بقلم: رفيق خوري- اندبندنت عربية
الشرق اليوم– الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محظوظ ومردود في آنٍ. جاءت به إلى الإليزيه لحظة استثنائية من ضعف الأحزاب اليمينية واليسارية التي تعاقبت على الحكم، فتصور أنها لحظة تاريخية أعطته دورَ رئيسٍ غير عادي. وحاول إحداث تغيير جذري في فرنسا، وتغيير في دور فرنسا الخارجي، فاصطدم بأن المجتمع قوي، وإن ضعفت الأحزاب، وبأن فرنسا صارت ضعيفة في أوروبا والعالم. جرب تحقيق برنامج اقتصادي لمصلحة المصارف ورجال الأعمال في البيئة التي جاء منها، فكان الشارع خصمه الذي رد له البرنامج. وقال البروفيسور بيار روزافيون في “كوليج دو فرانس”، “اليوم، نرى ماكرون بوضوح: لديه أجندة واضحة في قضايا الاقتصاد، لا في القضايا الاجتماعية”. ورفع شعار “أمة فرنسية أكثر استقلالاً في إطار أوروبا أقوى”، وشعار “السيادة الاستراتيجية لأوروبا”، وراهن على أن “تكون روسيا جزءاً من أوروبا عبر هندسة جديدة لأوروبا” على طريقة رهان الجنرال ديغول على “أوروبا من الأورال إلى الألب”، فاكتشف أن عصر الديغولية انتهى، واصطدم بأن روسيا تريد أن تكون قطباً مقابل أوروبا. وحين غزت موسكو أوكرانيا، هرولت أوروبا كلها نحو أميركا لمواجهة روسيا في أوكرانيا، وسخر الجميع من “الاستقلالية الأوروبية ضمن الناتو”.
لكن ماكرون عنيد، ولا يتوب عن الأحلام الكبيرة. كان واضحاً أن فقدان حزبه الأكثرية في الجمعية الوطنية سيجعل ولايته الثانية بالغة الصعوبة، غير أنه أصر على برنامج داخلي يثير معارضة واسعة عابرة للأحزاب والنقابات. ورأى أمامه فرصة أكبر ليلعب دور “رئيس خارجي”، لكن الشارع لا يزال يمتلئ بالمتظاهرين ضد مشروعه لرفع سن التقاعد من 62 سنة إلى 64 سنة بحجة أن ذلك ضروري وملح، وإلا عجزت باريس عن تقديم رواتب للمتقاعدين. والرئيس “الخارجي” يتخبط في المواقف بين أميركا وروسيا والصين. فهو قد بدأ يخسر النفوذ الفرنسي في أفريقيا عبر انسحاب القوات الفرنسية بطلب أفريقي لمصلحة “فاغنر” الروسية. حتى ما اقترحه حول إنشاء “المجموعة السياسية الأوروبية” لحل مشكلة الصعوبة في دخول دول جديدة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن مضاعفات حرب أوكرانيا دفنته.
لعل ما نجح فيه ماكرون “الخارجي” هو اتفاق “الشراكة الاستراتيجية” مع العراق، والذي يتضمن محاور عدة في المجالات الاقتصادية والأمنية ومكافحة الإرهاب وتشجيع التبادل الثقافي. أما مع الجزائر وتونس والمغرب، فإن العلاقات الفرنسية تراوح باستمرار بين التفاهم والأزمات وحتى القطيعة. وأما البلد العربي الأقرب إلى فرنسا سياسياً واقتصادياً وثقافياً لأسباب تاريخية، وهو لبنان، فإن سياسة ماكرون سجلت فيه سلسلة من المبادرات الفاشلة. حين حدث انفجار رهيب في مرفأ بيروت دمر المرفأ ونصف العاصمة، جاء ماكرون في زيارة سريعة، تلتها زيارة ثانية. استقطب ماكرون الشارع في لبنان، وجمع أمراء الطوائف في السفارة الفرنسية، وطرح مشروعاً للتغيير الجذري، لكن أمراء الطوائف باعوه كلاماً جميلاً، ثم نقضوا كل ما جرى الاتفاق عليه. هاجم ماكرون التركيبة السياسية الفاسدة، ثم بدأ يبدل مواقفه ويراهن على التركيبة السياسية الفاسدة نفسها، من دون أن يحصل منها على أي إصلاح من النوع الذي يسهم في وقف الانهيار الكامل مالياً وسياسياً واقتصادياً. أراد ماكرون أن يلعب دوراً في ملء الشغور الرئاسي، فتحدث مع أميركا والسعودية وإيران، لكن عينه كانت على طهران والفرصة المفتوحة أمام المصالح الفرنسية فيها. وهكذا تبنى مرشح “الثنائي الشيعي” للرئاسة ضد الموقف السعودي والموقف الأميركي، وقبل ذلك ضد موقف الأحزاب المسيحية الكبيرة. ومن الصعب أن ينجح تماماً مثل “حزب الله” الذي يريد الهيمنة على رئاسات الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة. وأبسط ما في الموقف الفرنسي هو إطالة الشغور الرئاسي بما يزيد من عمق الأزمات في لبنان، حيث بات 80 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر.
يقول أوليفييه غالان السوسيولوجي في المركز الوطني للأبحاث العلمية إن “اللاثقة هي عنصر بنيوي في المجتمع الفرنسي، ثابت ومؤسس جيداً”. وهذا ما يفسر ضجر الفرنسيين من ماكرون بعد ضجرهم من كل الرؤساء الذين سبقوه، بمن فيهم الرئيس التاريخي الجنرال ديغول، لكن اللاثقة بماكرون وصلت إلى لبنان الذي راهن على الرئيس الفرنسي، فخذل القسم الأكبر من الشعب من أجل مصالح ضيقة لحلقة ضيقة في الإليزيه.