بقلم: نبيل فهمي- المصري اليوم
الشرق اليوم– هل ستملأ روسيا أو الصين الفراغ الجيوسياسى الناجم عما يسمى «الانسحاب» أو «الانفصال» الأمريكى عن الشرق الأوسط؟ فى التاريخ المعاصر كانت روسيا دائمًا هى المنافس الرئيسى للولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، وبالتالى فهى تمثل البديل المحتمل إذا ما انسحبت أو انفصلت أمريكا عن الإقليم. ولكن أخيرًا انضمت الصين أيضًا إلى المعركة، بل وربما تكون قد تجاوزت القوى الأوروبية الآسيوية.
بعد نهاية الحرب الباردة لصالح الجانب الأمريكى، وظهور تقنيات جديدة تجعل هذا الجانب أقل اعتمادًا على نفط الشرق الأوسط، أصبحت الولايات المتحدة أقل حماسًا لتحمل العواصف السياسية القاسية والمشاكل المعقدة والمستعصية بالمنطقة. وأصبحت هذه السياسة أكثر حضورًا على أرض الواقع بعدما وجدت الولايات المتحدة أن تدخلها بالمنطقة سيلازمه التضحية بالدم والثروة، كما اتضح من النزاعات الأخيرة فى العراق وأفغانستان، الأمر الذى جعلها تُعيد النظر فى سياستها بالمنطقة، خاصة أنها لا تريد المزيد من الخسائر.
على الرغم من وجاهة هذا التحليل من وجهات نظر عديدة، إلا أنه لا يأخذ فى الاعتبار بشكل كافٍ الإرث التاريخى للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا وبين الشرق الأوسط، كما أنه لا يأخذ فى الاعتبار أيضًا المصالح والاحتياجات المعاصرة لكلا الجانبين. فمن الملاحظ أن الصين وروسيا موجودتان بالفعل فى منطقة الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، وأن سياساتهما لا تركز حصريًا على المنافسة مع أمريكا.
روسيا.. روابط تاريخية وحديثة
إن لروسيا تاريخًا طويلًا ومعقدًا فى إقليم الشرق الأوسط الكبير، الذى يشمل تركيا أيضًا طبقًا لتصور الأمم المتحدة للمنطقة. فلقد وقعت اثنتا عشرة حربًا بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية بين القرنين السادس عشر والعشرين، وانتهت معظم هذه الحروب لصالح روسيا، باستثناء حرب القرم 1710- 1711. غير أن الأوضاع تغيرت فى المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى، حيث تآمرت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا العظمى ضد الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وقامتا برسم وتقسيم خريطة بلاد الشام لخدمة مصالحهما، واستبعدتا الإمبراطورية الروسية عن المنطقة.
وبعد سقوط الإمبراطورية الروسية وقيام الاتحاد السوفيتى أسس الأخير خلال الحرب الباردة فى الخمسينيات من القرن الماضى نموذجًا جديدًا للمنافسة بينه وبين الولايات المتحدة، يتضمن عنصرًا جديدًا شديد القوة ألا وهو «الاستراتيجيات الجيوسياسية». فقد قام الاتحاد السوفيتى ببناء صداقات استراتيجية بينه وبين عدة دول فى إقليم الشرق الأوسط فى منتصف القرن الماضى، اشتملت فى البداية على الجمهوريات العربية اليسارية التى تخلصت من الاستعمار الأوروبى، مثل سوريا والعراق، ثم انضم إلى هذه الصداقات الاستراتيجية كلٌّ من مصر والجزائر فيما بعد.
أما فيما يخص العلاقات بين روسيا وإيران فقد كانت العلاقات بين الجانبين متوترة تاريخيًا، ولاسيما من المنظور الفارسى بعد قيام عدة صراعات فى القوقاز مع أران (أذربيجان حاليًا) وجورجيا وأرمينيا وكذلك داغستان. وقد امتد هذا التوتر فى العلاقات بين الجانبين إلى عصر الشاه بهلوى، حيث كان من الواضح أن إيران تقف إلى جانب الغرب.
