الرئيسية / مقالات رأي / المملكة المتحدة في عصر العاهل الجديد

المملكة المتحدة في عصر العاهل الجديد

بقلم: شون أوغرايدي- اندبندنت عربية

الشرق اليوم– آخر مرة شهدت فيها بريطانيا حفلة تتويج، أي في عام 1953، لم يقل أحد إن “بريطانيا مكسورة”. عندها، كان البلد محكوماً بالنظام الطبقي وتسوده معاداة مؤسسية وشرسة للمثلية – حتى بالنسبة إلى أمثال جون غيلغود وألان تورينغ – ومتحيزاً ضد المرأة وأحادي الثقافة على نحو بشع ومنعدم المساواة.  

ملايين الناس كانوا يعيشون في الأحياء الفقيرة في وضع نسميه اليوم فقراً مدقعاً. وكان البلد يرزح تحت أعباء ديون الحرب. وإلى ذلك، لو استثنينا الفخامة الملكية بين الفينة والأخرى، كانت بريطانيا مكاناً قاسياً ومملاً وباهتاً ورمادياً. كان الطعام مريعاً فيما لم تمتلك سوى قلة قليلة من الناس سيارات، واعتبرت العطل خارج البلد حكراً على الأثرياء. 

بدوره، كان امتلاك المنازل والحسابات المصرفية كما التعليم الجامعي محصوراً بقلة قليلة من الأشخاص، من دون غيرهم. في تلك الفترة أيضاً كان الموت شنقاً ما يزال حكماً جنائياً سارياً فيما نفذ حكم الإعدام الظالم بحق تيموثي إيفانز قبلها بوقت قصير.  

ومع ذلك، لم ير أحد في هذا المكان ركوداً ويأساً.

بل على العكس تماماً. لو استعرنا عبارة أخرى شائعة في عام 2023، سنقول “لم نملك شيئاً لكننا كنا سعداء”، ومتفائلين جداً أيضاً. كانت بريطانيا لا تزال تحكم القسم الأكبر من أراضي إمبراطوريتها، وكل أراضي الكومنولث، كما اعتبرت نفسها ثالث قوة عظمى في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. 

وبدا بأن عودة وينسون تشرشل إلى رئاسة الوزراء شكلت تأكيداً على أن بريطانيا ما زالت قوة عالمية عظمى. وكان المشروع الذي نعرفه الآن بالاتحاد الأوروبي في بداياته. تمنت له المملكة المتحدة الحظ لكن لم تكن بها حاجة إليه. فجرت بريطانيا أول قنابلها الذرية في عام 1952. وفي المحصلة، قبل عشر سنوات ونيف، “وقفت الأمة وحدها” وتحدت ألمانيا النازية، وحققت أكبر إنجازاتها. بدا أن التتويج في عام 1953 وقتاً مواتياً لكي نذكر أنفسنا بهذا الإنجاز. فبريطانيا تبحث عن دور لها مرة أخرى. 

خلال يوم التتويج، في الثاني من يونيو (حزيران) 1953، وصلت إلى البلاد أنباء نجاح إدموند هيلاري وتينسينغ نورغاي في تسلق قمة إيفرست. بدا الإنجاز استعارة مواتية لتلك اللحظة. فرافق “العصر الإليزابيثي الجديد” إحساس ببداية جديدة وليس بالنهاية. وكما كان للعصر الإليزابيثي الأول قراصنته ورحالته ومستكشفيه وتجاره، واختراعاته في مجال التبغ والبطاطا، شهد العصر الإليزابيثي الجديد فتوحات جديدة في العلوم والفضاء الخارجي. 

حتى الملكة إليزابيث الثانية نفسها تناولت هذا الموضوع في خطابها للأمة بمناسبة عيد الميلاد عام 1953:

“أعرب بعضهم عن أملهم في أن يكون عهدي عصراً إليزابيثياً جديداً. بصراحة لا أشعر أبداً بأنني أشبه سلفي من أسرة تيودور التي لم تنعم بزوج ولا بأطفال، وحكمت باستبداد من دون أن تتمكن يوماً من مغادرة سواحل بلادها”. 

