بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- على مدار الأزمنة المختلفة، كانت الحروب تنتهي بانتصار أحد الطرفين المتقاتلين، أما اليوم فقد تغير الوضع، وأصبحت الكثير من الحروب التي نعاصرها تنتهي بلا منتصر، الطرفان فيها خاسران، ومهما طالت، أو قصرت الحرب تنتهي بتسويات يتنازل فيها الطرفان لتكون النهاية بما يحفظ وجهيهما.
ولعل السبب في تغير ملامح الحروب أنها كانت تعتمد في الماضي على قوة الجيوش والمخططات التي يضعها القادة، واليوم لم تعد القوة والتدريبات وعنصرا المباغتة والمفاجأة، من الأسرار التي يمكن أن تحقق التفوق، لهذا أو ذاك، فخطط الحروب اليوم معلنة ومعروضة على الشاشات.
ولعل حديث الغرب وأوكرانيا، على مدى الأشهر الماضية، عن هجوم الربيع مثال حي على ذلك. فالكلام كثير، وقد يكون هدفه التأثير المعنوي أكثر من الطموح المادي، كما أن الحروب اليوم لم تعد ساحات لاختبار قوة الجنود ودهاء القادة، بقدر ما أصبحت ساحات لاختبار المعدات والأسلحة والتقنيات.
الدول العظمى تذهب إلى الحروب وقد سبقتها آلاتها الدعائية، مروّجة أنها ستحقق النصر خلال بضعة أيام، أو أسابيع، ولكن الواقع شيء آخر، وسرعان ما تكتشف أنها راحت بنفسها إلى مستنقع يصعب عليها الخروج منه بسهولة، وهو ما حدث للقوة الأعظم في العالم في فيتنام، وكررته في أفغانستان التي مكث فيها الجيش الأمريكي 20 عاماً لينسحب منها وهو يجر أذيال الخيبة، ويخرج مدحوراً تاركاً أفغانستان والكثير من عتاده لجماعة طالبان.
والأمر نفسه حدث في العراق الذي كان الإنجاز الوحيد للأمريكيين فيه تدميره اقتصادياً، وتفتيته سياسياً، واستنزافه عسكرياً، وتسريح جيشه وأجهزة الأمنية حتى يتحول إلى دولة هشة عاجزة، وتكون صيداً سهلاً لمن يريد.
ليست أمريكا وحدها التي خاضت معارك وخرجت منها خاسرة، ولكن أيضاً الاتحاد السوفييتي كما حدث له في أفغانستان أيضاً.
ولأن دروس التاريخ عصية على المولعين بإشعال الحروب، وتدمير الدول، وقتل وتشريد البشر، استيعابها، فإن العالم سيظل ينتقل من حرب إلى حرب، ومن صراع إلى صراع، وما يحدث اليوم في أوكرانيا ليس سوى فصل جديد في مسلسل تدمير العالم واستنزاف ثرواته ومحاصرة مدنييه، وإلقاء جنوده في نيران لا يخرجون منها سوى جثث هامدة، أو بقايا بشر مشوّهين، فالحرب التي يقترب عمرها من ستة عشر شهراً، تزداد توسعاً، كأن لدى المنخرطين فيها ورعاتها إرادة في أن تتوسع رويداً رويداً، حتى تتحول إلى حرب عالمية، لا تبقي ولا تذر.
رعاة هذه الحرب لا يريدون انتصاراً لطرف من دون الآخر، بل يريدون استنزافاً لمختلف الأطراف، فقد كانت أوكرانيا ميدانها طوال الفترة الماضية، وقبل أيام وصلت شراراتها إلى قلب روسيا، إلى العاصمة موسكو من خلال المسيرات، ثم تدمير سد نوفا كاخانوفا، وما يستتبعه من أزمات غذائية عالمية جديدة.
وبالأمس كان محظوراً مد أوكرانيا بالأسلحة بعيدة المدى، ومؤخراً تجاوزه الداعمون وأجمعوا على مد كييف بما يزيد الحرب اشتعالاً، ويستثير الدب الروسي، كأنهم يريدون له التهور، وتحويل “عمليته الخاصة” إلى حرب شاملة تستخدم فيها أسلحة الإبادة بعد أن أصبح لا شيء ممنوع، وكل الأسلحة مباحة، حتى لو كانت للدمار الشامل.
هدف الغرب من الدعم اللامحدود لأوكرانيا ليس تركيع روسيا عسكرياً فقط، ولكن استنزافها اقتصادياً، وعزلها سياسياً، وهو ما لم يتحقق.
وفي المقابل، فإن أوكرانيا لم تعد وحدها هدفاً لروسيا وحلفائها، ولكن الهدف الأكبر هو زعزعة النظام العالمي وخلخلة مكانة أمريكا كقوة عظمى لدى حلفائها الأوروبيين، وتغيير النظام الاقتصادي الذي يتحكم فيه الدولار الأمريكي، واستنزاف أوروبا اقتصادياً، وفك ارتباطها الاقتصادي والعسكري والسياسي بأمريكا، الأمر الذي يستلزم سنوات لتنفيذه، ما يؤكد أن أمد الصراع والاستنزاف في أوكرانيا طويل.