الشرق اليوم- تتكاثف علامات الاستفهام حول مستقبل المرجعية الدينية العليا في العراق، وخاصة في ظل الوضع الصحي للمرجعية الحالي آية الله علي السيستاني، ورغم محاولات الدولة العراقية دعم صعود مرجع عربي، إلا أن جهودها لم تفلح بذلك؛ لأن تقاليد المرجعية لها علاقة بالأعلمية أولاً، وثانيًا ليس من تقاليدها الأخذ بالعرق سببا لها.
تاريخ الخلافة المرجعية
يكمن الفرق بين المرجعية الدينية بصفتها مؤسسة دينية وغيرها من المؤسسات الدينية حول العالم، بأن تصدُّر المرجع لا يكون بالانتخاب ولا بالتعيين، بل عن طريق المقبولية من حواضن التقليد، وترميز من جماعات المصالح العلمائية والاقتصادية وجماهير العامّة، فالتصدر للمرجعية الدينية يزعمه كثير من رجال الدين.
تأسست المرجعية الدينية في بغداد على يد محمد بن محمد النعمان، وهو عربي من منطقة عكبرى، ولم يُعرف آن ذاك أن هناك أزمة في خلافة مرجعية المذهب، ثم انتقلت المرجعية إلى النجف قبل ألف عام، عندما أعاد تأسيسها هناك محمد بن الحسن الطوسي، المعروف بـ”شيخ الطائفة”، وذلك بعد النزاع الطائفي في العهد السلجوقي، ويمكن اعتبارها منذ ذلك الوقت جامعة متفردة للفقه الإمامي، ومركزًا للحوزة الدينية ومقرًا للمرجعية.
فما هي الحوزة العلمية؟
هي جامعة لتدريس العلوم الإسلامية والفقه والعقيدة، وهي امتداد لمدرسة الإمام جعفر الصادق التي أسسها في المدينة المنورة، وحاضرتها الكاظمية حيث نقل مدرسة بغداد الفقهية ومدرسة الكاظمية العقائدية إلى النجف.
ويلقب زعيم الحوزة العلمية بالمرجع الأعلى، وذلك بعد أن تنطبق عليه شروط عديدة أهمها الأعلمية، ويلقب بعدها الفقيه بـ (آية الله العظمى) ويعادل بالدراسات الأكاديمية لقب بروفيسور، وأعلم من يحمل هذا اللقب يعلن عن تتويجه بالمرجعية ويصبح المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة وولي أمرهم.
شروط التصدر للمرجعية
تميزت مسيرة المرجعية الدينية في حوزة النجف، ببعدها عن التقسيمات القائمة على “العرق”، فهناك مراجع دينية عربية وأخرى إيرانية ومن أصول أذرية وباكستانية وأفغانية؛ وهذا التنوع “العرقي” لم يكن عائقاً أمام وصولهم إلى سدةِ “المرجعية”، لأن أهم ما يتوجب توافره في “مرجع التقليد” إضافة للمستوى العالي والمتخصص من العلم والفقاهة، هو حيازته على درجة عالية من الزهد والأخلاق ونقاء السيرة والبعدِ عن الملذات الدنيوية، إضافة لحسنِ التدبير.
ولخصّت دراسة للباحث محمد السيد الصياد، الشروط التي ينبغي توفرها فيمن يتصدر للمرجعية العليا، وفقا للفقهاء والأصوليون الشيعة، في حين أن بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف حوله، وأبرزها:
1- الأعلمية والشياع:
حصر بعض فقهاء الشيعة الأعلمية في الفقه والأصول، في حين توسع آخرون وجعلوها في جميع المعارف الدينية لا خصوص مسائل الحلال والحرام، وما يسمى بالأحكام العملية المصطلح عليها في الحوزات العلمية بالفقه.
وتُعرَف الأعلمية بطريق الشياع بين أهل العلم والعامة، فيشيع بينهم أن الأعلم هو فلان، كما حدث مع المرجع السيستاني المعاصر، عندما روَّج له بقوة صهره ووكيله العامّ جواد الشهرستاني، وغيره من رجال الدين، مثل محمد باقر الأيرواني، ومحمد حسين فضل الله.
2– نسج شبكة العلاقات:
ثمة عوامل أخرى، شخصية وسياسية واقتصادية ليتبوأ المجتهد المرجعية الدينية، فشبكة العلاقات التي ينسجها رجل الدين من حوله مهمة لتعزيز شرعيته بين الجماعة العلمائية، ومثاله ما جرى من ترويج لمرجعية السيستاني من قِبل مؤسسة الخوئي، إذ أسهمت المؤسسة في ترسيخ مرجعيته في العالم الشيعي.
3- البُعد السياسي:
لم تكن السياسة بعيدة عن مسألة تصدُّر المَراجع والتأثير في عملية الاختيار، ولكن يكمن الفرق الجوهري بين المرجعية الدينية وولاية الفقيه في حين أن الذي يهيمن على مرجعية النجف هو من يؤمن بما تعرف بالولاية الحسبية التي تبنى على أن المرجعية ليس لديها بساطة اليد على التصرف بأمور المسلمين خاصتها (السياسة)، وإنما التصرف بما دل عليه الدليل ومنها قبض الحقوق الشرعية، والتصرف بها والإفتاء بأمور المسلمين، أما ولاية الفقيه فهي تؤمن بأنها تنوب عن الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر لدى المسلمين الشيعة الاثنا عشرية، وهو محمد بن الحسن بن علي المهدي ويعود نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما)، ولها الحق في التصرف بجميع أمور المسلمين.
4- دعم التجار ورجال الأعمال:
للتجار دور مهمّ في الحياة السياسية، وكذلك في المشهد الديني والحوزوي، وهم منذ النشأة الأولى للحوزة عامل رئيسي في اختيار المرجع، وجزء من نظام الغربلة الذي يفرز المتصدر للمرجعية، ويحدد الأعلمية.
إذا فإن للتجار ورجال الأعمال دور كبير، فقد حصلت تحولات في العائلات المرجعية وهيكلة الدولة الحديثة، فمسألة الأموال لم تعُد منحصرة في التجار الكبار، بل هناك مؤسسات اقتصادية، وشركات محلية ودولية، وفاعلون من الدول والأفراد والجماعات، إضافة إلى تمركز رؤوس الأموال في العائلات المرجعية أيضًا، وقدرتها على تأسيس مؤسسات مالية تدرّ دخلًا دائمًا على الحوزة والمرجعية، وبالتالي فإن دَوْر التاجر لم يعُد كما كان في السابق.
5- التمرد على الأعلمية:
انتقد عدد من فقهاء الشيعة شرط الأعلمية، ولديهم نظرية خلافية لا إجماعية، إذ لم تكن موجودةً في العصر الشيعي الأول، ولم تكن مُتداوَلة قبل العصر الصفوي وبداية تمركز المؤسسة الدينية الشيعية. فالمرجع محمد حسين فضل الله يقول في نقد الأعلمية: “إنني لا أقول باشتراط الأعلمية في المجتهد الذي يرجع الناس إليه في التقليد، لأنه لا دليل في نظري على شرط الأعلمية، بل صح عندي أن الشرط هو الاجتهاد والخبرة المنطلقة من الممارسة الطويلة، كما أنني لا أرى واقعية للأعلمية، فليس في العالم كله في أي علم من العلوم من يمكن أن يشار إليه بأنه أعلم الناس جميعًا في هذا المجال أو ذاك”.
ويبدو أن الخلاف نظريّ، لأن المَراجع عمليًّا لا يمنعهم أحد من التصدر، حتى مع وجود مرجع أعلى مشهود له بالأعلمية والكفاءة.
من سيرث المرجعية بعد السيستاني؟
يبلغ آية الله علي السيستاني العقد التاسع من عمره، وهذا ما يدفع كثيرون إلى الحديث عن خلافته في هذا الظرف الصعب، والتنافس بين مراجع التقليد والمراجع، الذين يمكن اعتبار غالبيتهم منهم بالسياسيين، ولديهم تأثر كبير بـ “ولاية الفقيه”. وبطبيعة الحال، ليس هناك من ينفي رغبة طهران أن يبرز مرجع داخل النجف متوافق معها، فكرًا وتوجهًا سياسيا.
كذلك، للأحزاب الدينية مراجعها، من تلاميذ محمد باقر الصدر، ومحمد محمد صادق الصدر، وهؤلاء يطرحون أنفسهم بصفتهم مراجع وآيات الله، وبعضهم يتحدث ضد المرجعية الدينية الحالية، ويُشيرون إليها بـ”الساكتة” أو “الصامتة”، على أن المرجعية التي ينشدونها هي المرجعية “الحركية” أو ما يُطلق عليها بـ”الرشيدة” وهذا نقاش نشط إبان حياة محمد باقر الصدر.
كما أفاد تحليل لصحيفة ” The Independent” بأن هناك ثلاثة مراجع كبار حول السيستاني، هم إسحاق الفياض (أفغاني الأصل) وبشير النجفي (باكستاني الأصل) ومحمد سعيد الحكيم (عراقي)، وكلهم يحملون صفة آية الله، واتخذوا من النجف مقاماً ومستقراً تقرباً لمرقد علي بن أبي طالب أولاً، وللدرس في الحوزة النجفية التي تضم آلاف الطلبة، إذ ازدادت أعدادهم بشكل كبير بعيد سقوط النظام السابق، وتوسع شواغل تلك الجامعة الدينية والخدمات التي تقدمها وملايين الزائرين إليها طيلة العام لزيارتها وكربلاء اللصيقة بها حيث مرقد شهداء كربلاء الإمام الحسين بن علي سبط رسول الله وأخيه العباس نجل علي رضي الله عنهم أجمعين.
هذا الواقع الذي تعيشه النجف يمثل تطوراً استثنائياً له نتيجة مدخلات ومخرجات متسارعة في حياة هذه المدينة المنقسمة بين عروبتها وعالميتها فهي من جانب مدينة عراقية تحكم بقوانين الدولة العراقية، ومن جانب آخر تطورت مرجعيتها لتكون لكل المسلمين الشيعة في العالم، لا سيما إيران التي لديها مرجعية خاصة بها، ومشروعاً شيعياً يُحكم بنظام (ولاية الفقيه) المختلف كلياً عما يؤمن به العراقيون وأتباع مرجعيتهم.
ويشار إلى أن هناك أكثر من 40 عالم دين يقدمونَ دروس “البحث الخارج” في حوزة النجف، أي تلك العلومَ الفقهية والأصولية التخصصية العُليا، التي تعادل درجة “الدكتوراه” في الجامعات النظامية؛ وهي المرحلة التي يُفترض أن من يتصدى لها من يحوزُ درجة “الاجتهاد”، وإن اختلفت مستوياته وعمقه من عالمٍ لآخر.
وقسم الكاتب حسن المصطفى، في مقاله لشبكة “العربية” مراحل ما بعد السيستاني إلى ثلاث طبقات رئيسية، وهذا التقسيم مبني على التراتبية العمرية والدراسية والمزاملة في البحوث، ولا يعني تفضيل أحدٍ منهم على الآخر علمياً، أو المساواة بينهم:
- الطبقة الأولى؛ تضم فقهاء كبارا هم من المجايلين للسيد علي السيستاني، مثل المرجعين الشيخ إسحاق الفياض والشيخ بشير النجفي.
- الطبقة الثانية؛ تضم فقهاء مثل: الشيخ باقر الإيرواني، والشيخ هادي آل راضي، والشيخ حسن الجواهري، والسيد محمد باقر الحكيم، والسيد محمد جعفر الحكيم.
- الطبقة الثالثة؛ تضم فقهاء مثل: محمد رضا السيستاني، ورياض الحكيم، وعلي السبزواري، وصادق الخرسان.
بالرغم من وجود هذا العدد من أساتذة “بحث الخارج” والفقهاء، إلا أن الأصابع تميل إلى الأسماء من الطبقة الثانية ومنهم ثلاثة أسماء بارزة، هم: الشيخ باقر الإيرواني، والشيخ هادي آل راضي، والشيخ حسن الجواهري. دون إغفال المرجعين الشيخ بشير النجفي وإسحاق الفياض، وهما بالأساس أستاذان ورمزان دينيان، لديهما العديد من المقلدين في دولٍ مختلفة.
وأشارت مصادر بأن السيدين محمد باقر ومحمد جعفر الحكيم كفقيهين بارزين، حظوظهما أقل بسبب كبرُ سنهما، وعدم تصديهما للعمل العام، وأسلوب حياتهما الزهيد والبعيد عن مواكبة التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طالت المجتمع العراقي خاصة والدولي عامة.
وخلصت دراسة للباحث محمد السيد الصياد، إلى أن أبرز المرشحين للسيستاني ابنه محمد رضا السيستاني، المعروف باجتهاداته والمشهود له بالكفاءة، وتتردد أنباء عن تدخلاته في المشهد السياسي لتحجيم النفوذ الإيراني، ومن المرجح أن يلقى دعمًا قويًّا من العائلات الدينية والنافذة في النجف، ومن جموع طلبة العلوم الدينية في الحوزة.
ويرى مرتضى الكشميري وجواد الشهرستاني، صهري علي السيستاني، وفقا لمصادر مطلعه بأنه يجب أن يتصدى للمرجعية آية الله العظمى محمد رضا السيستاني (عمره 60 عاما)، وهو النجل الأكبر للمرجع الحالي علي السيستاني وهو مدير مكتبه، وهو الأرجح والمُرَجح بأن يخلف والده لأنه يحضى يتقدير مقلدي والده وعددهم ما يقارب 250 مليون في العالم.
كذلك من المرشحين السيد رياض الحكيم، وهو الابن الأكبر للمرجع محمد سعيد الحكيم، الذي كان مرشحًا لخلافة السيستاني، لولا كِبر سنّه وموته المفاجئ، لكن ابنه رياض الحكيم أحد المجتهدين، وهو يدير مكتب والده في قم بإيران، ويدرس بحث الخارج، وقد تدعمه عائلة الحكيم وتدفع به نحو المرجعية.
ومن المرشحين أيضًا آية الله الفياض، وآية الله بشير النجفي، وكلاهما مع آية الله سعيد الحكيم وآية الله السيستاني أُطلق عليهم مصطلح “الأربعة الكبار”. ودائمًا ما كان يُتوقَّع خلافة السيستاني من قِبل أحد الثلاثة، بشير النجفي، وسعيد الحكيم، والفياض. فمات سعيد الحكيم، وبقي الفياض وبشير النجفي، لكنهما بلغا من الكبر عتيًّا. وعلى التسليم بتصدرهما أو تصدر أحدهما فسيكون تصدرًا مرحليًّا ومؤقتًا كما حدث في مرجعية السيد السبزواري، بعد وفاة الخوئي.
وهناك أيضًا محمد باقر الأيرواني، الذي افتتح ديوان “براني” في النجف، وقد اختار ديوانه في مكان ذي دلالة تاريخية، فقد كان مكتبًا للمرجع السيد عبد الهادي الشيرازي.
ويبقى احتمال آخر عن إمكانية تحوُّل ثقل المرجعية إلى إيران، كما حدث بعد وفاة البروجردي وتحولها إلى النجف، أو بعد وفاة الأصفهاني وتحولها إلى قم. فإن إيران تسعى إلى إيجاد وتوظيف مَراجع موالين لها في قلب النجف، مثل محمود هاشمي شهرودي الذي تُوفي عام 2018م، والآن يمكن طرح أسماء مثل كاظم الحائري. وقد يكتفي الإيرانيون ببعض المَراجع الموالين في النجف، وقد يسعون إلى تحول المرجعية بأكملها إلى قم، وتحديدًا إلى المرشد الإيراني ليتصدر المرجعية الشيعية دون منافس، وهذا سيناريو معقد وليس من السهل تمريره.
وختاماً؛ تُعَدّ مسألة خلافة المرجع الأعلى في الحوزة الشيعية أمرًا بالغ التعقيد والحساسية، فنظام المرجعية معقد جدًّا وتتحكم به عوامل عديدة وخاصة في تحديد أعلمية المرجع الأعلى، كما تواجه المرجعية العليا ترقب إيراني، فهي تحاول جاهدة الهيمنة على مرجعية النجف وكسر استقلالها التاريخي ومركزيتها في العالم الشيعي لصالح قم.