الرئيسية / الرئيسية / ستراتيجيكس: المعادلة الإقليمية بعد استئناف العلاقات السعودية الإيرانية

ستراتيجيكس: المعادلة الإقليمية بعد استئناف العلاقات السعودية الإيرانية

الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يتناول التحليل الإعلان عن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية الذي تم برعاية صينية، ويبحث في دوافع كل من السعودية وإيران وراء هذا الإعلان، وفي طبيعة تأثير ذلك على المُعادلة الإقليمية، وانعكاسه على مجمل الملفات والقضايا في المنطقة.

أدناه النص كما ورد في موقع المركز:

نجحت الوساطة الصينية في الإعلان عن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، لتنهي السنوات السبع من القطيعة بين الدولتين، وبعد عدة جولات من المفاوضات خاضها الطرفان منذ العام 2019 برعاية العراق وثُم سلطنة عُمان، بالإضافة إلى لقاء وزيري خارجية البلدين على هامش مؤتمر بغداد بدورته الثانية في الأردن عام 2022.

شكلت العلاقات السعودية الإيرانية خلال العقد الماضي، بما تضمنته من تباين في المواقف وشدة في التناقض إزاء العديد من الملفات والقضايا الإقليمية، أحد أهم الملفات المهمة عند مناقشة المُعادلة الإقليمية للشرق الأوسط، فقد كان لها الأثر في العديد من أزمات المنطقة في كل من اليمن وسوريا ولبنان والعراق، كما وجدت امتدادها في السياقات الدولية؛ من خلال المساهمة في التأثير على الأحداث العالمية وترسيخ علاقتهما بالفاعلين الدوليين.

وجاء مع استئناف العلاقات بين الدولتين، الإعلان عن نوايا تبادل التمثيل الدبلوماسي في غضون شهرين، والتأكيد على احترام سيادة الدولتين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة في العام 2001 واتفاقية التعاون في مجال “الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب” الموقعة في العام 1998، إلى جانب التصريحات المُتبادلة والتي تظهر نية جادة بين الدولتين في المضي قدماً لإنجاح عودة العلاقات.

إن نجاح الاتفاق، وبالرغم مما يواجهه من تحديات، سينعكس بشكل أو بآخر على المُعادلة الإقليمية، وعلى شكل العلاقات بين دول الشرق الأوسط، وكذلك على حالة ساحات النزاع في المنطقة، وستطال امتداداته البُعد الدولي وتحديداً كل من الولايات المتحدة والصين راعية العلاقات، وتلك الانعكاسات تكشفها دوافع الدولتين في الإعلان عن استئناف العلاقات في هكذا توقيت.

دلالات التوقيت وأبعاد الإعلان

لتوقيت الحدث دلالات عدة وأبعاد ثلاث. إذ تشتد المُنافسة الدولية بين الولايات المُتحدة والصين، وتتخذ طابعاً أقرب ما يكون بعودة “الحرب الباردة” لكن هذه المرة عبر الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية، حيث الولايات المتحدة تسعى لإحكام سيطرتها على منطقتي المحيطين الهندي والهادئ في إطار من التحالفات والشراكات، بهدف مواجهة التوسع الصيني المتنامي في آسيا والمحيط الهادئ، فقد شهد العالم الاتفاق الرباعي (كواد) الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة كلٌ من اليابان وأستراليا والهند، وتحالف أوكوس الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. إذ تقدم هذه التحالفات بديلاً عن الصين في الشؤون الاقتصادية والمعلوماتية والأمنية، وتوفر قوة ضاربة تعادل النفوذ الصيني، على امتداد بقعة جغرافية شاسعة.

