بقلم: الشافعي أبتدون- الجزيرة
الشرق اليوم– يبدو سيناريو استمرار الحرب المستعرة في مدينة لاسعانود وضواحيها هو الأوفر حظًّا حتى الآن، فمع فشل جميع الوساطات المحلية والإقليمية، وعدم توافر إمكانات عسكرية لاحتواء الصراع بالنسبة لأطراف النزاع، تتمدد خيوط هذه الحرب وتشتعل حرائقها من مناطق أخرى.
لى مدى أربعة أشهر تحتدم المعارك في تخوم مدينة لاسعانود (إقليم سول) في جمهورية ما يسمى بـ”أرض الصومال” المعروفة اختصارًا )صوماليلاند( بين القوات المحلية التابعة لإدارة هرجيسا وميليشيات عشائرية مسلحة تنتمي إلى إحدى العشائر القاطنة في إقليم سول، وهي عشيرة طولبهنتي المتمركزة في مدينة لاسعانود ذات التأثير الجيوسياسي والأمني في الأقاليم الشمالية في الصومال، بحكم كونها تقع في منطقة تفصل الحدود الجغرافية بين إدارة بونتلاند وأرض الصومال؛ ما جعلها منطقة متخمة بالصراعات السياسية والعسكرية منذ قرابة عقدين. ورغم تراجع القوات المحلية وتقدم مسلحي عشائر طولبهنتي، تبدو آليات الحسم لهذا الصراع غير متوافرة حاليًّا، بفعل الإمدادات العسكرية التي يتلقاها كل طرف من هنا وهناك، وهي حرب بلا أفق حتى الآن، يدفع فاتورتها الباهظة السكان المحليون إثر حركة نزوح أججتها النزاعات العسكرية الأخيرة بواقع 200 ألف نازح ومقتل نحو 200 آخرين وإصابة المئات بجروح، فضلًا عن دمار يصيب البنية التحتية للمدينة، بفعل القصف الذي يستهدفها من قبل القوات التابعة لإدارة أرض الصومال.
وفي مقابل استمرار طاحونة الحرب الدائرة في ضواحي مدينة لاسعانود، فشلت كل الجهود التي سعت لرأب الصدع بين الجانبين، واخترق الرصاص الهدن التي أُعلنت من أطراف النزاع، بعد تدفق الإمدادات العسكرية من باقي المناطق التي تقطنها عشيرة طلبنهتي في ولاية بونتلاند، بينما تستنزف هذه الحرب غير المحسومة بعد حتى الآن خرينة أرض الصومال ذات الاقتصاد الهش والتحديات الاجتماعية بفعل ثورة عشيرة طولبهنتي على حكم وسطوة عشيرة واحدة على نظام وحكم جمهورية صوماليلاند لأزيد من ثلاثة عقود.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على أبعاد تفجر الصراع في إقليم سول (لاسعانود) وتداعياته المحلية والإقليمية، وأثره على الاستقرار الأمني والسياسي الذي عاشته هرجيسا منذ ما يقرب من نحو ثلاثة عقود، إلى جانب استشراف مآلات هذه الحرب وإمكانية أن تفرض تقسيمًا جغرافيًّا وإداريًّا في شمال الصومال، بفعل مطالب عشيرة طلبنهنتي المتمثلة في تقرير مصيرها والانضمام للنظام الفيدرالي بحكم أن مبدأ الانفصال من نظام هرجيسا عرف سياسي انتهجته إدارة أرض الصومال بعد إعلانها الانفصال عن البلاد عام 1991.
