بقلم: رفاعة عكرمة- الجزيرة
الشرق اليوم– شارفت المنافسة السياسية في انتخابات 2023 التركية على نهايتها واقترب يوم الحسم، وهي انتخابات لافتة في كل تفاصيلها فهي ذات تداعيات لا تخفى وكثر الكلام عن هذا الجانب، ولن نركز عليه في هذا المقال، بل سنركز على دلالاتها وتداعياتها -لا سيما الإيجابية منها- على أكثر من صعيد.
لا شك في أن للمحاولة الانقلابية في يوليو/تموز 2016 أثر عميق في الوجدان السياسي التركي، وفي إعادة تشكيل المشهد السياسي فيها، إضافة للانتقال إلى النظام الرئاسي والاتجاه نحو التحالفات السياسية بين عدة أحزاب، وهذا الثالوث يقف خلف ما نراه من منافسات محمومة في المشهد السياسي، وهي منافسات لا تخلو في بعض جوانبها وبواعثها من صراع على الهوية وقلق عليها، وهي على ما تبدو هواجس غير محسومة، وتفرض إلى حد كبير إيقاعها على طامحي السياسة وطامعيها.
وسادت في السنوات الأخيرة محاور متباينة أشد التباين في الخطاب السياسي الداخلي، وظهرت للعيان نزعات تقف على النقيض وتتعالى الأصوات بكل منها، ولكل منها تياره وحوامله ومن يعززه ويسير به في كل جنبات المجتمع التركي، وظهر صوت يميني مرتفع في كل التيارات وصل إلى حد الانسحاب من الأحزاب العريقة لتأسيس أحزاب جديدة تأخذ وجها راديكاليا متصلبا في ردة فعل على الأداء التقاربي لقيادات تلك الأحزاب العريقة.
ففي جانب تحالف الشعب يقف قطبا التيارين المحافظ والقومي يدا بيد في مسار سياسي يتبادل الدعم، ومن عباءة الحركة القومية خرج حزب الجيد ليقدم خطابا قوميا أشد، ويتخذ مواقف أصلب تجعله متخندقا في رؤية قومية تكاد تكون أحادية النظرة، وكذلك في التيار المحافظ إذ خرج حزبا المستقبل والديمقراطية والتقدم، وكذلك نشأ حزب البلد من رحم حزب الشعب الجمهوري ذي الخلفية العلمانية المتصلبة، وتشكلت أحزاب أخرى، وفي مواجهته تبلور تحالف عابر للأيديولوجيا إن صح التعبير، ويسعى كلٌ منهما ليبدو كذلك، وليُظهر نفسه تحالفا برامجيا رؤيويا ذا أفق وطني ملموس.
حسابات الصندوق تنظم المواقف
ومع اقتراب الانتخابات بدأت حسابات الصندوق تنظم مواقف الجميع، ومن هنا كانت غالبية المشهد السياسي بطرفيه وقطبي تحالفاته الأبرز (تحالفي الشعب والجمهور)، حيث نرى أن مواقفهما تتجه شيئا فشيئا إلى ساحة التلاقي الوطني إن صح التعبير، أو لإعادة الاعتبار لمختلف تيارات الشعب وأطيافه العرقية والأيديولوجية والسياسية.
وكلا التحالفين زاد من عديد حلفائه واضعا بجانب أقطابه أحزابا لا تشبهه في المنطلق الأيديولوجي، ولكنه اختار أن يتشارك معها في التوجه لمختلف الشرائح والتيارات، ويتسابق لإعطائها التطمينات، ويجدد التقدير والاعتبار والاحترام لها كما هي ومن حيث هي، ويعدها بما يعززها على ما هي عليه، ولا يتوعدها بنقلها إلى ما لا توده، ويُقرها على تمايزها الثقافي والعرقي والفكري والأيديولوجي، ولكن في إطار جامع وهو القاسم الوطني، وهنا تعطي الديمقراطية وسباق الفوز بالأصوات للصراع السياسي عليها بعدا وطنيا، وتفرضه على الحياة السياسية التركية بشكل يكاد أن يكون غير مسبوق.
الكل يغازل الكل غزلا سياسيا غير مسبوق، ما عدا بعض الأصوات السياسية التي تتوجه لحاضنتها المتصلبة وتتمركز حولها، وتخاطبها وحدها، وهي أصوات لا تراهن على الفوز بقدر ما تراهن على إظهار (الإخلاص) للفكرة والمنطلقات وإبداء الصلابة في التمسك بها.
وفي سياق السباق الجدي نحو القصر الجمهوري وقبة البرلمان يتودد الكل للكل وبما يراعي حساسيات الكل، والرابح من ذلك مرحليا على الأقل هو المساحة الوطنية التي لا تفرِق ولا تستثني.
فها هو التيار العلماني يعتذر للتيار المحافظ عن سنوات الملاحقة وعن ممارسات التضييق، ويحرص على إظهار العلاقة المتفهمة للحجاب والمحتضن للمحجبات، وها هم أقطاب التيار المحافظ ينقسمون في تحالفاتهم بين القوميين والعلمانيين، ويتبادلون الخصومة على خلفية النظرة للمستقبل، والتقييم لماهية الأجدى للنظام السياسي الذي سيشكل مستقبل تركيا الحديثة والتي باتت وجها إقليميا بارزا ولاعبا دوليا صاعدا، ويتحدثون بخطاب يقدم الرؤى المحافظة في قالب قومي يستند إلى الخلفيات الثقافية والتاريخية، ويعتز بتمايزها والتمسك بها.