بالمقابل، تسعى الصين هي الأخرى لكسر الطوق الذي تحاول الولايات المتحدة إحكامه، بالنزول إلى بيئة إقليمية صعبة ومُتقلبة مثل الشرق الأوسط، إذ أبرمت الصين شراكات استراتيجية مع العديد من دول المنطقة لا سيما السعودية وإيران، اللتان تربطهما مصالح استراتيجية بالصين، وهي نُقطة مُعززة لواقع إعلان استئناف العلاقات، إلى جانب أن زيارة الرئيس الصيني للسعودية في ديسمبر 2022 شكّلت محطة هامة في تعزيز علاقاتهما الاستراتيجية فقد نتج عنها البناء على اتفاقيات الشراكة الشاملة، بسلسلة من الإجراءات التنفيذية العملية المرتبطة بجداول زمنية، على رأسها مذكرات التفاهم الهادفة لمواءمة مبادرة الحزام والطريق الصينية مع رؤية السعودية 2030، وكذلك الحال بالنسبة لإيران حيث ترتبط مع الصين بـ”الشراكة الاستراتيجية الشاملة” والتي تبلغ مدتها 25 عامًا، والموقعة في 2021 وتشمل على مجالات النقل وخاصة النقل بالسكك الحديدية والطاقة والبنى التحتية.

أما فيما يخص المملكة العربية السعودية، فمسار علاقاتها مع الولايات المتحدة يمر بمرحلة هامة من إعادة ترتيب الأولويات، لا سيما في ظل إدارة الرئيس الأمريكي -الديمقراطي- جو بايدن، الذي أعلن ومعه بعض من أعضاء الكونغرس الأمريكي عن “إعادة تقييم” لعلاقات واشنطن بالرياض، إثر قرار أوبك بلس بشأن خفض انتاج النفط بنحو 2 مليون برميل في أكتوبر 2022، بعد أشهر معدودة من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية في يوليو من العام ذاته، من أجل الحوار حول زيادة إنتاج النفط.

ذلك التوتر في العلاقات غير منفصل عن جملة من التحولات، على صعيد السياسة الخارجية السعودية، التي تتحرك منذ فترة ضمن مجال من الانفتاح، فقد شهدت العلاقات السعودية التركية تقارباً ملحوظاً؛ تم ترجمته من خلال مساهمة سعودية في عمليات الإغاثة والإنقاذ إبان الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا فبراير الماضي، وإعلان الصندوق السعودي للتنمية عن اتفاق لإيداع 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي. وعلى المُستوى الدولي فإن الرياض تسعى إلى تنويع خياراتها الاستراتيجية في ظل بيئة دولية تبدو أنها تسير نحو التعددية القطبية التي لن يحسم مصيرها خلال العشر سنوات القادمة، خصوصاً بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية الحالية، وتعميق الشراكة الصينية الروسية، وكلا الدولتين لا تخفيان الرغبة في تغيير قواعد النظام الدولي القائم.

إن التقارب السعودي الإيراني  متوافق مع تحولات السياسة الخارجية السعودية وتغيرات الساحة الدولية، إلى جانب جُملة من الاستنتاجات الأخرى التي توصلت إليها الرياض بعد انخراطها في أزمات المنطقة طوال العقد الماضي، والتي مفادها؛ أن حسم تلك النزاعات لصالح أحد أطرافها أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، وعلى رأس تلك الأزمات تأتي الأزمة في اليمن، حيث أدركت السعودية أن استمرار انخراطها فيها، يُعد استنزافاً لقدراتها المالية ومقوماتها الاقتصادية وجهدها العسكري، ولذلك فهي تتحرك باتجاه حل الأزمة حتى في مرحلة ما قبل المحادثات مع إيران.

أما بالنسبة لإيران، الطرف الآخر من الحدث؛ فهي تعيش عُزلة دولية، وسط جُملة من التحديات والتهديدات، وفي ظل حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية، التي تشهدها البلاد منذ اندلاع الاحتجاجات في 8 سبتمبر 2022.

