بقلم: راغب جابر- النهار العربي
الشرق اليوم– عودٌ على بدء، ليس العجز السياسي اللبناني المتكرّر عن انتخاب رئيس للبلاد، وكذا تعيين رئيس للحكومة أو وزير أو موظف كبير أو صغير تفصيلاً خلافياً ظرفياً. إنّه خلل بنيوي تكويني، ما عاد ينفع التستر عليه ومداواته بالأعشاب والوصفات ذاتها التي دأب السياسيون والروحيون عليها، والتي تستبطن الكثير من الرياء والتعامي ودفن الرؤوس في الرمال.
هذا النظام يلفظ أنفاسه ومعه الكيان برمّته. عندما أنشأ الفرنسيون الكيان عام 1920 أنشاوا معه النظام، وبقوا 23 عاماً يدرّبون اللبنانيين ويفرضون عليهم كيفية إدارة هذا النظام. لم تكن فرنسا قوة استعمار كلاسيكي في لبنان. لم تستعمره كما استعمرت نصف أفريقيا وبعض أميركا الوسطى والجنوبية وجزر المحيط الهادئ. لبنان ليس بلد ثروات باطنية، فلا بترول ولا حديد ولا الماس ولا ذهب في ترابه، ولا يورانيوم. كان “احتلالاً” سياسياً تنفيذاً للخطة الغربية، البريطانية -الفرنسية تحديداً، لتقسيم المنطقة الذي كانت مرحلته اللاحقة إقامة الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين.
ربما بات ضرورياً اليوم الكلام بصراحة أكبر، هذا الكيان كان فاسداً من الأساس. “حفلة” الاستقلال والاعتقالات في راشيا لا تشبه أبداً ثورات الاستقلال في العالم، لم يقاتل اللبنانيون من أجل استقلالهم الذي حكمهم “أبطاله” وورَثَتهم وأقاربهم عقوداً من الزمن، وصل فيها البلد إلى ما وصل إليه. اختلف الفرنسيون والإنكليز على النفوذ، فتبنّى الإنكليز استقلال لبنان ودعموا بشارة الخوري ورياض الصلح والمجموعة المسيطرة في 1943، ولم تقاوم فرنسا كثيراً، إذ سرعان ما أطلقت سراح السياسيين المعتقلين الذين خرجوا “أبطالا” من قلعة راشيا وثيابهم لم تتغبر.
صيغة الميثاق الوطني الشفوية التي قام عليها لبنان الاستقلال بين بشارة الخوري ممثلاً المسيحيين ورياض الصلح ممثلاً المسلمين، ظلّت تحكم لبنان حتى العام 2009، مرّ خلالها بحربين أهليتين وببعض “الحروب” الجانبية وباعتداءات وحروب اسرائيلية مدمّرة.
لم يغادر اللبنانيون فعلياً مواقعهم الفكرية والهوياتية لما قبل الكيان، وإن كانوا ارتضوا اخيراً في اتفاق الطائف نسخة معدّلة من الميثاق الشفوي تعيد تقسيم البلد بين المسيحيين والمسلمين على قاعدة المساواة، بعد التغيير الديموغرافي الحاصل لمصلحة المسلمين، ونتيجة للواقع الميداني على الأرض وحال الاهتراء الشاملة بعد سنوات الحرب المديدة.
كان النظام فاسداً في عهد الاستقلال الاول أيام بشارة الخوري، وكان السياسيون قبل ذلك يستجدون المناصب استجداءً من المفوض السامي الفرنسي ومن ضباط فرنسيين أقل رتبة، كما حصل لاحقاً عندما كان الطامحون “يحجّون” إلى عنجر والبوريفاج. الأصل كان أعوج وفرنسا تلك الايام التي لم تقتل اللبنانيين بالسلاح كما فعلت في الجزائر، أنشات لهم نظاماً طائفياً جعلهم يقتلون بعضهم بعضاً كل عشر سنوات. فهل يمكن اعتبار اهتمامها الكبير بلبنان اليوم نوعاً من التكفير عن الذنب الأول؟
الواقع إنّ لبنان اليوم، او بالأحرى واقع النظام، هو في حال احتضار، ما عادت تنفع المسكنات، وفي ظلّ تفاقم الحالة الطائفية وتحكّم النكايات وشراسة التداخلات والتشابكات الإقليمية والدولية، لا يبدو الأفق مشرقاً ابداً. الأزمة أكبر من قدرة السياسيين على حلّها. هم أدواتها، فكيف يفكّكون أنفسهم ويضربون مصالحهم الخاصة والجماعاتية؟
بين الدعوات إلى الفيدرالية التي لم تعد “تابو”، وبين ربط لبنان بمشاريع إقليمية، لم تعد الحلول الترقيعية والتوفيقية تنفع. الأمور بهذه الصراحة الفجّة.
كان سؤال وليد جنبلاط: لبنان إلى أين؟ معبّراً وحقيقياً.