بقلم: سمير التقي – النهار العربي
الشرق اليوم– قديماً، كانت الحروب حروباً على الموارد، وحتى حينما كانت الحروب لاحتلال الأرض، كانت من أجل مواردها. بعد الحرب العالمية الثانية، صارت الموارد متاحة بفضل العولمة، وانتقلت الحروب بين الكبار لتصبح حروباً على الأسواق.
أما في عصر ثورة المعلومات، فتخوض الولايات المتحدة والصين حرباً شعواء في ساحة مختلفة. إنها ساحة الهيمنة على ثروات المعلومات وإدارتها، لتكون الحروب على الـG5، والتيك توك، مجرد مظاهر للحرب الكونية على قلب المعلومات، ألا وهي: رقائق السليكون.
اليوم تدير رقائق السليكون (وبعدها رقائق الكربون) عقل العالم، ليس على مستوى الهاتف النقال الذي يلتصق بنا، بل تدير الاقتصاد والعقل والمعرفة بأسرها.
السليكون مادة عاطلة متوفرة بغزارة في الطبيعة، لكن الصعوبة تكمن في نقش مليارات الدارات الكهربائية المتكاملة على شرائح السيليكون بحجم رأس الإبرة. ولإنتاج هذه الكميات الهائلة التي تختبئ في كل جهاز نستخدمه، تمر الرقائق باثنتي عشرة مرحلة غاية في التعقيد. وتتفوّق في تصنيع كل مرحلة، دولة بعينها، بحيث لا يمكن لدولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تنفرد بإنتاجها.
ليس ثمة مجال تتجسد فيه العولمة ووحدة السوق، كما تتجسد في صناعة رقائق السليكون، إذ تحتكر هولندا تقنية أجهزة الليزر الفاخرة التي تتولى النقش على السليكون. وتمتلك ألمانيا تقنيات لا تضاهى في إنتاج العدسات والمواد البصرية التي توجه هذه الأشعة، ثم إنك تحتاج لمهندسي وادي السليكون وسولت-ليك في الولايات المتحدة ومعاهد التصميم اليابانية، لوضع مخططات الإنتاج، وتحتاجهما أيضاً لصناعة آلات تصنيع الرقائق اللتين تتفردان بها. كما أنك ستحتاج لليابان وكوريا من أجل تقطيع الرقائق ونقشها. وفي نهاية المطاف، تأتي تايوان لتجمع حلقات هذه البيئة المعقدة، لتخرج بمنتج نهائي قابل للاستخدام. إنها بيئة متكاملة، لا يمكن إزالة عنصر واحد منها من دون أن تنهار كل عناصرها.
تصنف رقائق السليكون إلى أربعة مستويات في الدقة والتصغير وقوة المعالجة. معالجات الـ90 نانومتر، الأدنى مستوى، هي معالجات تناظرية Analogue، بطيئة وكبيرة الحجم، نجدها في غسالتنا وحاسباتنا، ولا يمكنها القيام إلا بعملية واحدة في آن واحد. والصين هي البلد الوحيد الذي يصنعها حالياً.
ثم هناك المستوى المتوسط من الشرائح التي تساهم في إنتاجها كل من ألمانيا وبريطانيا أيضاً. حجمها أقل من 90 نانومتر ونجدها في هواتفنا النقالة الحديثة وفي الحواسب والطيران. ثم المستوى الثالث هو مستوى التقنية العالية المستخدم في إدارة المعلومات والتحكم بالاتصالات والمعالجات المركزية، ومخدمات الإنترنت. هذه الشرائح لا تصنع إلا في تايوان ضمن سلسلة الإنتاج التي عرضناها سابقاً. وهناك الرقائق المعالجات الفائقة السرعة والتي تدير منظومات المعلومات في العالم وصولاً إلى كومبيوترات الكوانتم. وينحصر إنتاجها في قلة من الدول أهمها الولايات المتحدة واليابان، وليست الصين من ضمنها بعد.
أصبحت الرقائق المتقدمة عصب الحضارة، ومن أجل إنتاجها أنت تحتاج لليزر هولندي، تركب عليه بصريات ألمانية، لتنقش السيليكون الذي تحضره اليابان وكوريا الجنوبية، بحسب تصميمات وبرامج تنتجها الولايات المتحدة واليابان، والتي تنتج بدورها آلات إنتاج الرقائق، التي تنتج في تايوان معظم ما نستخدمه من رقائق متوسطة ومتقدمة وفائقة التقدم. وعند آخر تحليل، ثمة دولتان تنتجان المعرفة والعلوم الأساسية والمخططات والبرامج الضرورية لإنتاج الآلات التي تنتج الرقائق. إنهما الولايات المتحدة واليابان.