في السابق، كانت هُناك آمال إيرانية بأن التوصل إلى اتفاق نووي مع إدارة بايدن الديمقراطية بات وشيكاً، إلا أن الوقائع اللاحقة لمفاوضات فيينا أظهرت خلاف ذلك، وإلى جانب الضغوط الاقتصادية المُتفاقمة جراء العقوبات الأمريكية، وثُم جائحة كوفيد-19، هناك ضغوط خارجية وداخلية وأمنية تمارسها أطراف دولية وإقليمية على طهران، للامتثال إلى المطالبات بوقف برنامجها النووي ووقف تطوير صواريخها الباليستية، ووقف سلوكها الإقليمي وسياساتها العدائية. بالإضافة إلى أن المطالب الشعبية والاضطرابات السياسية والاجتماعية الداخلية، تُحمل النظام الإيراني مسؤولية حالة التردي في الأوضاع الاقتصادية بسبب انشغال السلطات بأزمات الخارج وتوجيه موارد الدولة لوكلائها في المنطقة. لذلك يمكننا القول بأن مجال حركة النظام في أضيق حالاته، والخيارات المطروحة أمامه محدودة للغاية.

المعادلة الإقليمية ما بعد الإعلان

لا تزال أزمات المنطقة وصراعاتها، تُثبت حاجة المنطقة إلى طرف خارجي، من أجل إرساء السلام بين دولها، أو لفرض التوازنات بين الفاعلين فيها، وبينما الإعلان عن استئناف العلاقات، وضع الصين في حيز نُظر له منذ عقود بأنه دور محجوز للولايات المتحدة، إلا أنه من المبكر الحُكم على مآلات ذلك الإعلان، وعلى قُدرة الصين كوسيط بين دولتين مثل السعودية وإيران في إدامة تلك العلاقات؛ وبحكم ما تقدم فإن التأثير على المعادلة الإقليمية مرتبط بجملة من الأبعاد والعوامل أهمها:

أولاً: في حالة السعودية وإيران فإن الخلاف يتعدى الأبعاد الدبلوماسية أو التقنية أو حتى المقاربات السياسية، بقدر ما يُعد خلافاً بين مشروعين، بخلفيات أيديولوجية متباينة، يتبنى وفقاً لها كل طرف معادلة إقليمية تختلف عن الآخر بشكل كُلي.

وإلى أبعد من ذلك؛ فإن مشروع إيران التوسعي، والمستند على نشر أدواتها ومد أذرعها عبر الإقليم، من خلال دعمها للجماعات المُسلحة المنتشرة في دول عدة، لا يستهدف الرياض بشكل أساسي، بقدر ما هو جزء من استراتيجية تحمي بها أمنها القومي، خشية من هجوم أمريكي مماثل لما حدث في العراق عام 2003، ولاحقاً أصبح جزءا من استراتيجية المواجهة مع إسرائيل، تحت مُسمى “محور المقاومة”، والقائم على تشكيل حزام مسلح يطوق إسرائيل على حدودها مع قطاع غزة ولبنان والقنيطرة، وفي الخلف طوق مُساند له في اليمن والعراق وصولاً إلى إيران، لمعادلة التفوق التكنولوجي والجوي للجيش الإسرائيلي.

ثانياً: هُناك فاعلين آخرين مؤثرين في المشهد الإقليمي، لا سيما تركيا وإسرائيل. لكل منهما مصالحه وصيغته الإقليمية الخاصة به، فبينما يبدو نطاق تأثير استئناف العلاقات السعودية الإيرانية ضئيلاً على تركيا، إلا أنه يتقاطع مع المعادلة الإقليمية التي تسعى إسرائيل لإرسائها، من حيث رغبتها في توسيع اتفاقيات السلام والاندماج مع دول المنطقة، أو من جهة محاولتها تأسيس تحالف إقليمي مناوئ لإيران. وقد وصف “يائير لبيد” رئيس المعارضة الإسرائيلية الاتفاق بأنه بمثابة انهيار لجدار الدفاع الإقليمي ضد إيران.