الوضع السياسي والعشائري في صوماليلاند: تناقضات غير محسومة
يعد المكون العشائري في أرض الصومال النواة المؤسسة للكيان الذي لم يحظ بعد باعتراف دولي وإقليمي، وذلك في أعقاب توصل القبائل إلى اتفاق تاريخي جسَّد نظامًا سياسيًّا مستقرًّا، وتنبع جذوره الأساسية من شيوخ القبائل الذين وضعوا ميثاقًا للصلح بين القبائل القاطنة في أرض الصومال لتقرير مصيرها بعد حرب أهلية بين العشائر انتهت بعقد اجتماع مصيري في مدينة برعو (ثاني أكبر مدن صوماليلاند)، عام 1991، وجرى خلاله إعلان الانفصال عن الصومال، أعقب ذلك أيضًا اجتماع ثان عُقد في مدينة بورما بين رجال القبائل، عام 1993، لكتابة ميثاق وطني، ومن أجل فرض مصالحة حقيقية بين القبائل للمشاركة في بناء نظام سياسي جديد. وقد اختير رجال القبائل المشاركون في هذا الاجتماع بعناية، منعًا لوقوع صدامات سياسية بين القبائل، وذلك بعد جمع أكبر قدر ممكن من قيادات العشائر المحلية، للتوصل إلى ميثاق وطني يمهد الطريق لكتابة دستور ونظام سياسي في المنطقة(1). إلا أن هذه التوليفة المنبثقة من رحم النظام الديمغرافي في صوماليلاند لم تخل من تناقضات غير محسومة بعد؛ حيث استأثرت بعض القبائل بالحصص السيادية في النظام الرسمي، بينما هُمشت أخرى لأسباب لا تبدو منطقية، خاصة أبناء المنطقة الشرقية من كيان أرض الصومال، وهي التي تضم كل من محافظات (سول وسناج)، حسب التقسيم الإداري الموروث من دولة الوحدة عام 1960، أو (سول وسناج وماخر وعين وسرر) حسب التقسيم الإداري الذي أقرَّته حكومة أرض الصومال(2).
وتعد عشيرتا طولبهنتي وورسنجلي (عشائر هرتي) المكون البشري الرئيس في المناطق الشرقية، والتي لها خصوصية ديمغرافية وقبلية جعلت ممكنًا للطبقة السياسية المعارضة، أخذ اتجاهات تصعيدية باتجاه القطيعة مع الكيان في أرض الصومال، ويعود ذلك لعدة عوامل أسهمت في تبلور الأوضاع ووصولها لمرحلة المناوشات المسلحة بين الحين والآخر مع القوات النظامية التابعة لصوماليلاند، آخرها تلك التي تفجرت مطلع عام 2023(3).
ويمكن حصر تلك العوامل التي تغذي الصراع بين تلك العشائر خاصة عشيرة طولبهنتي وإدارة صوماليلاند في النقاط التالية(4):
أولًا: وجود العامل القبلي بقوة، نتيجة لسياسة (فرِّقْ تسُدْ) من نظام سياد بري، وقد أدى لانحياز القيادات السياسية والتقليدية بالمنطقة للنظام، ممثلًا للدولة الصومالية، في حين انحازت المناطق المحيطة شرقًا وغربًا، للتمرد الذي أطاح بالرئيس ونظامه بداية التسعينات.
ثانيًا: الجنوح نحو ولاية (بونتلاند) من قبل عشيرة طولبهنتي، ذات التجانس القبلي؛ حيث إن مكونها الرئيسي من (هرتي) التي ينتمي إليها الأكارم من (طولبهنتي) و (ورسنجلي) يتمركز في منطقة بونتلاند، برغم وجود أصوات داعية لتأسيس كيان مستقل منفصل عن الإدارتين (بونتلاند وأرض الصومال) ويخضع لسلطة الحكومة المركزية في مقديشو، وهي دعوات تواترت مع الأنباء حول الشروع في عملية التنقيب عن البترول في واديي “نوغال” و”طرور”، الممتدين من المنطقة. وجد القادة التقليديون مبررًا مهمًّا لتكثيف جهودهم، نحو الاستقلال بمناطق العشيرتين، بهدف منع أي من الكيانين المحيطين (بونتلاند وصوماليلاند) من الاستقلال بثروات المنطقة وتقاسم الكعكة مع العشيرة صاحب الأرض، وهو توجه لا يحظى بموافقة من الإدارة المحلية خاصة كياني بونتلاند وصوماليلاند؛ ما يعده مراقبون جزءًا من أسباب الصراع في هذه المنطقة باستمرار، كفوهة بركان لا يخمد نيرانها.