وخلف كل تلك التوجهات يحاول الجميع جسر الهوة مع المكون الكردي، والبناء على تفاهم معه، أو ضمان تفهمه -على الأقل- ليكون جزءا من صياغة مشهد الحكم القادم، وبات رسم المشهد السياسي التركي مؤسسا على قناعات التيارين المحافظ والكردي وتوجهاتهما الانتخابية، والفائز في الانتخابات من يستطيع استمالتهما وإرضاءهما، حيث بدا واضحا من الأداء السياسي أن تياري الماضي السياسي مقتنعان أنهما لا يستطيعان خوض الحاضر والفوز بالمستقبل دون ضمان الصوت المحافظ وتحييد الصوت الكردي إن لم يمكن كسبه.
معادلات سياسية بالغة التعقيد والحدة في الصراع المحموم لكسب مختلف شرائح الناخبين، ولكنها في عمقها ممارسة ديمقراطية لاهثة وراء الأغلبية الصانعة للفوز وهي غالبية ثبت أنه لا يستقل بها تيار دون آخر.
يدرك معظم الساسة ذلك، ويتحركون سياسيا واجتماعيا وإعلاميا وفقا لذلك الفهم وبمراعاة تلك الحساسيات، وهنا نجد أن المشهد السياسي التركي في دورته القادمة هو نتاج تكريس الاعتبار لكل أطياف الشعب ومكوناته واحترام مختلف تلاوين الشعب وتوجهاته الفكرية والإيدلوجية، بعكس ما بات عليه المشهد الانتخابي في العديد من الدول التي تشهد صعود اليمين واشتداد ساعده وتأثيره المتزايد على السياسة والثقافة والاجتماع.
وصحيح أن الاقتصاد وضغوط التضخم بمؤثريه الداخلي والخارجي، وتراجع الليرة التركية أمام الدولار، وارتفاع الأسعار، وشريحة الشباب هي عوامل مؤثرة في صناعة القناعة التصويتية وفي صياغة نتائج العملية الانتخابية، إلا أن كل هذا لا يؤثر على عمق التنافس الانتخابي، وعلى فهم المشهد الانتخابي لعموم ناخبي وناخبات الشعب التركي، ولا يغيب عن البال أن الشعب التركي ما زال من أكثر الشعوب إقبالا على المشاركة في التصويت والانتخاب، وبالتالي بات في وعي الجميع ألا مجال للمراهنة على الكتل الصلبة لناخبي هذا التوجه أو ذاك، وتترجم الوعود الاقتصادية للمتنافسين هذا الإدراك العميق للمشهد الحالي.
وأيا تكن نتائج المشهد الانتخابي في نسخته الحالية سواء على مستوى الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، فإنها لن تحسم نزعات التأثير في الوجه الوطني الغالب لتركيا المجتمع والدولة، ولن يحسم الجدل الاجتماعي السياسي على مكونات الهوية الوطنية لتركيا الحاضر والمستقبل، ولكنه سيجعل الدورة القادمة دورة ذات أدوات جديدة ووعي مختلف وأداء متمايز عما شهده المجتمع التركي في سنواته الأخيرة، وربما كانت دورة تؤطر التباينات الحادة، وتجدد هندسة الوطنية التركية وترسخ ثوابت الهوية التي تتلاقى قوى المجتمع والسياسة ومؤسسات الدولة على تأكيدها وصونها والتأسيس عليها، ويبدو أن العديد من الأحزاب الصغيرة تدخل غمار التحالفات بحماسة وحيوية لتكون جزءا من صناعة ذلك التأطير وهندسة مستقبل الهوية والوطنية.
وسيتعزز في الوجدان التركي فرز الرؤى الحادة لأي نوع من أنواع الهويات، وتكريس العوامل الثقافية المشكلة للشخصية التركية ومخيالها التاريخي والمنظور الذاتي لها في الحاضر والمستقبل، وسيكون للأداء الديمقراطي الحالي بنجاحات أقطابه وإخفاقاتهم عاملا معززا للعملية الديمقراطية وترسيخا لها كعامل حاسم في الفعل السياسي الثقافي الاجتماعي، وسيعزز الاحتكام إليه في فرز التباينات الإيديولوجية والسياسية والفكرية، وفي حسم خيار الاعتماد عليها وعلى الوعي الوطني الجامع في صراعات الوجهة والتوجه في خضم تحولات سياسية إقليمية ودولية بالغة التعقيد ستفرض على تركيا الحفاظ على وجهها الذي ميزها في عقودها الأخيرة، وتكريس دورها الناعم الذي اشتهر بتجنب الاستقطابات الحادة وتبريدها لتبقى دون حد المواجهات الساخنة مع التمسك بإعلان الرغبة بمستقبل دولي جديد تكون تركيا من أبرز لاعبيه وصانعيه.
وفي المشهد التركي الكثير من المؤشرات على أن الدورة القادمة ستعزز استقرار أدوات التفاعل السياسي الديمقراطية، وستدجن الصراعات الحادة وتوسع دائرة المشتركات التي ستغلب الجميع وستقودهم للتنافس ضمن دائرة المصلحة الوطنية بالمعنى التنموي والنهضوي أكثر مما ترتكز على الانتصار للون أيديولوجي على لون آخر، وستجعل تطلعات الجميع وحساسياتهم في قلب المعادلة، ولهذا فإن للمشهد الانتخابي التركي الحالي تداعياته ودلالاته التي تميزه، وتشد الأنظار إليه، وتحبس الأنفاس انتظارا لما بعد جلاء المشهد الانتخابي وما سيسفر عنه.