من جهة أخرى، يرى المراقبون في إسرائيل، أن مضي السعودية في علاقاتها مع إيران، ما كان ليتم لو كانت دول المنطقة تثق في القدرات العسكرية الإسرائيلية، وفي إمكانياتها توجيه ضربات قاضية ضد منشآت إيران النووية، أو الدخول في حرب أوسع مع شبكة حلفائها في المنطقة، وعليه اختارت السعودية عدم الرهان على قدرات الآخرين؛ خاصة بعد أن اختبرت الموقف الأمريكي إبان الهجمات التي تعرضت لها منشآت نفطية تتبع لشركة أرامكو في 14 سبتمبر 2019، ورغم اتهام إيران بالانخراط في تنفيذها لم تتخذ إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، موقفاً جاداً يُجاري خطورتها.

ثالثاً: لا تزال الرؤية الأمريكية من استئناف العلاقات السعودية الإيرانية غير واضحة، من جهة فهي مستفيدة بكون الاتفاق يتناسب مع رغبة واشنطن في تهدئة صراعات الشرق الأوسط عبر الأطر الدبلوماسية، وقد شجعت إدارة بايدن منذ قدومها على اعتماد الأطر الدبلوماسية في حل الخلافات، وفوضت دول المنطقة باتباع الإجراءات والخطوات الرامية لخفض التصعيد.

مع ذلك؛ تنظر بعض النخب السياسية والإعلامية الأمريكية للاتفاق بأنه أحد أهم اختراقات الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط، في وقت تمارس فيه واشنطن جهوداً وضغوطاً على حلفائها في المنطقة لتقييد الولوج الصيني إلى المنطقة، خاصة في الشؤون الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، ومن هذه الناحية يقرأ الاتفاق باعتباره تراجعاً في القدرة على الحد من النفوذ الصيني المتنامي في الشرق الأوسط. إلى جانب أن أطراف الاتفاق الثلاث (الصين والسعودية وإيران) تجتمع على رفض الخطاب الأمريكي القائم على إحياء القيم الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان وترى فيها وصفة أمريكية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعند الأخذ بعين الاعتبار التحالف الصيني الروسي المتنامي، والدور الإيراني في دعم العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وحياد الرياض بشأن الأزمة الأوكرانية؛ نجد أن الاتفاق السعودي الإيراني يقوي الجبهة المناوئة للولايات المتحدة ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل والدولي كذلك.

لكن يبقى تأثير الاتفاق على الدور الأمريكي في الشرق الأوسط محدوداً، فالاتفاق لا يُعزز من دور الصين خارج الإطار الدبلوماسي، ولا يُلغي الدور الأمريكي الكبير على المستويين الأمني والاقتصادي، وخاصة في علاقاتها مع السعودية فقد أعلن البيت الأبيض عُقب الإعلان عن إعادة العلاقات السعودية – الإيرانية عن إتمام شركة بوينغ لصفقتين مع السعودية لتصنيع ما يصل إلى 121 طائرة من طراز 787 دريم لاينر، بقيمة تقديرية بلغت 37 مليار دولار.

ولا يمكن تجاهل القدرة الأمريكية للتأثير في سير العلاقات السعودية الإيرانية والوساطة الصينية من خلال أهدافها الموازية أو المتقاطعة معها والتي يُمكن تلخيصها بما يلي:

– في سياق التوجه الاستراتيجي الأمريكي تجاه آسيا والمحيط الهادئ، فهي إذ تنشط في بيئة إقليمية آمنة هُناك، فقد سنحت المجال للصين للعب دور أوسع في الشرق الأوسط، بُغية استنزافها في نزاعات المنطقة المعقدة والمركبة. وصحيح أن الدبلوماسيين الصينيين حققوا إنجازاً كبيراً، لكنهم أيضاً أمام تحديات عدة، ففي ظل التباينات الأيديولوجية والعقائدية بين السعودية وإيران فإن عودة التوترات بينهما لا تزال واردة وبقوة، وهو ما قد يدخل الصين في صُلب النزاعات ويعمق من دورها في حلقة معقدة ومترابطة من حالة عدم الاستقرار في المنطقة.