ثالثًا: نظام المحاصصة القبلية الذي بُني عليه كيان صوماليلاند الذي أفرز طغيان قبيلة الإسحاق على مناصب الدولة الرئيسة؛ ما جعل عشيرة طولبهنتي تشعر بالغبن وكأنها مهمشة نتيجة عدم توافر الظروف الملائمة لإجراء إحصاء سكاني في مناطق العشيرة، وعدم إمكانية تفعيل دور الدولة فيها، وهي منطقة غلب عليها التقلب في الولاء بين أرض الصومال وولاية بونتلاند، وفق رؤية إدارة هرجيسا.
رابعًا: اعتماد إدارة أرض الصومال على القبضة الأمنية والعسكرية لإخضاع أقاليم العشيرة وضمان الاستمرار والاستقرار فيها، خاصة في مدينة لاسعانود، دون وجود تسوية سياسية تحقق مطالب العشيرة وتفرز محاصصة عشائرية جديدة لتقاسم السلطة مع بقية القبائل في الإقليم.
ويمكن الإشارة هنا، إلى أن المنطقة الشرقية من صوماليلاند، خاصة أقاليم سناغ وسول وعين، هي مناطق متداخلة بين عدد من العشائر، برغم أن أغلبيتها تميل إلى عشيرة الهرتي (ورسنجلي وطولبهنتي)، إلا أن أفخاذًا من قبيلة الإسحاق لها امتداد بشري وجغرافي في إقليم سناغ وعين؛ ما يجعل ادعاءات عشيرة طولبهنتي لا تستند إلى حجج منطقية، لكن بإمكانها أن تثير أزمات أمنية وسياسية كون المنطقة الشرقية تعتبر عرين عشائر هرتي المنتشرة بين وديان وسهول ولاية بونتلاند وصوماليلاند.
وعاشت أرض الصومال (صوماليلاند) في استقرار بلا صلة بما يجري في جنوب البلاد من تقلبات سياسية وتردٍّ أمني خطير؛ حيث كان الاستقرار السياسي والأمني العنوان الأبرز الذي طغى أخبارها في الإعلام المحلي والدولي، وأصبحت نموذجًا يحتذى في تطبيق نظام انتخابي ديمقراطي، إلا أن هذا التناغم السياسي والعشائري شهد في السنوات الأخيرة تصدعات داخلية بسبب استبداد الرئيس، موسى بيحي، بالسلطة، ومواجهة خصومه من السياسيين ومنتقديه بالتهديدات المعلنة والسجن أحيانًا، وهو ما كشف عن تحديات داخلية تعيش على أثرها منطقة أرض الصومال الانفصالية، ولا تزال تأثيرات تأجيل الانتخابات الرئاسية في هرجيسا تلقي بظلالها على المشهدين السياسي والأمني في هذه المنطقة(5).
وبعد انقضاء المدة الدستورية لولاية رئيس جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند)، عاد الجدل الدستوري والسياسي إلى الواجهة بين أحزاب المعارضة وحزب “كلمية” ممثلًا في الرئيس الحالي المنتهية ولايته، موسى بيحي عبدي. وبحسب الدستور المحلي، فإن ولاية الرئيس مدتها أربع سنوات، وانتخب بيحي عبدي رئيسًا لأرض الصومال في 13 ديسمبر/كانون الأول 2017 وانتهت ولايته في 13 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، إلا أن مجلس الشيوخ وافق بأغلبية ساحقة على مشروع تمديد فترة الرئيس لمدة عامين، مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وصوَّت المجلس، الذي انتهت ولايته في يناير/كانون الثاني الماضي، على التمديد لنفسه خمسة أعوام، بعدما مدَّد أعضاء المجلس ولايتهم عام 2019 عامين إضافيين(6).
لكن حزبي المعارضة، الحزب الوطني وحزب أوعد، أعلنا عدم اعترافهما بشرعية بيحي عبدي، وأكدا الاستعداد للتفاوض مع الرئاسة الحالية بشأن تحديد موعد لإجراء الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول عام 2022. وأوضح الحزبان أنهما يعترفان فقط بالهيئات التشريعية والتنفيذية والإدارات المحلية، ودعوَا أفراد المؤسسة العسكرية إلى الانصياع للدستور فقط(7).
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت لجنة أرض الصومال للانتخابات الرئاسية عن تأجيل موعد الاقتراع الذي كان من المقرر تنظيمه في 11 نوفمبر/تشرين الثاني إلى يونيو/حزيران 2023. وعزت لجنة الانتخابات تأجيل الانتخابات إلى أسباب لوجستية وفنية، وعدم توافر الميزانية الكافية (نحو ثلاثة ملايين دولار أميركي) لإجراء الانتخابات الرئاسية، وذكرت أن الإعداد للانتخابات الرئاسية سيتم في غضون تسعة أشهر، تبدأ من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لغاية يونيو/حزيران 2023، وهي مدة كافية -بحسب اللجنة- لإعداد الإجراءات المتعلقة بتنظيم الانتخابات الرئاسية في أرض الصومال. ورفضت وزارة الداخلية في أرض الصومال قرار سحب الاعتراف من بيحي عبدي(8).
ويرى مراقبون أن بدء الصراع على السلطة في أرض الصومال بعد انتهاء المدة الدستورية للرئيس الحالي يعقِّد الأزمة السياسية والأمنية، كما أن خطوة المعارضة وإقدامها على سحب اعترافها بشرعية رئاسة موسى بيحي عبدي يصب مزيدًا من الزيت على نار الخلافات، بعد فشل جولات من المفاوضات التي أُجريت في هرجيسا بين المعارضة والحزب الحاكم، ويمهد لعدم الاستقرار السياسي خصوصًا حول عدم البت بشأن مصير حكومة موسى بيحي عبدي وتأجيل الانتخابات ما يفرز تداعيات أمنية في بعض المناطق، وهو ما حدث فعلًا في مدينة لاسعانود وينزلق هذا الوضع الأمني الخطير تدريجيًّا نحو مناطق أخرى في صوماليلاند.
الصراع في مدينة لاسعانود: جذوره وتداعياته المحلية
ومع تدهور الوضع السياسي في هرجيسا، خرجت من رحم التلاطم السياسي أزمة كبرى، فاندلعت مواجهات عنيفة بين متظاهرين في مدينة لاسعانود التي تقطنها غالبية من عشيرة طولبهنتي والأمن التابع لصوماليلاند، وخاصة عندما قُتل أحد المعارضين السياسيين في المنطقة، وهو عبد الفتاح عبد الله عبدي، على أيدي مجهولين، في ديسمبر/كانون الأول 2022، ما أعاد التوتر والاحتجاجات إلى الواجهة من جديد، قابلتها الأجهزة الأمنية بالقوة ما تسبب في مقتل حوالي 20 من المتظاهرين، وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت قتيل المواجهات المسلحة بين القوات المحلية والميليشيات العشائرية الأخرى المسنودة من إقليم بونتلاند، واستمرت المواجهات وتوسع مدَّاها لتتسبب في القتل والتشريد واتساع الفتق بين الأطراف؛ ما تسبب في حدوث تطور جديد في المنطقة يضع أرض الصومال تحت دائرة الضوء من جديد، فما جذور هذا الصراع وما العوامل المغذية له؟