حينما بدأ انشطار العالم في منتصف العقد الماضي، بدأت مراكز البحث في الولايات المتحدة وحلفائها (أميركا وأوروبا واليابان)، في بحث احتمالات تفكك العولمة. وكانت ثمة أسئلة عن مصير سلاسل إنتاج رقائق السيليكون، وما سيحصل في حال التنافس مع الصين. في حينه لم يكن ثمة شك في أن اليابان وهولندا ستتحالفان مع أميركا.
عملياً، ورغم اعتراضاتها السابقة، وافقت اليابان على إعادة هيكلة تحالفها مع الولايات المتحدة وابتلعت الشروط الصعبة التي فرضتها إدارة ترامب. وحينما جاء بايدن، أوضح اليابانيون أنهم لا يرغبون في مراجعتها وأنهم سعداء بالصفقة القائمة، لتصبح اليابان جزءاً عضوياً من تحالف السيليكون.
لأسباب استراتيجية وجغرافية وتاريخية، كانت ثمة ثقة كبيرة بموقع هولندا في هذا التحالف. وفيما يتمتع الهولنديون بسمعة كوسيط في النظام الأوروبي، لكنهم لطالما تطلعوا نحو بريطانيا ثم أمريكا لترسيخ تحالفاتهم الاستراتيجية وراء البحار. لذلك، بمجرد إعلان إدارة بايدن عقوبات أمريكية على الصين حول رقائق السيليكون، بدأت هولندا وشركة ASML للنقش على السيليكون محادثات مع الإدارة. وسرعان ما انضمت إلى العقوبات.
كانت المشكلة الأصعب مع كوريا الجنوبية! إذ لدى كوريا تاريخ مرير مع اليابان، التي احتلتها مرات عدة، ولديها معضلتها مع جارتها الشمالية، وهناك أيضاً المصالح الاقتصادية في السوق الصينية الهائلة.
بداية، لم توافق كوريا على الانضمام إلى العقوبات الأميركية على الصين في مجال الرقائق. وكان على الأمريكيين إدارة عمليات معقدة لتغيير المناخ الاستراتيجي العام في آسيا وخلق بيئة لتبادل المصالح بين كوريا واليابان. وتطلب الأمر مناورات لإحكام التحالفات الغربية مع أستراليا والفليبين وسنغافورة وفيتنام إلخ. وأخيراً تحققت اللقاءات الكورية اليابانية، وأخيراً أيضاً تمت زيارة رئيس الوزراء الكوري لواشنطن، الأسبوع المنصرم.
خلال هذه الزيارة قدمت إدارة بايدن غطاءً استراتيجياً نووياً لسيول، في مواجهة جارتها الشمالية، إضافة للعديد من الصفقات الأخرى، وذلك مقابل إحجامها عن تصنيع القنبلة النووية، وانخراطها في “تحالف السيليكون” الغربي الذي تشكل لمواجهة الصين في هذه الساحة، ومن ثم المساومة معها لإعادة تحديد موقعها في تقسيم العمل الدولي الجديد حول التقنيات العالية.
لا شك بأن الصين ستحاول تكتيكياً شراء أكبر عدد ممكن من الرقائق لأطول فترة ممكنة. على المدى الاستراتيجي تحاول الصين توظيف أموال وقدرات هائلة لردم الهوة في صناعة رقائق السيليكون.
سيكون التحدي الأكبر بالنسبة إلى الصين في أحد خيارين: إما الانخراط بشروط جديدة في تقسيم العمل ضمن تحالف السيليكون، وإما الاعتماد على النفس لكسر احتكار التحالف. تقدر المصادر الغربية أن الصين ستحتاج لأكثر من عقد واحد لتنتج التقنيات البديلة، لكنها ستعاني عطش السيليكون في المدى المنظور.
تبقى هذه التقديرات غير حاسمة في ظل حرب تجارية معلنة وشعواء. ومع تفاقم الأزمات الكونية الأخرى في الطاقة والتموين والزراعة والأسمدة ومع تداعيات غزو أوكرانيا، تعزز إدارة بايدن تحالفاتها وتبحث الصين عن البدائل. لكن من المؤكد أن الأشهر المقبلة ستحمل المزيد من فصول هذه الحرب الشعواء.