بقلم: حسن إسميك – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- إلى أي مدى يستطيع أحدنا أن يكتب حول حادثة “حرق” القرآن الكريم التي وقعت مؤخراً، فيتجاوز موضوع الشجب والاستنكار، وهو تحصيل حاصل لدى كل مسلم، لنناقش هذه القضية في بعض أبعادها السياسية والثقافية بعيداً عن الانفعال العاطفي والغضب المشروع الذي لا بدّ منه؟
تابعت مثل كثيرين الحادثة الأولى التي وقعت في 21 يناير(كانون الثاني) الماضي والتي قام بها السويدي- الدنماركي راسموس بالودان زعيم الحزب اليميني المتطرف حتى في الاسم الذي أطلقه عليه (الخط المتشدد)، ثم الثانية في الدنمارك بتاريخ 27 من الشهر ذاته وعلى يد بالودان ذاته. وما شدّ الانتباه بشكل مختلف لهاتين الحادثتين هو الفترة القصيرة التي تفصل بينهما، علماً أن اليميني المتطرف لم يتوقف منذ 2017 عن القيام بهذه التصرفات الاستفزازية في عدة دول أوروبية، مُنع في بعضها وتمكن في بعضها الآخر من ارتكاب جرائمه.
ورغم أن إحراق القرآن الكريم في أوروبا يمتد لخمسة قرون تقريباً، إلا أن ازدياده منذ ثمانينيات القرن الماضي أصبح ملموساً، خاصة بعدما صارت دوافعه السياسية طاغية على الدوافع الدينية التقليدية التي عكست تاريخ العداء الديني بين الإسلام والمسيحية منذ منتصف الألفية الماضية.
من جهة المسلمين أنفسهم، كلما وقعت حادثة إحراق للقرآن الكريم فإنها سرعان ما تُصنف على المستوى الديني، وعلى المستوى الشعبي العام الذي يتبع له وينقاد لخطابه، بأنها شكل من أشكال معاداة الغرب للإسلام. وفي حين يعتقد كثيرون أن هذه المعاداة عامة وراسخة وقديمة، إلا أن مقايسة الحاضر بالماضي تشير إلى أن حدة معاداة الغرب للإسلام قد ضعفت كثيراً في عصرنا مقارنة مع السابق، وباعتقادنا فثمة أسباب كثيرة وراء ذلك، بعضها سياسي يتعلق بتطور العلاقات الدولية بين الأمم المسلمة ونظيراتها الغربية، وبالتالي ازدياد المصالح المشتركة والتحالفات بين الجانبين؛ وبعضها الآخر ثقافي يؤثر بشكل إيجابي في تكريس الحوار وتمكين التعارف بين الشرق والغرب، وبخاصة أن رجال الدين من الطرفين يشاركون في هذا الحوار ورعايته.
ثمة أيضاً سبب ديموغرافي اجتماعي تمثل في هجرة كثير من المسلمين باتجاه الغرب، واندماجهم في المجتمعات الجديدة وحصولهم على مواطنيتها، ومع أن هذا السبب كان ذا حدين، إلا أن تأثيره في الاحتكاك المباشر بين المسلمين وغيرهم، وتعرّف كل طرف على الآخر عن قرب، أسهم جيداً في إزالة الكثير من العقبات وتصحيح جملة من المفاهيم التي كانت تؤثر سلباً على الإسلام والمسلمين.
ولأن هذا السبب الأخير ذو حدين كما قلنا، فقد وجد فيه المتطرفون الراديكاليون من الغربيين حجة لتكريس نهجهم المتطرف، حتى لقد اعتبرت بعض أحزابهم أن إخراج المسلمين من أوروبا، أو من بعض دولها على الأقل قضية محورية في مشاريعهم السياسية، وبالرغم من ذلك، ومن تصاعد التيار الشعبوي، ما زال التأثير السياسي اليميني ضئيلاً على مستوى الحكومات الغربية. وهذا ما يفسر لجوءه إلى التصرفات الاستفزازية المباشرة، وأشهرها حرق القرآن الكريم بطبيعة الحال، والتي عادة ما كانت تحدث مثل فقاعات مؤقتة سرعان ما تنتهي ويتم تجاوز آثارها.
بالعودة إلى جانبنا كمسلمين، والتأمل في ردة فعلنا الغاضبة تجاه حرق القرآن الكريم في الغرب، ثمة عدة ملاحظات ينبغي برأيي الوقوف عندها في سبيل مراجعة ردة الفعل هذه وتطويرها باتجاه أكثر فعالية وإيجابية إن كان ذلك ممكناً، وأعتقد أنه ممكن ومفيد أيضاً.
أولى هذه الملاحظات هي غلبة التعميم الذي تنساق إليه الشعوب المسلمة، إذ يُنظر إلى أي حادثة اعتداء في الغرب على المقدسات الدينية بأنها اعتداء من الدولة كلها التي وقعت فيها الحادثة، ويتم التركيز على اسم الدولة وحكومتها، وغالباً لا يُعرف اسم المعتدي المباشر، سواء كان فرداً أو حزباً أو جهة، (أتذكر في هذا السياق بعد أن نشرت مجلة شارل إيبدو الفرنسية رسوماً مسيئة للإسلام حضرت خطبة جمعة عن ذات الموضوع، ركّز فيها الخطيب على عداء فرنسا وأوروبا والغرب عموما للمسلمين ولم يذكر اسم المجلة ولو لمرة واحدة، ولو كان يحفظ اسمها لذكرها!).
ما أود قوله حول مشكلة التعميم هذه، أنه حين يكون الجميع متهماً فلا وجود لمتهم، ومن ثم سيتم تمييع صفة (الجرمية)، إذ لن يكون مهماً لدى دولة بكاملها اتهامها بجريمة لم تقم هي بها. وهنا تتوضح أهمية الشجب والاستنكار، ومع أن هذه الكلمات تلقى التشكيك والسخرية أحياناً لدى “الغاضبين” من المسلمين، إلا أنها الأكثر نفعاً وتأثيراً في حماية مقدسات الإسلام عندما يتم استخدامها بالشكل الصحيح والمناسب.
وخطاب الشجب والاستنكار، أو الإدانة، هو الخطاب الرسمي الذي تقوم بها الدول والمنظمات والهيئات لتعبر عن موقفها الرافض لفعل ما، وهو أحد الأساليب السياسية التي لا يمكن الاستغناء عنها إلا حين اللجوء إلى الصراع المباشر، وهذا ما لا نتوقع حدوثه، ولا فائدته إن حدث، إزاء القضية التي نناقشها.
وحين يتخذ الشجب والاستنكار طريقه الرسمي، فإنه ينجح غالباً في إثارة النقاشات في الدولة التي يقع الاعتدء على أراضيها، سواء على المستوى الرسمي لدى حكومة الدولة وبرلمانها، أو على المستوى العام إعلامياً وشعبياً، فيعلو صوت الداعين إلى إعادة النظر في السماح بهذه التصرفات، وإلى إخراجها من دائرة الأفعال التي يكفلها مبدأ حرية التعبير عن الرأي، بل يوجد بين الغربيين أنفسهم ناشطون وسياسيون ومفكرون يدعون إلى تجريم هذه الأفعال وإدراجها ضمن جرائم التمييز والحض على العداء والكراهية، لكن المشكلة أن هذه الجهود لم تثمر بعد بشكل ملحوظ لافتقارها إلى المتابعة والاهتمام اللازمين. وحبذا لو كان لدى المسلمين أنفسهم، من داخل هذه الدول وخارجها، خطط واضحة وبعيدة المدى للتأثير على المؤسسات التشريعية المعنية ودفعها لتجريم كافة أشكال الاعتداء على المقدسات الإسلامية، وعلى كل مقدس ديني بالعموم.
أما الملاحظة الثانية في تفسير ردة الفعل الإسلامية الشعبية على حوادث الاعتداء فتتعلق بحالة الجهل العام بالغرب ودوله وحكوماته وقوانينه، والجهل أيضاً بفلسفة الحرية التي يعتنقها نظرياً ويطبقها في ممارساته عملياً، إذ أن غلبة النهج العلماني على دساتير هذه الدول وقوانينها يجعل شعوبها لا تفهم تجريم نقد المقدس فقط لأنه مقدس، وعليه فكل فعل هو مسموح به فيها ما لم يتسبب بالاعتداء على حقوق الآخرين أو على المصلحة العامة، لذلك يعدّ نقد المقدس الديني، حتى المسيحي، أمر لا يخالف القانون إلا فيما ندر، ولن يفهم الغربيون كيف يجب عليهم عدم المساس بدين غيرهم في حين أنه لا يجب عليهم ذلك بالنسبة لدينهم، خاصة إذا علمنا أن نسبة المسيحيين في السويد هم أقل من نصف السكان، وأن 55% من السويديين لا دينيون، أما الدنماركيون فيُصنفون بأنهم الأقل تديناً بين جميع الشعوب الأوروبية.
إزاء هذه المعطيات، من الخطأ إذن أن ننتظر من الغرب تجريم الاعتداء على المقدسات الدينية بناء على دوافع دينية كما نؤمن نحن ونعتقد، بل ينبغي أن نربط هذه الدوافع بحقوق الإنسان المؤمن ذاته، وبتجريم هذا الشكل من أشكال الحض على الكراهية والتمييز، مع التوضيح بأنه سبب يلحق الأذى بالمصالح العامة بين المجتمعات، وهذا ما يحيلنا إلى النقطة ذاتها التي ناقشتها قبل قليل. وأعتقد أنه ينبغي علينا الاستفادة من قوانين معاداة السامية بغض النظر عن موقفنا منها، ومثلها أيضاً قوانين بعض الدول التي تجرم إنكار محرقة الهولوكوست، وأيضاً بغض النظر عن موقفنا منها، وأقصد بالاستفادة هنا أن ينجح تيار إسلامي عام في استصدار قوانين عالمية ومحلية غربية تجرّم الاعتداء على المقدسات الإسلامية.
الملاحظة الثالثة تتعلق بسلاح المقاطعة الاقتصادية، وهو أشهر الأسلحة التي يتم استخدامها في إزاء مثل هذه الوقائع، ومع أن المقاطعة الاقتصادية قد تتخذ في بعض الأحيان شكلاً رسمياً، فتتوقف بعض الدول الإسلامية عن التعامل التجاري والاقتصادي مع دولة وقع فيها اعتداء على مقدسات الإسلام، إلا أننا لا نبحث كثيراً في الأسباب التي توجب المقاطعة الرسمية، وأهمها أن يصدر هذا الاعتداء عن الحكومة الغربية ذاتها، أو أن تكون مؤيدة له وبشكل رسمي أي كان نوعه، وهذا نادراً ما يحدث!
ثمة مقاطعات أخرى تكون شعبية، إذ يتوقف الناس من تلقاء أنفسهم عن شراء بضائع الدولة التي وقع فيها الاعتداء رغم توفرها في الأسواق، خاصة عندما يكون لهذه البضائع بدائل أخرى. ومع أن سلاح المقاطعة الشعبية هذا يعطي بعض نتائجه على المدى القريب بإلحاق خسائر اقتصادية، إلا أنه لم يحقق نتائج نهائية حتى الآن، وعادة ما تنتهي المقاطعة بعد عدة أشهر، أو قد تصل لعام كامل في حالات استثنائية.
الملاحظة الأخيرة التي سأقف عندها تتعلق بازدياد حدة الضجة الإعلامية التي تترافق مع هذا النوع من الأحداث، إذ تركز كثيراً على الحادثة نفسها، ثم على ردود الفعل والردود المضادة لها، وتسعى لتسليط الضوء على التصريحات السلبية أكثر من الإيجابية، وبذلك ينجح المعتدي دائماً في تحقيق أهدافه من اعتدائه، والتي ليس أقلها شد الانتباه له ولما يفعله ويصرح به، وانقسام الرأي حول تأييده أو معارضته، ونشر أفكاره مهما كانت متطرفة، وبالتالي خدمة مصالحه بالنيابة عنه، إذ بمجرد حرق نسخة من القرآن الكريم والتغطية الإعلامية البسيطة المرافقة في البداية، سيحقق المعتدي هذه الأهداف التي كانت ستكلفه الكثير من الوقت والمال لو أراد تحقيقها بطرق أخرى.
وليس بوسعي هنا أن انتقد التغطية الإعلامية بحد ذاتها، فهذه طبيعة الإعلام وهذه أدواته، ومعروف عنه الاهتمام بكل ما يثير الخلاف والاختلاف، لكني أنتقد قصور الطرف الآخر (أي نحن) عن إدارة تغطية إعلامية فاعلة ومؤثرة في تحقيق الأهداف والوصول إلى النتائج التي يسعى للوصول إليها لتجاوز ما استطاع الطرف المعتدي تحقيقه وإفشال ما خطط له.
أتمنى إذن أن ندرك ما ينبغي إدراكه عندما يتم الاعتداء على المقدسات الإسلامية في الغرب، وأن ندرك أنه لا يمكن إيقاف هذه التصرفات، أو الحد منها ولو نسبياً إذا لم نطور أدوات رفضنا و”غضبنا”، وأن ننتبه إلى أن تعميم تهمة الاعتداء على الجميع سيمعن في تكرارها واستمرارها، وفي خسارة الأصوات الداعمة لرفضنا والمتفهمة لغضبنا. ولذلك أعتقد أن استقبال الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر لرئيسة وزراء الدنمارك مؤخراً، وانتقاده لإساءة استخدام الحريات في الغرب، والتي من الواضح أن المقصود فيها ضمناً حادثة الاعتداء الأخيرة على القرآن الكريم، ومن ثم تأكيده على أهمية الدين ودوره في الحياة الإنسانية وتكريس قيمها، هو خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح إزاء هذه التصرفات، خاصة وأن رئيسة الوزراء قد صرحت بالمقابل عن اهتمامها بدعم وترسيخ التواصل بين الشرق والغرب، وتقديرها لما يقوم به شيخ الأزهر لنشر قيم الأخوة الإسلامية والسلام العالمي والتعايش بين البشر. ومن المهم أيضاً التذكير هنا بما صرح به رئيس وزراء السويد، معلناً إدانته لحادثة الاعتداء، ودعوته للتمييز بين ما هو قانوني وما هو لائق وملائم، ثم الإعراب عن تعاطفه مع جميع المسلمين بسبب الإساءة لهم جراء هذا الفعل.
أخيراً.. لا أنكر مشاعر الغضب والاستياء التي أشعر بها ويشعر بها كل مسلم جراء الاعتداء على كتاب الله، وهي مشاعر صادقة وحقيقية لدى الجميع، لكن صدقها لا يعني ضمان فعاليتها، لذلك ينبغي إدراك أهمية تطوير أساليب رفض هذا الفعل، لنتمكن من تجاوز حالة الانفعال التي قد يقرنها الغرب برفض حرية التعبير عن الرأي، وإثبات أن الاعتداء على المقدسات الإسلامية يؤدي للتعصب والتطرف والحض على الكراهية والعنف، ويعطل مساعي الجميع في تمثل قيم حقوق الإنسان وقبول الآخر وتكريس الحوار، ويزيد من تفشي مظاهر التمييز الديني والإساءة لمشاعر المؤمنين ومعتقداتهم، وبالتالي حقوقهم.