في عام 2002، زار رئيس إقليم أرض الصومال آنذاك، ضاهر ريالي كاهن، بقوات مدججة مدينة لاسعانود ما استفز حكومة بونتلاند التي كانت تدير المنطقة، وأرسلت فورًا وحدات قتالية ودخلت في مواجهات مسلحة مع قوات أرض الصومال، ما جعله ينسحب بقواته ومعه الإدارة المحلية للمنطقة، وتكررت المواجهات بعد ذلك فترة بعد أخرى، إلى أن تمكنت قوات إقليم أرض الصومال من السيطرة على لاسعانود في 2007. ويتمحور الخلاف حول لاسعانود بين الإقليمين على ادعاء تبعية لاسعانود وشرق منطقة سناغ؛ حيث تعتمد إدارة أرض الصومال الحدود الموروثة من الاستعمار والتي تعتمدها المؤسسات القارية في إفريقيا، بينما ترى إدارة بونتلاند، أن الامتدادات العشائرية هي ما يجب اعتماده في الحدود، وبالتالي ضم المناطق التي تقطنها عشائر طولبهنتي وورسنجلي إلى إقليم بونتلاند. إضافة إلى ذلك، فهناك خلاف جوهري بين الإقليمين حول استقلال أرض الصومال، يعضده موقف العشائر الذي يميل إلى إقليم بعينه، ما يعني أن هناك إرادة محلية وإقليمية تتدافع مع توافر ظروف لها علاقة بالمصالح الاقتصادية حيث اشتكى السكان من استبعادهم من المشاريع التنموية الكبرى في الإقليم وقضايا التمثيل في السلطة السياسية على مستوى الإقليم(9).
جبهة SSC المتمردة: من هي وماذا تريد؟
تمثل جبهة SSC التي اختُزلت من أسماء ثلاثة أقاليم وهي ثلاثة إقليم (سول وسناج وعين)، الجناح العسكري لعشيرة طولبهنتي، وتعود جذور تاريخ تأسيس هذه الجبهة بعد سقوط الدولة المركزية عام 1991، لكنها كانت ضعيفة القوة ولم تكن بحجم الجبهات المسلحة التي انبثقت من رحم سقوط الدولة الصومالية حالها حال انتشار الجبهات المسلحة في الصومال، لكن بروز الجبهة إلى الواجهة جاء ردَّ فعل طبيعيًّا حول تمحور الصراع في مناطق انتشار عشيرة الجبهة بين نظامي بونتلاند وصوماليلاند في الفترة ما بين عام 2003 و2007، لكن ظهرت فعليًّا بين عامي 2009 و2012، وذلك في أعقاب مؤتمر ضم زعماء العشائر من أقاليم سول وسناغ وعين التي تقطنها العشيرة ومغتربين ينتمون للعشيرة، في مدينة نيروبي (كينيا)، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2009، وتمخض ذلك عن تأسيس فعلي للجبهة التي تخوض حاليًّا معركة كسر عظم في تخوم مدينة لاسعانود، وهي حرب كلفت مقتل نحو 200 شخص وأدت إلى نزوح قرابة 200 ألف شخص من المدينة، ناهيك عن دمار هائل بالبنية التحتية لمدينة لاسعانود(10).
ولا يزال الصراع العسكري محتدمًا بين ميليشيات الجبهة وقوات صوماليلاند، وأخذت هذه الحرب المستعرة بعدًا عشائريًّا آخر، بانضمام أفخاذ العشيرة من مناطق أخرى، وشهدت جولات وصولات عسكرية حتى الآن فلم يستطع طرف حسم الصراع، غير أن ميليشيات الجبهة حققت بعض التقدم العسكري بإجبار قوات صوماليلاند على الانسحاب من تخوم المدينة، بالرغم من أن مبرر إدارة صوماليلاند حول أسباب تراجعها وخروجها من المدينة هو الدواعي الإنسانية، تمهيدًا لإجراء مفاوضات مع وجهاء العشيرة، وهو ما بات غير ممكن حتى الآن.