أما عن العلاقات بين الجانب الروسى من ناحية وإسرائيل كإحدى دول الشرق الأوسط من ناحية أخرى، فغالبًا ما يُنسى أن الاتحاد السوفيتى كان أول دولة تعترف بدولة إسرائيل فى 17 مايو 1948. وقد مرت العلاقات بين الجانبين بعدة مراحل متوترة مع اندلاع الحروب العربية- الإسرائيلية، ولكن نمو حجم الجاليات الديموغرافية الروسية المتمركزة فى إسرائيل، مع تعاظم حجم التعاون الأمنى والتكنولوجى بين الجانبين، قد أثر فى العلاقات بشكل إيجابى ملحوظ.
لقد ذكرتُ هذه الخلفية التاريخية لتأكيد أن انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة عام 1990 كان حيادًا بسبب تفكك الاتحاد السوفيتى. ولا يقتصر وجود روسيا واهتمامها بالشرق الأوسط حصريًا على حضور الولايات المتحدة الأمريكية بالإقليم من عدمه. فبناءً على التقارير التحليلية للأوضاع، ومناقشاتى الشخصية مع كبار مسؤولى الأمن القومى، يمكن الإشارة إلى أن أهم دوافع روسيا فى الشرق الأوسط تنبعث من رؤيتها لحضارتها، وتتماشى مع تصورها لدورها العالمى، كما أنها تُعد انعكاسًا لتكوينها الديموغرافى، فضلًا عن قراءتها للتحديات وفرص النظام العالمى.
أعتقد أنه يمكننا القول إن ما تأمل روسيا فى تحقيقه بمنطقة الشرق الأوسط ليس أن تصبح بديلًا للولايات المتحدة بالإقليم، ولكن بالأحرى خلق مستوى من التكافؤ الجيوسياسى بالمنطقة دون إفراط. وهذا يتطلب فى الأساس الحفاظ على المرافق العسكرية والأمنية الموجودة بالمنطقة، وضمان الوصول إلى موانئ المياه الدافئة فى البحر الأبيض المتوسط، وتأمين الإبحار فى الممرات المائية الأخرى.
هذا ويُعد منع العناصر المتطرفة من الوجود بالقرب من الحدود الروسية دافعًا أساسيًا لاهتمام الجانب الروسى بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة مع كثرة المناطق الآوية للتطرف بالفعل والموجودة قريبًا من روسيا مثل الشيشان وداغستان وشمال القوقاز وباشكورتوستان فى حوض نهر الفولجا. أضف إلى ذلك أن الدفاع عن المسيحيين الأرثوذكس بالشرق الأوسط يحتل مكانة بارزة على جدول أعمال واهتمامات الجانب الروسى أيضًا. كما أن الوصول إلى التقنيات الإسرائيلية والاستثمارات الخليجية أمر مهم للغاية بالنسبة للروس، فضلًا عن تسهيل الوصول إلى أسواق الأسلحة والتكنولوجيا النووية الروسية، والنفط والغاز الروسيين، والمنتجات الغذائية الروسية، وكل هذا يُعد من أسباب ودوافع اهتمام الجانب الروسى بمنطقة الشرق الأوسط.
الصين.. علاقات اقتصادية متنامية
شهدت العلاقات الصينية مع العالم العربى أربع نقاط تحول رئيسية. فعقب مؤتمر باندونغ عام 1956 قادت مصر وسوريا واليمن الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية مع الصين. وقد ساعد دعم الصين لإنهاء الاستعمار بالعالم العربى على توسيع العلاقات الرسمية بين الجانبين، كما ظهر فى توطيد العلاقات بين الصين والمغرب والجزائر والسودان.
وعلى الجانب الآخر، ساعد تخفيف الصين لسياسات ثورتها الثقافية فى إقامة علاقات بينها وبين الكويت ولبنان والأردن وعُمان، وأخيرًا مع المملكة العربية السعودية. هذا وأدت الزيادة فى الشراكات الاقتصادية متعددة التخصصات إلى إقامة علاقات بين الصين والإمارات العربية المتحدة وقطر وفلسطين والبحرين. وقد نتج عن كل هذا التعاون زيادة عدد الزيارات الرسمية بين الدول العربية والصين فى السنوات الأخيرة، ويلاحظ أن منتديات الحوار بين الجانبين هى التى توجه خطط عمل الشراكة العربية- الصينية الجديدة، مثل المنتدى الذى استضافته المملكة العربية السعودية أخيرًا.
على صعيد آخر، تطورت علاقات الصين مع إسرائيل بشكل ملحوظ منذ عام 1992. وفى الذكرى الخامسة والعشرين للعلاقات بين البلدين، ترأس رئيس الوزراء الإسرائيلى وفدًا توجه إلى بكين لعمل شراكة شاملة بين البلدين فيما يخص التكنولوجيا ومشاريع البنية التحتية. وسرعان ما تصاعدت المخاوف الأمريكية من هذه الشراكة بسبب قلق أمريكا المستمر بشأن وصول التكنولوجيا الإسرائيلية للشركات الصينية، خاصة المتعلقة بالأمن السيبرانى والتجسس، وحتى المتعلقة بالمشاريع المدنية العادية. ومع وجود هذه الشراكة وهذا التعاون لا يوجد دليل على أن الصين تحاول أن تحل محل الدور الأمريكى فى إسرائيل أو أن إسرائيل تريد من الصين أن تفعل ذلك.
أما فيما يخص العلاقات الصينية- الإيرانية فقد كان لدى الإمبراطورية الصينية وبلاد فارس القديمة بُعد بحرى قوى، خاصة خلال عهد أسرة مينغ، وكذلك علاقات تجارية طويلة الأمد. أما فى العصر الحديث فقد أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإيران فى عام 1971، ومع فرض العقوبات الغربية على إيران عام 1979 أصبحت الصين موردًا قويًا للأسلحة بالنسبة لإيران وجيرانها من العرب.
وتهدف استراتيجية الصين تجاه إيران ومنطقة الشرق الأوسط إلى: منع أى قوة أحادية من السيطرة على المنطقة.. كما تهدف إلى معارضة أى دعم يمكن أن يُقدم لتايوان.. هذا وتعمل الصين أيضًا على ضمان تلبية أى احتياجات لها من مصادر الطاقة. ويُعد الوصول إلى السوق الإقليمية الشرق أوسطية هو العمود الفقرى للعلاقات الاقتصادية بين الصين وغيرها من دول المنطقة.
وهكذا برزت الصين، على الرغم من أنها ليست جزءًا مباشرًا من الحرب الباردة، كمنافس قوى وخصم محتمل لكل من الولايات المتحدة وروسيا بإقليم الشرق الأوسط. وإن كانت الصين، وحتى وقت قريب، مترددة فى دخول المشهد السياسى خارج منطقتها. ومع ذلك فقد قدمت أخيرًا عرضًا لحل الأزمة الأوكرانية ولضمان السلام والأمن فى الشرق الأوسط من خلال الحوار. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، يظل من غير المرجح أن تقدم الصين ضمانات أمنية كبيرة للشرق الأوسط مثلما تفعل كلٌّ من الولايات المتحدة وروسيا لحلفائهما بالمنطقة.
الملء المشترك للفراغ الأمريكى
لم يكن الفراغ الملحوظ الناجم عن سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بتقليل التزامها تجاه أصدقائها بالشرق الأوسط هو السبب وراء وجود روسيا والصين بالمنطقة، فقد كانت الدولتان بالفعل موجودتين هناك منذ فترة. ولن تملأ إحدى الدولتين مفردة الفراغ الذى يخلفه انسحاب الولايات المتحدة من الإقليم، بل ستملآنه معًا، فضلًا عن أن النشاط الإقليمى المتزايد لدول المنطقة والسعى لوجود تعددية قطبية فى العلاقات مع القوى الأجنبية سيكونان من الأسباب القوية التى تدعو لاستمرار حضور روسيا والصين بالمنطقة. هذا فضلًا عن تمتع الصين ببصمة اقتصادية متنامية بشكل كبير، وهو من أسباب وجودها بالشرق الأوسط، وهى حقيقة يجب على أمريكا أن تبدأ فى قبولها.
على الجانب الآخر، هناك العديد من مجالات التعاون المتنامى، المستمر والمحتمل، بين الصين وروسيا، مثل: التعاون بين البلدين لمكافحة التطرف، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وضمان الإبحار الآمن بالممرات المائية الدولية. إن اعتبار كل من القطبين الصينى والروسى خصومًا لبعضهما والنظر إليهما كتهديد محتمل بالشرق الأوسط قد يؤدى إلى تقريبهما من بعضهما فى الواقع، بل وقد يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها.