بقلم: خيرالله خيرالله – النهار العربي
الشرق اليوم- أين الشعب السوداني؟ يطرح هذا السؤال نفسه في ضوء مرور أسبوعين تقريباً على المواجهات بين الجيش النظامي السوداني وقوات الدعم السريع، أي بين الجنرال عبدالفتاح البرهان والجنرال الآخر محمد حمدان دقلو (حميدتي).
تكمن أهمّية السؤال في أنّ مجرد طرحه يكشف تراجع المجتمع السوداني مع مرور السنوات وتفكّكه. من يريد التأكّد من ذلك يستطيع العودة إلى ما حدث في الخرطوم في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1964.
للمرّة الأولى في المنطقة، يهزم المجتمع المدني العسكر ويخرجهم من السلطة وذلك بعد ست سنوات من حكم عسكري بدأ في العام 1958 بعدما سلّم المدنيون السلطة إلى الفريق إبراهيم عبود في ضوء عجز الأحزاب السياسيّة عن إدارة البلد. اضطرّ الفريق عبود وقتذاك إلى التراجع والاستقالة في مواجهة الحشود البشرية التي واجهت سلطة العسكر.
بعد المدنيين، فشل العسكر بدورهم، ابتداء من خريف العام 1958 في إدارة السودان. في خريف 1964 نزل المواطنون إلى الشارع. لم تمضِ أيّام قليلة إلّا واستسلم إبراهيم عبود وعاد المدنيون إلى السلطة. عاد أيضاً التناحر في ما بينهم بما سهل الانقلاب الذي نفذه، في العام 1969، ضابط آخر اسمه جعفر نميري يتمتع بمقدار لا بأس له من الرعونة والأفكار السطحية المستوحاة من تجربة جمال عبد الناصر في مصر. سبق النميري معمّر القذافي في ليبيا. كان انقلابه في 25 أيار (مايو) 1969، فيما كان انقلاب معمّر القذافي في أوّل أيلول (سبتمبر) من العام نفسه.
أظهرت الأحداث الأخيرة في السودان أنّ ليس في استطاعة أي فريق الانتصار على الآخر في معركة لم يكن البرهان مستعداً لها. استخف البرهان بـ”حميدتي” الذي أثبت أنّه لا يمكن الاستخفاف به بأي شكل على الرغم من عدم امتلاك قواته لمدرعات ودبابات ولسلاح جوّ. لكنّ الحلقة المفقودة تتمثل في غياب الشعب السوداني والمجتمع المدني. يقف المجتمع المدني مكتوفاً أمام المأساة الدائرة، علماً أنّه لعب دوراً في أواخر العام 2018 في إزاحة عمر حسن البشير الذي بقي في السلطة ثلاثين عاماً، بين 1989 و2019. أدّى إصرار السودانيين إلى الانتهاء من حكم البشير. لم يحصل ذلك، عمليّاً، إلّا بعد تدخل العسكر، بمن في ذلك البرهان و”حميدتي” اللذان أرادا توجيه رسالة فحواها أنّه يستحيل ابعادهما عن السلطة.
ليس المجتمع السوداني وحده الذي تراجع. تكفي نظرة سريعة إلى ما تشهده دول عدّة في المنطقة للتأكّد من أن العسكريين لا يصلحون لحكم الدول. يمكن أن تكون للحاكم ثقافة عسكرية وتجربة في هذا المجال. لكنّ الثقافة السياسيّة تبقى هي الأهمّ، كذلك القدرة على فهم التغيّرات الإقليمية والدولية. الثقافة العسكرية تخدم الثقافة السياسيّة في أحيان كثيرة، هذا ما تكشفه تجربة الملك عبدالله الثاني في الأردن وتجارب أخرى، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، على سبيل المثال وليس الحصر.
يعني انكفاء المجتمع المدني السوداني وغياب أي دور له في تقرير مصير هذا البلد المهمّ أن السودان مقبل على تطورات في غاية الأهمّية. ستكون لهذه التطورات انعكاساتها على صعيد البلد نفسه وعلى صعيد المنطقة. يعود ذلك، قبل أي شيء آخر إلى موقع السودان الذي يمرّ فيه نهر النيل في طريقه إلى مصر. السودان امتداد مباشر لمصر. كذلك، يعتبر السودان دولة مهمّة على البحر الأحمر، دولة لديها حدود مع دول أفريقية عدة بينها جمهورية جنوب السودان وليبيا وتشاد وإثيوبيا وإريتريا وأفريقيا الوسطى…
في النهاية، ما الذي سيحدث إذا انتصر البرهان وماذا إذا انتصر “حميدتي” وماذا إذا عاد عمر حسن البشير إلى السلطة في ظلّ أنباء عن تهريبه من سجنه في الخرطوم؟ الجواب، بكلّ بساطة، أنّ السودان يبدو أمام مستقبل مجهول في غياب مجتمع مدني وأحزاب على استعداد لتحمّل مسؤولياتها… وجوع ليس بعده جوع إلى السلطة لدى العسكر.
ليس السودان سوى نموذج آخر عن انهيار دولة عربيّة أخرى بسبب حكم العسكر من جهة، وتراجع المجتمع المدني من جهة أخرى. قضى الضابط الريفي معمّر القذافي على ليبيا. لن تقوم قيامة في يوم من الأيّام لسوريا ولا يمكن أن يعود العراق الذي بدأ رحلة انهياره الطويل في العام 1958 عندما نفّذ العسكر انقلاباً ذا طابع دموي على الأسرة الهاشمية. هذا ليس سوى غيض من فيض ما تبدو الأيام المقبلة حبلى به في منطقة لا شكّ أنّه يعاد تشكيلها.
بالنسبة إلى السودان نفسه، وفي غياب أي قدرة لدى البرهان أو “حميدتي” على تحقيق انتصار حاسم، أو إيجاد مخرج من الأزمة المصيرية التي يمرّ بها البلد، لا يمكن الحديث سوى عن حروب داخلية أخرى يصعب التكهّن بنتائجها أو بما ستفضي إليه. كلّ ما يمكن قوله إنّ الوضع السوداني انفجر. ليس معروفاً ما سيؤدي إليه هذا الانفجار، لا على الصعيد الداخلي ولا على الصعيد الإقليمي. الأمر الوحيد الأكيد أنّ ليس من يستطيع ضبط الوضع السوداني وليس من يستطيع إعادة السودان، البلد الغنيّ الذي استقلّ في العام 1956 إلى السودانيين…