ويمكن تلخيص أسباب الصراع بين السلطات في أرض الصومال وعشيرة طولبهنتي في المحاور التالية(11):
رفض عشيرة طولبهنتي السياسات الإقصائية التي تمارسها إدارة هرجيسا ضد العشيرة التي تنتشر في ثلاثة أقاليم كبيرة من أصل ثمانية أقاليم، وهي إقليم سول وعين وسناغ، وذلك لمدة عقود.
استهداف قيادات وسلاطين عشيرة طولبهنتي من قبل النظام الحالي في هرجيسا وعدم السماح لهم بإجراء زيارات للمناطق التي تقطنها القبيلة، وتهميش حقوقهم السياسية.
رفض عشيرة طولبهنتي المعلن للانفصال عن الصومال، وضرب الوحدة القومية، وهو ما فسرته العشيرة في بيانها الأخير الذي وقَّع عليه 14 شيخًا من العشيرة، برفضهم الصريح لمشروع الانفصال عن الصومال، وعدم موافقتهم على مساعي أرض الصومال لنيل الاعتراف ككيان مستقل.
مساعي العشيرة (طولبهنتي) إلى تأسيس كيان تابع للحكومة المركزية في مقديشو، وفق مقررات اجتماع سلاطين العشيرة في مدينة لاسعانود، وهو ما ترفضه إدارة صوماليلاند جملة وتفصيلًا.
وفي المقابل، ترفض حكومة أرض الصومال ادعاءات الجبهة ومبرراتها لفتح صراع في خاصرتها الشرقية، وهذه مبررات الخيار العسكري لأرض الصومال ضد جبهة SSC التي تمثل الجناح العسكري للعشيرة.
وتتمثل أسباب لجوء صوماليلاند إلى الخيار العسكري لحسم النزاع ضد عشيرة طولبهنتي في المحاور الآتية(12):
حماية وحدة أراضي مناطق صوماليلاند الموروث من التقسيم الاستعماري في وضع الحدود الجغرافية بين المستعمرات البريطانية والإيطالية في الصومال، والحفاظ على حدودها الجغرافية.
مكافحة تنظيم “حركة الشباب” الذي يقاتل في مدينة لاسعانود، المسؤول عن اغتيالات لحقت مسؤولين محليين ينتمون لعشيرة طولبهنتي، برغم أن الحركة نفت وجودها أو ضلوعها في المواجهات الأخيرة ضد قوات صوماليلاند في مدينة لاسعانود.
رفض دعاوى الوحدة مع الجنوب التي يرفع شعارها العشيرة القاطنة في مدينة لاسعانود، بحجة أن تلك الدعاوى تبدد وتهدد مستقبل ومصير كيان أرض الصومال للحصول على الاعتراف الدولي.
موقف الحكومة الفيدرالية من النزاع في لاسعانود
أعلنت الرئاسة الصومالية عن سعيها لفرض وساطة بين الأطراف المتصارعة في مدينة لاسعانود، هذا إلى جانب إصدار أكثر من مرة دعوات للتهدئة وحل النزاع بالحوار، إلا أنه في المقابل تصف إدارة موسى بيحي عبدي موقف الحكومة الفيدرالية بأنه يصب الزيت على النار ويؤجج النزاع العسكري في المنطقة، وذلك برغم السياسة التي اتخذتها الحكومة الفيدرالية في مقديشو بعدم ممارسة تدخل مباشر حتى لا تُحسب على طرف ضد آخر في ظل رفض حكومة أرض الصومال التفاوض مع إدارة الرئيس حسن شيخ، إلا بالاعتراف باستقلالها أولًا، ثم الشروع في الحوار بعده، وهو ما قد يدفعها إلى دعم الأطراف التي تسعى للانفصال من إقليم أرض الصومال والعودة إلى حضن الحكومة المركزية، ورغم أن الأوضاع تبدو هادئة في الفترة الأخيرة فإنها مفتوحة على كل الاحتمالات؛ ذلك أن عوامل استمرار القتال هي الأوفر حظًّا، مع تبخر آمال الجهود الدبلوماسية السلمية لوقف النزاع، إضافة إلى توفر خزان الاحتقان العشائري من المآسي المرتبطة بها في فترة ما بعد سقوط الدولة العسكرية بزعامة الجنرال محمد سياد بري (1969-1991)(13).