– تأكيد الإدارة الأمريكية عزمها لمرات عديدة، استكمال اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، وكانت قد حددت السعودية كوجهة قادمة لهذا الاتفاق، وقد عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن الرغبة ذاتها، مع ذلك هناك إدراكاً لدى إسرائيل ومعها واشنطن أن قبول الرياض للتطبيع مع تل أبيب ما بعد الاتفاق مع إيران، سيكون بسقف توقعات أعلى لدى الرياض من مكاسب ونتائج هذا التطبيع، خاصة مع زوال عامل التهديد المشترك الذي كانت تمثله إيران بالنسبة للطرفين، والذي كان يشكل عاملاً من عوامل التقارب السعودي الإسرائيلي.

– إن الإدارة الأمريكية لا تزال مُتمسكة في إتمام الاتفاق النووي مع إيران، خاصة بعد أن قطعت الدولتين شوطاُ كبيرا في محادثات فيينا. وهذه النقطة قد تكون الأكثر تأثيراً؛ إذ تبقى الصين ضامناً قوياً للاتفاق طالما بقيت هي الوجه الوحيدة التي تكسر عُزلة طهران اقتصادياً، ومن شأن إحياء الاتفاق النووي أن يُعيد أوروبا والولايات المتحدة للسوق الإيرانية، ما يُفقد بكين بذلك ورقتها الضاغطة على طهران، وما يُجدد في الوقت ذاته الموارد لإيران لتخطي العديد من إشكالياتها الداخلية، ويُمكنها من إعادة الزخم لعملياتها الخارجية كما حدث إبان الاتفاق السابق عام 2015.

المشهد الإقليمي والاتجاه لخفض التصعيد

يلاحظ في سياق المحادثات السعودية الإيرانية وحتى الإعلان عن استئنافها، انحصارها في الجوانب الأمنية للدولتين، وهذا ما يكشفه التمثيل الأمني في المحادثات على حساب التمثيل الدبلوماسي أو السياسي أو الاقتصادي، فقد وقع من الجانب السعودي مستشار الأمن القومي، مساعد العيبان، وكذا من الجانب الإيراني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، ما يعني تركيز الدولتين على تحييد التهديدات المتبادلة أكثر منه مُناقشة الأزمات الإقليمية.

ومن أهم تلك التهديدات بالنسبة للسعودية عدم تكرار الهجمات التي تستهدف أراضيها سواء التي تنطلق من اليمن أو العراق، أما بالنسبة لإيران فالأمر يتعلق بتهمها السابقة للرياض بالتأثير في الاحتجاجات عبر دعمها للعديد من القنوات الناطقة باللغة الفارسية والتي تبث من الخارج وتلقى مشاهدات وتفاعل واسع في الداخل الإيراني إلى جانب ضمان حياد السعودية إزاء أي تطورات إقليمية بينها وبين إسرائيل.

مع ذلك، قد ينعكس استئناف العلاقات السعودية الإيرانية على مجمل المشهد الإقليمي، دون أن يُغير من المُعادلة الإقليمية القائمة سابقة الذكر، والأرجح أن تشهد علاقات الدولتين ونطاق تفاعلهما ما يُشبه الهدنة أو فض الاشتباك بين الطرفين، ويتوقع أن يطال التأثير هذه الساحات:

1. المشهد العراقي: كانت وما زالت الحكومات العراقية المتعاقبة تجد نفسها مُجبرة على تحقيق التوازن ما بين علاقاتها بالسعودية وإيران، خشية من ترجيح كفة أحدهما على الآخر، فقد اعتمدت أغلب الحكومات على أشكال مختلفة من الدبلوماسية للتعامل مع الدولتين، قبل أن تتحول لاحقاً إلى مسار “الاقتصاد مقابل الأمن”، وفيه تنخرط الدول العربية لا سيما السعودية بعلاقات اقتصادية مع العراق مقابل محاولة دفع الحكومة الفصائل المسلحة للتهدئة مع دول الإقليم.

وقد يكون العراق الذي استضاف عدة جولات من الحوار السعودي الإيراني، أحد أكثر الساحات استفادة من عودة العلاقات بين الدولتين، ذلك أن انخراط الدولتين في علاقات اقتصادية مُباشرة، يُعزز قدرة العراق على تحقيق إنجازات مماثلة على المستوى الإقليمي، وهذا في الواقع ما يأمل به العراق وعبر عنه في مؤتمر بغداد بدوريته، حيث أزماته الاقتصادية وتردي الخدمات إلى جانب أزمة الطاقة والكهرباء فيه، تتطلب منه أوسع قدر من الشراكات لمعالجتها واستعادة ثقة الشارع العراقي في نظامه السياسي.

2. المشهد اليمني: قد تشهد الساحة اليمنية التغيير الأبرز، ذلك لأن الملف اليمني وتعقيداته له أولوية في الحسابات السعودية، ومن المؤكد أن النقاشات مع طهران ساهمت في استئناف مسار المفاوضات؛ حيث تشير مصادر نقلت عنها صحيفة وول ستريت جورنال يوم 16 مارس الجاري، بأن طهران تعهدت بوقف دعم جماعة أنصار الله الحوثي، وهي خطوة تظهر تقاطع المصالح السعودية الإيرانية في اليمن، حيث كُلف دعم الأخيرة للحوثيين مرتفعة، وكذلك كُلف استمرار الرياض في الانخراط بالأزمة هناك. وفي هذا الخصوص تفيد مصادر خاصة لـ” ستراتيجيكس” بخصوص المفاوضات اليمنية التي جرت في سويسرا في النصف الأول من مارس 2023، أنه ما زال من المبكر أن نرى تأثير استئناف العلاقات السعودية الإيرانية على القضايا الفنية والأسرى والمخطوفين وشكل التمثيل السياسي بين الأطراف اليمينة”.

لكن الجانب الذي يمكن البناء عليه أنه يمكن استشعار الرغبة من قبل أطراف النزاع في التوصل لحلول سلمية، وهو ما أكده وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) في يناير 2023 حين صرح أن “إنهاء الحرب في اليمن يجب أن يتم عبر حل توافقي، وهو ما نعمل عليه حاليًا”، وتشديده على أن “الصراع في اليمن لن ينتهي إلا من خلال تسوية سياسية”، مشيراً الى الحاجة “لإيجاد سبيل لإعادة الهدنة في اليمن، والعمل على تحويلها إلى وقف دائم لإطلاق النار”.

ويُضاف إلى ذلك كله، أن الموقف الأمريكي من الأزمة اليمنية قد تغير على مر السنوات من دعم أحد أطراف النزاع، إلى التحول لتأدية دور الوسيط في الأزمة، ففي فبراير 2021، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن وقف الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية في اليمن، ووقف ما يتعلق بها من صفقات تسلح، وتعيين مبعوث أمريكي خاص لليمن وهو تيم ليندركينغ.

