بقلم: راغب جابر – النهار العربي
الشرق اليوم– مرة جديدة، وللسنة الثانية على التوالي، يسابق لبنان العالم على الدخول في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، لكن هذه المرة ليس كأكبر صحن حمص بطحينة أو أطول سندويش شاورما أو أكبر منقوشة زعتر وزيت كما درجت العادة التي كانت تثير سعادة اللبنانيين وفخرهم، إضافة الى فخرهم ببعض الإنجازات الرياضية المتفرقة أو العلمية او الفنية هنا وهناك، أو غرس العلم اللبناني على قمة جبل او في جليد قطبي..
حل لبنان أخيراً، أولَ في نسبة التضخم السنوية للأسعار بحسب أرقام البنك الدولي التي بلغت 261 في المئة عن السنة المنصرمة فقط، وبنسبة أعلى بكثير إذا احتسبت منذ بداية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. سبق لبنان زيمبابوي التي حلت في المرتبة الثانية بمعدل الضعفين تقريباً. تفوق لبنان على كل البلدان المأزومة من أفغانستان الى سوريا الى الصومال الى السودان وغيرها من بلدان العالم التي تشهد اضطرابات وحروباً.
قبل ذلك، وللسنة الثانية على التوالي، حل لبنان في ذيل ترتيب مؤشر السعادة العالمي من بين 137 دولة.
اللبنانيون أتعس شعوب العالم وأكثرها معاناة من ارتفاع الأسعار، ينافسون كل شعوب الأرض، وتعاستهم أضعاف أضعاف غيرهم من الشعوب، فهم هبطوا هبوطاً حراً من أعلى سلم مستوى المعيشة الى أسفله. خلال ثلاث سنوات تغيّر كل شيء في البلد وفي حياة الناس الذين صاروا يبكون “النعيم” الذي كانوا يعيشون فيه ويطلبون المزيد. حقيقة كان اللبنانيون يعيشون بمستوى أعلى بكثير من مستوى الدخل الوطني. كانت الدولة تقترض لتتؤمن استقرار سعر صرف الدولار على 1500 دولار. وكان الدين يتراكم على الدولة الى أن أفلست وأفلست معها المصارف وطارت أموال الناس، وفي أحسن الاحوال، احتجزت الى أجل غير مسمى على أن يتم التفاوض عليها اذا عاد البلد الى سكة الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي.
يركض اللبناني العادي، العامل والموظف والعسكري والمزارع والعاطل من العمل وصاحب المهنة، وحتى الطبيب والمهندس والصيدلي وراء الرغيف والرغيف يركض أمامه، على ما يقول المثل الشعبي. الأسعار ترتفع وفق متوالية هندسية، لا الدولة قادرة على لجمها ولا المواطن قادر على اللحاق بها. مشهد سوريالي وهستيريا عامة. وكأن السماء أطبقت على الناس. كأهل الكهف ناموا واستفاقوا ليجدوا أن عملتهم صارت قديمة وبلا قيمة.
صحيح أنهم حاولوا القيام بثورة لكنهم فشلوا فاستسلموا، وبدل أن يجمعوا صفوفهم وينظموا ثورتهم من جديد تفرقوا واختاروا طرقاً أخرى هاربين من مواجهة الطغمة التي دمرت حياتهم. التحق قسم بالطغمة يعيش على فتاتها، هاجر قسم كافراً بالبلد وبكل ما فيه، قعد قسم محبطاً يعيش على هامش الحياة، اتجه قسم الى النصب والاحتيال، امتشق قسم السلاح والسكين واتخذ النهب والتشليح مهنة له. نعم باتت هناك مهنة اسمها “الحرامي”. تزدهر هذه المهنة في الأزمات وعندما تضعف سلطة الدولة. الدولة ضعيفة ولا تملك القوة الكافية لفرض هيبتها. اللصوص يسرقون أسلاك كهرباء الدولة وممتلكاتها، يسرقون البيوت والمصانع والسيارات والدراجات وينشلون الناس في الشوارع وفي وضح النهار. يسرقون الغني والفقير. الحرامي لا يميز. الجميع عنده سواسية كأسنان المشط. الحرامي ليس عادلاً، ليس كلصوص الروايات والصعاليق الذين يسرقون الأغنياء ليعطوا الفقراء. الحرامي فاجر بلا ضمير وقد يتحول قاتلاً من أجل محفظة إمراة تسير في الشارع أو خزانة في منزل أو سيارة عائد صاحبها متاخراً من عمله.
لكن حرامي الشوارع والمنازل ليس وحده من يسرق مال اللبناني وحياته. سبقته الى ذلك الطغمة الحاكمة وتحالف السياسة والمصارف والتجار. البلد تحكمه أكثر من طغمة.
تضخم الأسعار في لبنان لا يستقر على حال، منذ صدر تقرير البنك الدولي قبل أيام تكون النسبة ارتفعت بضع نقاط. هي لا تستقر على رقم، لا يلجمها التسعير بالدولار. الذي أصبح عملياً العملة المتداولة. لبنان عملياً بلد مدولر بنسبة تقارب المئة في المئة. كل شيء يحتسب بالدولار، وإن كان الدفع يتم بالليرة اللبنانية. لن يتأخر الوقت الذي تسحب فيه الليرة من التداول. هي صارت عبئاً على الدولة التي تدفع المبالغ المرقومة لطبعها ونقلها وحراستها وتخزينها، وصارت عبئاً على المصارف والتجار وعلى المواطن أيضاً. مؤسسات كثيرة في القطاع الخاص باتت تشتغل بالدولار وتخلت عن الليرة. التوظيف صار على أساس الدولار. البيع بالدولار والرواتب بالدولار والخدمات بالدولار. صارت الليرة مادة للتندر والسخرية.
ما أتعس اللبنانيين الذين لا دولة ترعاهم ولا سياسة تأخذهم بالاعتبار. وما أفقرهم في بلد يهوي بلا ضوابط، وما أضعفهم إلا على بعضهم بعضاً وعلى الفقير والمسكين والـ “آدمي”.
في أي ترتيب سيكون لبنان في السنة المقبلة وأي أرقام سيحطم؟