بقلم: كرم نعمة – شفق نيوز
الشرق اليوم- حيال هذا العنوان المفرط بالثقة، نحتاج كمراقبين قدراً أعلى لتقدير قوة الولايات المتحدة وهيمنتها على اقتصاد وسلاح العالم، مع ذلك يبدو أن البوادر أقوى مما كانت عليه بعد أن انكسرت الغطرسة الأمريكية منذ سنوات.
فهل حقاً بمقدور الدول الابتعاد عن واشنطن، أو على الأقل اتخاذ القرار المناسب من دون التفكير بتبعية ذلك على طبيعة التأثير المحتمل الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة لاحقاً؟
يمكن أن نجد في كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يشبه الإجابة على هذا السؤال عندما قام بما بدا وكأنه لفتة كبيرة لكسر الاتفاقيات بإعلانه أن أوروبا يجب أن تصبح “القطب الثالث” على المسرح العالمي، وإثارة الشكوك حول اتباع الولايات المتحدة زمام المبادرة في أوكرانيا وتايوان.
لكن الزعيم العالمي الذي استهزأ بشكل مسرحي بالقيادة الأمريكية هو الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. منذ عودته إلى منصبه في كانون الثاني الماضي.
كان لولا دا سيلفا الذي أفضت هزيمته لجاير بولسونارو، وكأنها إعادة تنهد بالارتياح لانتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2020، يبذل قصارى جهده لإعادة تشكيل نظام عالمي غير مستقر. رفض إدانة الغزو الروسي ودعم أوكرانيا. أرسل وفداً للقاء الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي يعاني من الكراهية الأمريكية. أعلن عن خطط لعملة مشتركة مع الأرجنتين يمكن أن تتحول إلى نوع من اليورو في أمريكا اللاتينية. سافر إلى الصين مع عشرات من رجال الأعمال البرازيليين للتوقيع على أكثر من عشرين اتفاقية ثنائية. وبمجرد وصوله إلى بكين، انتقد نظامًا ماليًا عالميًا يتطلب فعليًا من جميع البلدان القيام بأعمال تجارية بالدولار.
في المقابل، يخرج من بكين خطاب عدائي في اتجاه الولايات المتحدة، إذ قال وزير الخارجية الصيني تشين قانغ “إذا لم تضغط الولايات المتحدة على المكابح واستمرت على نفس الطريق الخطأ، فقد تصبح المواجهة والصراع من الأمور الحتمية”.
ينبغي التذكير هنا أيضًا بما حذر منه الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف، من أن العالم ربما يكون على شفا حرب عالمية جديدة. ونبه إلى أن احتمالات اندلاع مواجهة نووية تتزايد أيضا.
مع كل هذه المؤشرات المحرضة على الذهاب أقصى ما يمكن في الابتعاد عن الولايات المتحدة، إلا أن علينا التمهل، فأكثر ما ترحب به واشنطن هو الحماقة السياسية من الدول، لأن ذلك يساعدها على تحقيق أهدافها.
على سبيل المثال، إذا كانت الغالبية العظمى من أجهزة الهواتف، ومعظم ما يدخل الولايات المتحدة من الألواح الشمسية لتوليد الطاقة، ونصيب الفرد الأمريكي من المضادات الحيوية، كل ذلك يتم إنتاجه في الصين، على الرغم من التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين؟ فهل ذلك يعني رسوخ العولمة وثباتها، أم وسيلة لخنق الولايات المتحدة قبل تركها في غرفة العناية الطبية في المستشفى السياسي الدولي؟
في العام الماضي، كانت الكلمة الطنانة للغة الجيوبوليتيكية هي “أزمة متعددة”، وهو مصطلح بدا وكأنه يجسد الأجواء السائدة للاضطرابات العالمية المتتالية: وباء كورونا، الحرب، تغير المناخ، أزمة الطاقة، المجاعة، انحسار العولمة، التضخم، الديون العالمية، ارتفاع أسعار الغذاء.
هذا العام، قد يكون المصطلح المكافئ هو “التعددية القطبية”، وهي كلمة إسفنجية متغيرة إلى حد ما للوضع العالمي المتقلب والشكل المتغير للطريقة التي يبدو أن المنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تفتح المجال الدبلوماسي والاقتصادي، كفرص للفاعلين الرياديين عبر المسرح العالمي، في صدى تاريخي لحركة عدم الانحياز في الحرب الباردة الأولى قبل نصف قرن.
