بقلم: مفتاح شعيب – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- مهما كانت الصدقية لرواية موسكو، أو واشنطن، فإن الحادث الجوي في أجواء البحر الأسود بين مقاتلتين روسيتين ومسيّرة أمريكية على مقربة من الحرب المشتعلة في أوكرانيا رسالة لها ما بعدها، مثلما كانت التطورات التي سبقت الواقعة، تشير إلى أن الاستنفار العسكري بين القوتين العظميين على أشدّه، وأن هذا الحادث، وما هو أخطر منه، غير مستغرب في سياق التوتر السائد بين موسكو والقوى الغربية.
العلاقة بين موسكو وواشنطن في أدنى مستوياتها منذ أيام الاتحاد السوفييتي، بشهادة المسؤولين في البلدين، والرواية عمّا حدث في البحر الأسود جزء من الحقيقة، وهناك التباس سيجعل الحادث لغزاً إلى حين يأتي ما يرفع الغموض، أو يدفع البلدين إلى تقديم حيثيات أوضح، رغم أن الوقائع تشير إلى أن هذا الصراع سيستمر طالما استمرت العمليات العسكرية في أوكرانيان ولم تسفر عن نتيجة بيّنة بالنصر، أو الهزيمة، لأي من الطرفين المتحاربين، لكن الضغط الغربي بقيادة أمريكية على روسيا، يمكن أن يعطي بعض المؤشرات على خشية فعلية من تحقيق موسكو جميع أهدافها، لا سيما وأن حادث البحر الأسود تزامن مع تأكيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الضغوط الغربية فشلت، وأن بلاده تخوض معركة وجودية لا بد أن تفوز فيها.
لا يخرج حادث البحر الأسود عن سياق الضغط الأمريكي المستمر على روسيا لوقف الحرب الآن، والتراجع عن خططها المعلنة. ويبدو أن صناع القرار الغربيين استوعبوا متأخراً، أن موسكو لم تخطط لحسم سريع في المعارك، بل أرادتها حرب استنزاف كبرى تدور رحاها في أوكرانيا وتحرق الكثير من الموارد الغربية، من أموال وأسلحة وأثمان اقتصادية، في مجالات عدة. وفي الوقت الذي خفّ فيه الحديث عن هجوم الربيع الأوكراني في محاولة لاستعادة ما ضاع، بات التقدم الروسي البطيء في الجبهات، ومنها مدينة باخموت، باعثاً على القلق والتوتر. وبعد فشل العقوبات على موسكو والدعم اللامحدود لكييف في تغيير جوهري في الميدان، ربما يفكر البعض في العواصم الغربية في جر روسيا إلى معركة جانبية، وقد يكون حادث المسيرة فخاً فاشلاً في هذا السياق، والمقصود بالمعركة الجانبية ليس الدخول في مواجهة شاملة، وإنما مناوشات محدودة يتم توظيفها لإثارة انتباه الرأي العام الغربي، الذي بدأ ينفضّ عن توجهات حكوماته في دعم أوكرانيا وشيطنة روسيا، ويلتفت بحسرة إلى الأوضاع الداخلية، التي تتدهور من سيئ إلى أسوأ، وبراهين ذلك في الاحتجاجات الواسعة والإضرابات غير المسبوقة، ونسب التضخم العالية، وانهيار بنوك كبرى، وكلها تنذر بإفلاس فادح يخيّم على الأفق.
الواقعة الجوية في البحر الأسود لن تكون يتيمة دهرها، بل إن حوادث الاحتكاك بين موسكو والغرب ستتوالى في المستقبل القريب، مع اقتراب الغرب من فرض أقصى درجات الضغط لحفظ ماء وجهه بعد كل ما بذله من تسليح وعقوبات، وما تكبده من خسائر، ولكن ما لا يدفع إلى الذعر أن كل ما قد يجري سيكون نوعاً من الاستفزاز وليس الصدام العنيف، وربما ستكون هذه الحوادث مقدمة للتفاوض على كل المشكلات العالقة، ومنها الوضع في أوكرانيا، وليس أهمها على الإطلاق.