الصراع في لاسعانود: خلفياته الإقليمية
تتهم إدارة هرجيسا دولًا بعينها مثل جيبوتي ومقديشو بالتواطؤ مع الجبهة المسلحة ضدها في مدينة لاسعانود، وهو اتهام نفته جيبوتي، وأكدت عدم وجود نية لجيبوتي لضرب أمن واستقرار صوماليلاند، بينما لم تعلق حكومة مقديشو على مزاعم أرض الصومال، معتبرة ذلك جزءًا من سياسة تضليل ودعاية تمارسها هرجيسا لمدة عقود، من أجل إضعاف موقف مقديشو تجاه قضية صوماليلاند.
لكن يرى مراقبون أن ما يحدث في مدينة لاسعانود له علاقة بالتوازنات والمتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، وترجح بعض الدوائر الدبلوماسية أن أرض الصومال تدفع ثمن علاقتها مع (تايوان)، التي تتخذ من هرجيسا مقر قنصلية لها، على الرغم من الرفض الصيني لتطبيع العلاقات بين تايون وصوماليلاند، ورفض الأخيرة، العدول عن سياساتها والمضي نحو تشبيك علاقاتها مع تايوان، وهو ما يعني أن خيوطًا تحاك في الخفاء لضرب استقرار أرض الصومال، كما أن الدعم الذي تلقته الجبهة المسلحة في لاسعانود يتدفق من مناطق مختلفة، ويشار إلى أن جيبوتي ضالعة بهذه الأزمة ولديها أيادٍ خفية؛ ذلك أن الصراع بين جيبوتي وهرجيسا يندرج تحت إطار حرب الموانئ في القرن الإفريقي؛ حيث إن تدشين ميناء بربرة وتطويره من قبل شركة موانئ دبي لم يرق لجيبوتي؛ ما يعني أن تدشين ميناء جرعد المحلي في ولاية بونتلاند له ارتباط مباشر أيضًا بضرب ميناء بربرة وحصره بالمنطقة التابعة لأرض الصومال.
وبالرغم من تزايد الخيوط المتشابكة تجاه هذا النزاع العسكري في مدينة لاسعانود، فإن الوضع لن يكون كما كان عليه سابقًا، فإما أن تجري هرجيسا عملية جراحية قاسية وتنازلات للعشيرة أو تستمر رحى الحرب لسنوات، وترتكب إدارة هرجيسا أعمال عنف وجرائم حرب بحق المدنيين، برغم التهديدات الغربية خاصة الأميركية، التي تحذر من الاعتداء والتمادي في سفك دماء الأبرياء واستهداف المدنيين العزل.
مآلات وسيناريوهات الحرب في مدينة لاسعانود
ليس ثمة خلاف على أن المواجهات المفتوحة في المناطق الشرقية في صوماليلاند تحمل في طياتها أبعادًا وتداعيات مستقبلية على أمن واستقرار المنطقة، بل حتى ستؤثر سلبًا على تماسك النسق العشائري في المنطقة؛ حيث إن بعض العشائر القاطنة غير تلك التي تخوض الحرب ضد القوات المحلية، تبدي امتعاضها من سياسات رئيس حكومة صوماليلاند، موسى بيحي عبدي، وتعارض فكرة اللجوء إلى الحرب وعسكرة الصراع ضد عشيرة طولبهنتي التي تشعر بإقصاء سياسي منذ عقود، كما أن الحرب الراهنة التي غدت حربًا دون أفق تمهد الطريق لقلاقل أمنية، ما لم يتدارك نظام هرجيسا خطورة انجرار المنطقة إلى مزالق حرب طويلة الأمد تستنزف الدولة الناشئة، خصوصًا قدراتها المالية والعسكرية، وتعرضها لتصدعات داخلية نتيجة أطماع إقليمية ودولية نحو الصومال تغذي هذا الصراع الراهن(14).