ربما لا ينبغي أن تكون هذه الإيماءات مفاجئة. وفق الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية راتشمان جدعون “لم تأت تلك المرحلة الهادئة في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق من فراغ، إذ جاءت بعد أن كانت القوتان على شفا حرب حقيقية بسبب أزمة الصواريخ الكوبية، لكنهما اختارتا الحل السلمي، وبدأت اتصالات على أعلى مستوى بين الإدارة الأمريكية والكرملين وفتح خط ساخن بين البلدين وبين الجيشين الأمريكي والسوفيتي حتى تم التوصل إلى تسوية”.
لكن الكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز” ديفيد والاس ويلز، ومؤلف كتاب “الأرض غير الصالحة للسكن” يرى أن الرئيسين الفرنسي والبرازيلي أقل شبهاً بزعماء العالم الذين يستغلون الأضواء للتحدث خارج المنعطفات ويشبهون إلى حد كبير تجسيدات جغرافية سياسية ناشئة أكثر مرونة.
بالنسبة للأمريكيين الذين يحدقون بأعين ضبابية في عالم ما بعد كورونا وانكسار الغطرسة الأمريكية في العراق وأفغانستان، قد يبدو هذا المشهد مربكًا بعض الشيء. فخلال اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، اشتكى وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز نصف مازحًا من أنه يشعر “بالوحدة” فيما أسماه “الجانب الصحيح من التاريخ”. وقال “هناك قبول متزايد للتجزئة، وربما يكون الأمر أكثر إثارة للقلق. أعتقد أن هناك إحساسًا متزايدًا بأن الجزء الأمريكي قد لا يكون أفضل جزء يمكن ربطه.”
لكن المخاوف الأمريكية من حدوث تحول كبير قد تبالغ في تقدير حجم التغيير، وهو في نهاية المطاف انعكاس لميلنا إلى قياس اتجاه تاريخ العالم بشكل أقل مقابل معايير الماضي، مقارنة بتوقعاتنا للمستقبل.
في النهاية، ماذا يعني هذا غير الخروج عن السكة التي طالما انصاع العالم لطريقة رسمها من قبل مركز القرار في البيت الأبيض.
وهذا لا يعني أيضًا أن لا شيء يتغير، أو أن هذه التغييرات ليست معطلة، فقط أنه في اندفاعنا لتشكيل قصة للمستقبل القريب لحاجة العالم الخروج من تاريخ الهيمنة الأمريكية على العالم وإذلال الدول الضعيفة، قد تتقدم بعض القصص ببعض الحقائق.
بالنسبة لديفيد والاس ويلز، هذه إحدى نقاط القوة في “تعددية الأقطاب” إنها ليست خريطة مكتملة لنظام عالمي جديد بقدر ما هي بيان حول اتجاه الانجراف. فهناك تحول مذهل في الرأي العام العالمي ضد الولايات المتحدة في العقد الماضي، حيث أدى غزو أوكرانيا إلى إحداث تأثير طفيف على المسارات الثابتة. بخلاف ذلك ووفقًا لتقرير “عالم منقسم: روسيا والصين والغرب” الذي نُشر مؤخراً من قبل معهد بينيت للسياسة العامة بجامعة كامبريدج، فإن الرأي العام بين الدول النامية أكثر تفضيلًا لروسيا منه للولايات المتحدة، حتى في أعقاب غزو أوكرانيا. ولأول مرة كان أكثر ملائمة للصين أيضًا.
لكن إحدى السمات الغريبة لهذا التحول هي إنه من خلال بعض المقاييس التقليدية للمكانة العالمية، لا تشهد الولايات المتحدة أي تدهور كبير. كما أكدت مجلة “الإيكونوميست” مؤخرًا في قصة غلاف عن “اقتصاد أمريكا المذهل”، بغض النظر عن مشاكل المجتمع وسياسات الإدارة الأمريكية ومهما كان الأمريكيون أنفسهم ينظرون إلى حالة ومستقبل البلاد، من خلال المعايير الاقتصادية المبسطة، تظل الولايات المتحدة قوة طاغية خطيرة. لذلك تتبلور لدى العالم شجاعة التحدي للابتعاد عن واشنطن.