع الجوي، لأن دول الحلف لم تجرِ تدريبات كافية منذ 30 عاماً، لكنه طالب بإطلاق مبادرة أوروبية للسلام، توفر على القارة مجهودات حربية كبيرة، يمكن استثمارها في تنمية اقتصادية مفيدة أكثر للأوروبيين.
ورغم هذه التأكيدات الألمانية بعدم استهداف روسيا من هذه المناورات؛ لكن الوقائع تشير إلى غير ذلك، إذ للمرة الأولى لم يتم إخطار روسيا مسبقاً بإقامة المناورات، كما جرى التقليد سابقاً منذ أيام الحرب الباردة، كما أن الابتعاد من إقليم كالينينغراد الروسي بالقرب من الحدود الألمانية والبولندية؛ لا يعني أن المناورات لا تهدف إلى وضع خطط لتقويض مكانة الإقليم العسكرية بالنسبة إلى روسيا، كونه مقرّ قيادة أسطول البلطيق الذي يعتبر أقوى الوحدات البحرية في روسيا.
عقدت ألمانيا آمالاً كبيرة على المبادرة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية، نظراً إلى العلاقة التجارية والسياسية المقبولة التي تربط البلدين، ولعبت برلين دوراً مشجعاً لهذه المبادرة، علها تُنقِذ القارة من الأخطار التي تواجهها جراء استمرار الحرب، لأن أوروبا تدفع الثمن أكثر من غيرها باستمرار التوتر. لكن المعطيات المتوافرة حتى الآن لا تُبشِّر بخيرٍ قريب، والمناورات الأطلسية المتتالية ليست إشارة باتجاه السلام.