3. المشهد السوري: قد يكون لاستئناف العلاقات تأثيراً أقل على أزمات مثل سوريا ولبنان، وبالرغم من أن الرياض مهتمة في حل الأزمة السورية وتدعم المبادرة الأردنية للحل هُناك، إلا أنه من غير الواضح أن المحادثات السعودية الإيرانية قد تطرقت بشكل مماثل للأزمة السورية كما في الأزمة اليمنية، حيث تأثيرها على المجال الحيوي والاستراتيجي السعودي أقل منه في الحالة اليمنية، ومع ذلك يُعمم على الجماعات المُسلحة المدعومة من إيران في سوريا الضوابط ذاتها التي فرضت على مثيلاتها في العراق، من حيث عدم التعرض لأمن السعودية أو مصالحها في المنطقة. وفي هذا السياق من المهم إدراك أن فُرص عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وكسر عزلتها الدولية، تحتاج لجهود عربية وإقليمية متوافق عليها. إلا أن هناك خطوات عربية وأخرى روسية، تدفع بهذا الاتجاه، فقد استضافت دمشق بعد الزلزال المدمر عدد من وزراء الخارجية العرب، وكذلك سافر الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة إلى روسيا التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن ثُم توجه إلى الإمارات والتقى الرئيس الإماراتي محمد بن زايد.

4. المشهد اللبناني: حيث تسعى كلاً من الرياض وطهران لترسيخ مزيد من الدور والنفوذ، إلا أن طهران وحزب الله يواجهون حالة اقتصادية صعبة تعصف بمستقبل البلد. هذا إلى جانب أن منصب الرئيس اللبناني ما زال شاغراً؛ نتيجة عدم توصل أطراف العملية السياسية إلى توافق حول تسمية الرئيس، وهنا يمكن للرياض أن تساعد أطراف العملية السياسية في تجاوز مسألة الاستحقاق الرئاسي، وإن بدت أقل اهتماماً للانخراط في أزمات الدولة المحيطة، أو تقديم مساعدات مالية واقتصادية لا يعرف مصيرها. ومن هذا المنطلق قد لا ينعكس استئناف العلاقات السعودية الإيرانية على المشهد السوري واللبناني بشكل واضح.

5. مشهد التقارب العربي الإيراني: يختلف مستوى رغبة الدول العربية للتقارب مع طهران على اختلاف الملفات المشتركة فيما بينها، فمثلاً نجد الأردن ومصر كانتا أكثر وسطية في التعامل مع طهران من السعودية، مع ذلك هناك احتمالات أقل أن تمضي الدولتان حتى اللحظة في محادثات لتطبيع العلاقات معها؛  بالنسبة للأردن يُعد انتشار الجماعات المسلحة المدعومة من إيران على حدوده الشمالية أحد أهم أولوياته للأمن الوطني، خاصة مع تصاعد العمليات “الاستفزازية” التي تمارسها تلك الجماعات تجاه الأردن، ومحاولاتها المستمرة لتهريب المخدرات والأسلحة، وهي مسألة لا تخص طهران وعمان فحسب، بل تتقاطع معها الأهداف الإيرانية العسكرية والمصالح الإسرائيلية الأمنية، وتحديداً مساعي إيران لتأسيس بنية تحتية استراتيجية لها قريبة من إسرائيل، وبالتالي فإن توقع خطوة أردنية مماثلة تجاه إيران محكوم بدور الأخيرة في الجنوب السوري الذي يخضع لمُعادلة مُعقدة يصعب معها إرساء ترتيبات مُرضية هناك لكافة الأطراف، إلى جانب رفض الأردن للرغبات الإيرانية بفتح عمان المجال أمام “السياحة الدينية” لاعتبارات متعددة.

أما مصر؛ فهناك بوادر ورسائل إيرانية عدة تفيد برغبتها استئناف علاقاتها مع القاهرة، وبالرغم من عدم وجود خلافات كبيرة بين الدولتين إلا أن مصر تنظر للعلاقات مع إيران بأنها جزء من إرث الإسلام السياسي، حينما حاول الإخوان المسلمين إبان استلامهم زمام الحكم في البلاد التقارب مع إيران، باعتبار أن الإسلام السياسي كان يُمثل قاسماً مشتركاً بين الدولتين حينذاك.