“لكن هناك وجه شبه واحد على الأقل بين عصرها وعهدي. إذ كانت مملكتها آنذاك، على رغم صغر حجمها وفقرها مقارنة بجيرانها الأوروبيين، تتمتع بروح عظيمة وفيها كثير من الرجال المستعدين للانطلاق نحو أصقاع العالم كافة”.

“وصحيح أن هذا الكومنولث العظيم الذي أفتخر جداً برئاسته، الذي تشكل تلك المملكة القديمة جزءاً منه، غني جداً بالموارد المادية لكنه أغنى بعد بروح المغامرة والشجاعة التي تتحلى بها شعوبه”.

“لم يدرك الأبطال المغامرون من أسرتي تيودور وستيوارت ماذا ستثمر المستعمرات التي أسسوها هم والرائدين الذين أتوا بعدهم. فقد انبثقت عن الإمبراطورية التي وضعوا إطارها أمم مترابطة لم يشهد العالم لها مثيل قبلاً”.

لم تفصح الملكة التي لم تتخذ يوماً موقفاً سياسياً متحزباً، عن رأيها بالتغييرات الأخرى التي طرأت على أحوال أتباعها. فقد أرسيت دعائم دولة الرعاية الاجتماعية وكانت هيئة الخدمات الصحية الوطنية شاملة ومجانية. قبل سنوات قليلة فقط من عهدها، لم يكن من المتاح للإنسان العاجز عن تحمل كلفة التأمين الخاص أو دفع رسوم المعاينة أن يزور الطبيب ما لم يكن الأخير مستعداً لمعاينته من غير مقابل.

وبعد فترة، بنت المجالس المحلية منازل أكبر وفقاً لمعايير أفضل. وتحققت لدينا العمالة الكاملة. فيما أخذت التجارة الدولية بالازدهار، وسرعان ما استبدل عصر التقشف بعصر “وفرة لم ننعم بها قبلاً”. وضعت روائع الاكتشافات التكنولوجية في ذلك العصر بخدمة بريطانيا: طائرة الركاب والحواسيب الأولى والقوة النووية والتلفزيون طبعاً. ولعبت بريطانيا دوراً رائداً فيها كلها.

كان تتويج الملكة أول مناسبة من هذا النوع تبثها محطات التلفزة وعزز الحدث مبيعات أجهزة التلفاز واستئجاره كثيراً، بسبب ارتفاع كلفة جهاز العرض الذي يبث بالأسود والأبيض ويوضع في طرف غرفة الجلوس. وسمح ذلك للأسرة البريطانية بالجلوس في المنزل على بعد مئات الأميال من دير وستمنستر ومشاهدة هذه المراسم القديمة المذهلة كما جرت بحذافيرها تقريباً طوال قرون.  

بعد فترة قصيرة، أصبحت بريطانيا مجتمعاً تلفزيونياً، حيث اضطرت العائلة المالكة شأنها شأن السياسيين والجميع، إلى التعامل مع ما وصفه هارولد مكميلان، الذي كان عندها وزيراً طموحاً لشؤون الإسكان لديه هدف إنشاء 300 ألف مسكن جديد سنوياً، بـ”عين الكاميرا الساخنة المتفحصة، تلك الآلات المتوحشة والعاملين بها”.  

أفسح هذا العالم الشجاع الجديد مجالاً لملكته الشابة وزوجها الأمير فيليب المحب للحداثة (وهو بالمناسبة من حرص على السماح لـ”بي بي سي” بدخول الكنيسة. وقد واجه معارضة من الملكة نفسها وتشرشل وكبير أساقفة كانتربري الذين اعتقدوا بأن مشاهدة أشخاص للحدث من منازلهم “أثناء احتسائهم القهوة” سينتقص من جلال المراسم). 

غطت شبكات التلفزة الأوروبية الحدث، وسمح للقنوات الأميركية، قبل سنوات عدة من تمكن الأقمار الاصطناعية من توفير هذه الخدمة عبر الأطلسي، أن “تسجل” البث المتلفز وترسله إلى الولايات المتحدة. شاهد نحو 27 مليون شخص في المملكة المتحدة، يملكون نحو 3 ملايين تلفاز تقريباً فقط، أول إنجاز في العصر الإليزابيثي الجديد.

وأثناء مشاهدة الناس المراسم المقدسة، شعروا بصلة شخصية معها وهو أمر يبدو أقل شيوعاً اليوم. لكن عندها، حتى المفكرين اليساريين في تلك الحقبة وجدوا أنفسهم مجبرين على الاعتراف بسحر عائلة ويندسور الملكية. لم يكن قد سمح وقتها بعد بتسليط الضوء على سحر الملكية، وتبديده بالتالي. 

في يوم التتويج في عام 1953، كتب الأكاديمي والنائب ووزير الدولة المستقبلي في حكومة حزب العمال ريتشارد كروسمان في مفكرته: “لا شك على الإطلاق في المهارة التقنية الهائلة لأداء التلفاز… بعد مقارنة ملاحظات النواب الذين اختاروا الحضور داخل الكنيسة، أو الجلوس خارجاً على المقاعد بقرب مجلس العموم، يجد المرء بأن كل شخص متيقن من أن تجربته هي الأفضل لأن الجميع شعروا بأنه عرض مذهل، أينما كانوا وبغض النظر عما كانوا يفعلونه، وهو أمر غريب”. 

“لكنني أعتقد بأن الذين لازموا منازلهم ليشاهدوا المراسم رأوا أكثر من الباقين، مع أنهم خسروا الألوان والشعور بالجماهير بالطبع. شخصياً، أرى بأن المراسم غير متناسبة أبداً مع الديمقراطية الحديثة، ولكن من يشاطرني هذا الرأي هو قلة من الناس على ما يبدو، لأن معارضيها يعارضونها بالمبدأ، ومؤيديها يمتنعون عن انتقادها كلياً”. 

من نواح عديدة، تشكل بريطانيا عام 2023 نقيض بريطانيا عام 1953. فهي بالطبع تحتضن مجتمعاً أكثر ثراء وانفتاحاً وتسامحاً وتنوعاً. أما الطعام، فأفضل بـ100 مرة. ويمكنك شراء ما تريد متى أردت ذلك. لكن هل نحن سعداء أكثر؟ أبداً.

والأهم من ذلك بعد هو أنه في ما يعني موضوع الملكية، انقضى عصر الإجلال.

فالفضائح المتتالية، التي ليس أقلها شأناً فضيحة الملك والملكة القرينة الحاليين، قوضت الثقة في المؤسسة واحترامها. إذ إنها سلسلة مؤسفة وأحياناً قذرة من الخيانات الزوجية والزيجات المحطمة والغدر وانعدام الأخلاق الصرف. ونرتعد عندما نتذكر الاعترافات المتلفزة التي أدلى بها تشارلز وبعده الأميرة ديانا بالإقدام على الخيانة. ثم الادعاءات الموجهة ضد الأمير آندرو ومقابلته الكارثية مع إميلي ميتليس، حين جرب أن يقنع العالم بأنه لا يتعرق. وبعدها الفصل المخزي المتعلق بالمعاملة الرهيبة التي تلقاها الأمير هاري، واتهامات التعامل بعنصرية مع ميغان، دوقة ساسكس. 

ربما تعد البرودة الظاهرية في رد فعل العائلة على وفاة ديانا في 1997 أسوأ مرحلة في حكم الملكة، ولحظة فقدت فيها إحساسها الذي لا يخطئ عادة بتوقعات الشعب.

أضرت كل هذه الأحداث التاريخية بالمؤسسة بشكل لم يكن من الممكن تصوره في عام 1953. في تلك الأيام، اعتقد جزء من الشعب البريطاني بأن الملكة أبصرت النور من خلال ولادة إلهية. لكن هذا الوضع كان على وشك أن يتغير والإعلام على وشك أن يصبح أكثر تدخلاً وفضولية مع ازدياد مطالبات الشعب بقصص شيقة. ومع ذلك، لم يكن في سلوك أسرة ويندسور أمور لم يكونوا قادرين على تفاديها.  

ربما الرب فعلاً ينقذهم – من أنفسهم كما من حيل أعدائهم الماكرة. على رغم التكهنات الكئيبة بشأن عدم اكتراث الشباب وجهودهم الخاصة غير المتعمدة، ليست الملكية البريطانية مكسورة. ونقول على سبيل استعارة بعض التفاؤل من خمسينيات القرن الماضي: ربما يسير البلد أيضاً على درب التعافي. 

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …