بقلم: راغدة درغام- النهار العربي
الشرق اليوم– دشّنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على مستوى رئيسها إبراهيم رئيسي، تكتيك الحضور الناعم في سوريا، كجزء من انطلاقتها الجديدة القائمة على تلطيف الأداء وتجميل الانطباع ليرافقا تعميق التوغّل وتوسيع نسيج النفوذ، طبقاً لاستراتيجية العنكبوت التي أقرها رجال طهران. وقع قرار البراغماتية الإيرانية على الابتعاد من اللغة القديمة الناطقة باسم التدمير والدمار واستبدالها بلغة التأقلم والإعمار. قدّم الرئيس الإيراني من دمشق أوراق اعتماده لدى الدول العربية التي تنوي إعادة احتضان الرئيس السوري بشار الأسد، وانتشاله من العقوبات ومصادرة قرار إعادة إعمار سوريا من الذين يثقلونه بالشروط. رسالته كانت واضحة بعناوين: نحن هنا، وباقون، وإننا شركاء في ترميم وتجديد سوريا ومستقبلها. فالنظام في طهران أدرك أن مصلحته تقتضي الآن كبت التهديدات وأساليب التوعّد لأنها لم تخدم غاياته، وارتأى أن المطلوب منه هو تهذيب الخطاب السياسي وتثبيت الوجود الاقتصادي وترسيخ الحضور الأمني والعسكري بصمت.
الازدواجية في السياسات الإيرانية فرضتها تطورات الاحتجاجات الداخلية التي ينوي النظام الاستمرار في قمعها واحتوائها بكل الوسائل. فلا تغيير في أداء الحكومة الإيرانية نحو الداخل الإيراني. أما على الصعيد الخارجي، فإن النظام في حاجة لتغيير صورته وتحسين أدائه ليغطّي على ما يقوم به في الداخل ويحوّل الأنظار عنه.
ما أوضحته زيارة رئيسي للأسد هذا الأسبوع، هو عزم إيران على تلميع صورتها كشريك تجاري وحليف اقتصادي لسوريا، لكن بإصرار كامل على البقاء هناك عسكرياً وأمنياً وكراعٍ لأذرعتها التي تعمل هناك، من “حزب الله” إلى مختلف الفصائل الفلسطينية.
الجديد يكمن في التكتيك، بحيث إن المطلوب من هذه الفصائل ومن “حزب الله” ليس تقليص الوجود أو فك الارتباط مع حكومة الأسد، بل المطلوب هو الانزواء قليلاً كي لا تكون النشاطات ظاهرة أو مثيرة للاحتجاج. فطهران تريد من شركائها تلطيف أساليب نشاطاتها لتتجنب لفت الانتباه واستدعاء المشكلات.
هذا في التكتيك. أما في الاستراتيجية، فلا إقلاع عن الأساس ولا تعديل جذري لمفهوم أدوار هؤلاء الشركاء أو لنوعية علاقاتهم بمركز القرار في طهران. في الاستراتيجية، إن النفوذ الإيراني داخل سوريا لن ينحسر أبداً، بل إن استمراره مطلوب إيرانياً ومطلوب أيضاً من الشريك والحليف الاستراتيجي بشار الأسد. قرارهما المشترك مبني على رؤية بعيدة المدى لسوريا، حيث الوجود الإيراني فيها طويل الأمد يتخطى الوجود العسكري ويتوسع اقتصادياً وتجارياً.
حذاقة الدبلوماسية الإيرانية انطلقت من التحوّل الكبير في سياساتها عبر الاتفاقية مع السعودية برعاية صينية. صحيح أن موضوع اليمن يتصدر القضايا الإقليمية التي يبحثها الطرفان، والتي تتعهد طهران التعاون بصدده عبر تشجيع الحوثيين بالعمل على معالجته.
لكن الدبلوماسية الإيرانية وضعت سوريا في طليعة أولوياتها الإقليمية في مسيرة الانفتاح والتفاهم مع السعودية، لأنها اعتبرت إعادة تأهيل سوريا عربياً فرصة قيّمة لطهران. فإذا نجحت الدول العربية في تخطي العقوبات المفروضة على سوريا وبدء إعادة الإعمار فيها، تستفيد إيران كشريك في هذا المشروع الضخم. هذا أولاً. ثانياً، إن انتشال سوريا من فكّي العقوبات ينتشل إيران أيضاً من العقوبات التي تطوّقها وتشلّ اقتصادها. كل هذا من دون كلفة لطهران سوى اعتماد الدبلوماسية الناعمة والاستفادة البراغماتية من الانفتاح.
فكّ الحصار الإقليمي عن سوريا مطلب إيراني كما هو مسعى لبعض الدول العربية. إنه نقطة لقاء لأسباب ليست متطابقة ولغايات ليست متجانسة بالضرورة. ثم هناك تفاصيل الشروط، منها السهل ومنها ما يقارب الاستحالة. فإذا كانت هناك دول خليجية عازمة على إقناع المعنيين في سوريا بإيقاف تجارة “الكبتاغون” لتصديرها إلى الخليج، فمَن وكيف سيعوّض عن تجارة يتردد أن حجمها يبلغ 10 مليارات دولار سنوياً. وإذا كانت إيران متمسّكة بقواعدها السرية في سوريا، فمَن سيضمن سكوت إسرائيل عنها؟
على صعيد الدول الأخرى المعنية بصورة أو بأخرى بسوريا، هناك نوع من أجواء مراقبة ما يحدث باهتمام متفاوت. تركيا في انتظار نتيجة انتخاباتها الرئاسية هذا الشهر، وما اتفق عليه رئيسي والأسد، وفق مصادر مطلعة، هو التمهّل في بحث الأمر إلى حين انتهاء الانتخابات.
موسكو تراقب الانتخابات التركية بقلق وتخشى ألا يفوز الرئيس رجب طيب أردوغان، لأن استمراره في السلطة بات حاجة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لذلك وافقت شركة “غازبروم” على تأجيل استحقاقاتها. تدهور صحّة أردوغان قد يحجب الدينامية الضرورية عن حملته الانتخابية في الأسبوعين المقبلين، وقد يؤدي إلى هزيمة لن تكون مقبولة له أو لجمهوره. وهناك مخاوف من تطورات خطيرة في تركيا قد تتطور إلى حرب أهلية، بحسب تقدير خبراء في الشأن التركي. كل هذا سينعكس على الدور التركي داخل سوريا.
روسيا منشغلة بحربها الأوكرانية التي تقبع الآن في ظل تطورات هي أيضاً خطيرة، إلا أنها بالغة الاهتمام بتركيا أكثر مما هي بسوريا. ذلك أن نتيجة الانتخابات التركية ستغيّر كامل المعادلة، إذا خسرها أردوغان. انهيار حلم إحياء الإمبراطورية العثمانية ليس أمراً عابراً. خسارة روسيا ممرها الأساسي لتخطي العقوبات الغربية سيكون مكلفاً جداً للاقتصاد الروسي. ثم إن هزيمة أردوغان، إذا خسر الانتخابات، ستكون موضع ارتياح لدى دول حلف الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
وبالتالي، إن هموم روسيا أكبر من سوريا، وهي مرتاحة لما يجري الآن من انفتاح عربي على سوريا ومن تأقلم إيراني مع الانفتاح العربي، ما دام صلب الوجود الإيراني في سوريا باقياً بل ويتوسّع اقتصادياً.
إدارة بايدن أيضاً منغمسة في شؤون تجدها أكثر أهمية لها اليوم من سوريا، من الحرب الأوكرانية إلى أزمة الديون إلى الصين وتطلعاتها التايوانية.
أما الصين، فإنها مرتاحة إلى ما أسفرت عنه رعايتها للاتفاقية السعودية – الإيرانية، وفي ذهنها كل ما يساعدها في تنفيذ استراتيجية “الحزام والطريق”، والتي يفيدها جداً ما تتبناه اليوم الدبلوماسية الإيرانية نحو الخليج وفي سوريا.
قرارات جامعة الدول العربية بشأن استئناف سوريا عضويتها المجمَّدة، أو المعلَّقة، ستكون محطّ اهتمام كبير، لا سيما عشية القمة العربية في جدّة في غضون أسبوعين. هناك خريطة طريق تشمل تعهدات تدريجية في تنفيذ الوعود المتبادلة.
ما سيفعله بشار الأسد هو بعث رسائل تفيد بالليونة والتغيير على الصعيد الداخلي، لكن من دون الارتكاز على القرارات الدولية التي رسمت خريطة الشراكة في السلطة، فهو رفضها ولن يقبل بها. قد يتخلى عن نسبة ضئيلة لمصلحة المعارضة، وهو قد يؤمن بمقولة أن إعطاء خمسة في المئة من السلطة إلى المعارضة يلغي المعارضة.
سيتجاوب الأسد كثيراً مع الطروحات العربية كما مع المواقف الإيرانية، وسيظهر وكأنه هو الذي يضحّي ويتعاون من أجل سوريا. وسيقوم الأسد بتلطيف الأداء وليس بتعديل النظام بإصلاحات جذرية، وهذا قاسم مشترك بين استراتيجيته والاستراتيجية الإيرانية.
فالأسد لن يفك الارتباط بإيران ولا بـ”حزب الله”، وأسس العلاقات الوطيدة ستبقى قائمة.
التغيير سيطرأ على المظهر لا على الجوهر. فإذا تطوّر حسن السلوك وحسن الأداء إلى تغيير تدريجي في الجوهر، فستكون تلك مفاجأة جيدة قد يأتي بها الزمن بتدريجية.
اليوم، إن “استراتيجية العنكبوت” الإيرانية تنسج الخيوط التي بموجبها يتم تنفيذ مبادئ النظام وعقيدته في طهران، لكن بعيداً من أساليب التهديد والفوقية والميليشياوية والإملاء والاستفزاز التي أتت بالكراهية لما يمثّله النظام وحلفاؤه. هناك كلام عن خطة خاصة بأداء “حزب الله” في لبنان بناءً على هذا المنطق، وليس فقط على أدائه خارج لبنان.
البعض يرى أن التمويه أسوأ من الجَلَف، لأنه يغطّي على المساوئ المتجذّرة. الرأي الآخر يقول إن العادات المكتسبة في زمن اليوم قد تطغى على العادات التقليدية بسبب فوائدها وكيفية تجذرها وتشعّبها. من المبكّر الحسم إن كانت إيران وشركاؤها سيجعلون من التمويه أساساً لاستراتيجيتهم العميقة، أو أن العادات المكتسبة ستصقل فكراً جديداً شيئاً فشيئاً.