ومع استمرار الحرب التي تتخللها هدن مؤقتة في ضواحي مدينة لاسعانود يخشى المراقبون أن تتحول الأزمة إلى حرب بلا نهاية، وهذا ما سيضعف قدرات حكومة موسى بيحي للتعامل مع مستجدات الأزمة العشائرية إذا طال أمدها، خاصة في حال المضي نحو مزيد من استخدام القوة العسكرية لفرض هيبة الدولة والنظام في إقليم سول، لكن المسألة الأكثير تعقيدًا تبقى تتمحور حول إمكانية أن يقود الصراع الراهن إلى تحلل النظام العشائري الذي بني عليه كيان صوماليلاند، وفرض عقدة النظام الحاكمة في هرجيسا، إذا لم يستجب لمطالب عشيرة طولبهنتي حتى لا تصبح وقود ثورة تصيب عدواها بقية العشائر المؤسسة للكيان، ما عدا عشيرة الإسحاق المعتبرة بـ”الطغمة المنتفعة” في صوماليلاند.
وتتمحور سيناريوهات عدة حول مآلات الصراع ومستقبله في النقاط التالية:
استمرار الحرب: يبدو سيناريو استمرار الحرب المستعرة في مدينة لاسعانود وضواحيها هو الأوفر حظًّا حتى الآن، فمع فشل جميع الوساطات المحلية والإقليمية، وعدم توافر إمكانات عسكرية لاحتواء الصراع بالنسبة لأطراف النزاع، تتمدد خيوط هذه الحرب وتشتعل حرائقها من مناطق أخرى؛ حيث العامل القبلي يصب الزيت على نار هذه الأزمة، وهو ما يجعلها مستقبلًا بمنزلة جبهة لا تعرف الهدوء، وإن شهدت فترات استراحة، ستتجدد دوامة العنف فيها، ما يفك مستقبلًا ارتباط العشيرة هذه بنظام صوماليلاند، كعنصر عشائري مكون للنظام البرلماني والحكومة المحلية في هرجيسا.
خيار المفاوضات: مثلما فشلت جولات المفاوضات بين الصومال (الجنوب) وأرض الصومال (الشمال) منذ عام 2012، تبدو خيارات اللجوء إلى طاولة الحوار معدومة حتى الآن، بسبب عدم وجود قابلية لأطراف الصراع لإجراء مفاوضات تلجم فوهات البنادق لحل النزاع سلميًّا، كما أن خيار التفاوض لكلا الطرفين بدا وكأنه خيار الخصم الضعيف المضطر للسلام، وهو ما يشعل شرارة النزاع ويقود لجولات وصولات أخرى من الحرب التي يدفع ثمنها المدنيون فقط.
أزمة ديمغرافية مركبة: القلق الذي يسيطر على كثير من المتابعين يكمن في إمكانية أن تثير الأزمة المتفجرة حاليًّا في إقليم سول نعرات المكون العشائري في مناطق أخرى من صوماليلاند، التي عادة ما تلجأ إلى العقلية الأمنية في الاستجابة للمطالب التي ترفعها بعض العشائر، وهو ما يمكن أن يؤدي مستقبلًا إلى انقلاب الهرم الاجتماعي الذي يحكم مفاصل الدولة في المنطقة، فوجود قبيلة واحدة (الإسحاق) واستحواذها على المناصب السيادية سيكون له تأثيرات اجتماعية إذا لم يؤسس لميثاق وطني جديد لتقسيم السلطة وثروات الدولة على نظام المحاصصة القبلية درءًا لمخاطر تفكك اجتماعي وأمني في منطقة شهدت طوال عقود هدوءًا أمنيًّا وسياسيًّا وسط اضطرابات وتحولات سياسية وأمنية تضرب جوارها ووجود أطماع دولية وإقليمية للسيطرة على منافذها البحرية والبرية.