مع ذلك، وفي حالتي الأردن ومصر، فإن كلاهما اعتمد على سياسة عدم غلق كافة قنوات التواصل مع إيران، بل عمدت السياسة الخارجية الأردنية على وجه التحديد إلى خفض التصعيد في الإقليم ومع دوله، بالرغم من التهديد الذي ينطوي على وجود الجماعات المسلحة المدعومة من إيران بالقرب من حدوده الشمالية مع سوريا.

ومما يدلل على ذلك ما تداولته منصات إخبارية عربية وأردنية وإيرانية بتاريخ 19 مارس، عن أن جلالة الملك عبدالله الثاني، كان قد تحدث مع وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان خلال انعقاد مؤتمر بغداد في دورته الثانية، عن العلاقات بين البلدين، حيث يمكن وصف الأخبار الإيرانية حول زيارة مرتقبة لجلالة الملك إلى طهران، بالمبالغ بها، إذ ورد تصحيح من مصدر رسمي أردني لموقع “عمون” بأنها “ستتم في الوقت المناسب”. ومن هنا نرى أن الوقت المناسب ستحكمه الظروف السياسية والأمنية والعسكرية في الجنوب السوري ومسار تطور العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة.

أما بالنسبة لدول الخليج العربي، وحيث تُشير المصادر التي نقلت عنها صحيفة وول ستريت جورنال في 12 مارس، أن بكين تُخطط لعقد اجتماع رفيع المستوى خليجي إيراني خلال العالم الجاري، وهي مسألة أخرى تخضع لتباينات في وجهات النظر، ففي حين تنظر أبو ظبي إلى السلوك الإيراني بوصفه تهديداً للأمن والسلم الإقليمي إلا أنها أبقت على علاقاتها الاقتصادية معها، في حين واجهت المنامة في وقت سابق خطاباً استفزازياً من طهران بعد أن تصدت الحكومة البحرينية لاحتجاجات عام 2011 كادت تهدد الأمن المجتمعي في البحرين، مع ذلك فمن المحتمل أن تكون البحرين أكثر قبولاً للتطبيع مع إيران لكونها في مجال حيوي واحد مع السعودية، ولأن هُناك مصلحة إيرانية في التهدئة معها لانعكاس ذلك في نجاح علاقاتها مع السعودية.

وأخيراً؛ من غير المحتمل أن يُحدث استئناف العُلاقات السعودية الإيرانية تغييراً يُذكر على المعادلة الإقليمية، أو على الدور الأمريكي الأمني والاقتصادي في الشرق الأوسط، لكنه في الوقت ذاته يُمثل تحدياً للوسيط الصيني في ضمان الاتفاق دون الغرق في التفاصيل الدقيقة والتحديات المعقدة التي تتسم بها بيئة المنطقة، ومن شأن التطبيع بين الدولتين أن يُهدئ نسبياً من التوترات في المشهد العراقي وقد يُمهد لحل الأزمة اليمنية سلمياً، إلا أنه سيأتي بتأثير أقل على المشهدين السوري واللبناني. كما من المستبعد أن تذهب دول عربية أخرى باستثناءات محدودة إلى تطبيع علاقاتها مع إيران، نظراً لأنه لكل دولة معادلتها الخاصة وموقفها المحدد سلفاً تجاه إيران. كما أن هناك إدراك بأنه من المبكر الجزم بمآلات الاتفاق بين الدولتين بالرغم من المساعي التي تدفع لإنجاح العلاقات خاصة وأن الرسائل المتبادلة بين الدولتين توحي بأن هناك خطوات قادمة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية، مع الأنباء عن دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض.

شاهد أيضاً

ارتفاع تحويلات المغتربين الأردنيين بنسبة 3.2% في أول تسعة أشهر من العام الجاري

الشرق اليوم– أظهرت بيانات صادرة عن البنك المركزي الأردني، اليوم الأحد، أن تحويلات المغتربين الأردنيين …