بقلم: حسن إسميك
الشرق اليوم- في سفري لبعض مهام العمل إلى إحدى المدن في دولة عربية، أدركت يوم الجمعة وأنا لا أعرف مساجد المدينة، فسألت ليلتها صديقاً مقيماً فيها ليشير عليّ بمسجد أصلي فيه، تحمس صديقي للأمر، وأشار عليّ بمسجد في طرف المدينة، فيه يخطب شيخ منفتح على الحداثة والعقل بحسب رأيه. ولحماسه له اقترح صديقي المرور بي قبل الصلاة ليقلني معه.
اقتربنا من المسجد الذي بدا جميلاً قبل أن نصل إليه، ثم اتضح جماله أكثر وقد بني من رخام أبيض من الخارج، وزخارف إسلامية على جدرانه الداخلية. وكما أحب دائماً، فقد اتخذت مكاناً مواجهاً للمنبر كي أستطيع أن أرى الشيخ بشكل واضح وهو يخطب. كان صوت الشيخ هادئاً وقد حافظ على اتصال بصري جميل وفعّال مع المستمعين له. وكانت الحضارة الإسلامية في بعدها الإنساني عنوان الخطبة الرئيس، أما الهدف منها فكان الرد على المشككين بالدور الحضاري للإسلام ومثيري الشبهات حوله (من مسلمين وغير مسلمين بحسب تعبير الشيخ)، وكان تاريخ حضارة الإسلام وآثارها ومنجزاتها الدلائل والشواهد التي ساقها الشيخ ضد هذا التشكيك وهذه الشبهات. لذلك امتلأت الخطبة بأسماء الفلاسفة والمفكرين والعلماء، وبخاصة ممن عرفهم الغرب عبر تاريخ حضارته الحديثة خلال القرون الأربعة التي سبقت القرن الماضي، ورغم معرفة الشيخ بآثار بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة إلا أن الجانب الإنشائي كان غلّاباً على الجانب الإخباري في الخطبة، حتى بدى لي أن الشيخ قد اطلع سريعاً قبل خطبته على الكتاب الشهير للمستشرقة زيغريد هونكه: “شمس العرب تسطع على الغرب”، ودوّن الأسماء منه على عجل.
وفي نهاية الخطبة الأولى، ساق الشيخ النتيجة التي أراد الوصول لها واضحة وصريحة، مفادها أن الإسلام جعل من الحضارة في ظله حاضنة لصنوف الإبداع والاكتشاف، وداعمة لحرية التفكير والتنوير، وكان سبق العرب والمسلمين أن دينهم مكّنهم من النجاح في دنياهم وآخرتهم، وهم حسب رأيه متفوقون على الغرب الذي إذا أراد الآخرة عمد إلى الرهبنة ونسي الدنيا، وإذا أراد الدنيا ترك الدين واختار العلمانية كمنهج لحياته وعمله!
أما الخطبة الثانية فلم تطل كثيراً، دعا فيها الشيخ إلى أهمية العودة للدين الصحيح بعد أن تخلينا عنه بحسب رأيه، وبالعودة سيتحقق للمسلمين مرة أخرى ما كانوا فيه من رقي وتقدم، ثم اختتم خطبته بالدعاء المأثور، تلته الصلاة التي حرص الشيخ على أن لا تطول.
بقيت بعد الصلاة جالساً في مكاني بانتظار أن يقوم صديقي الذي لم يكن بعيداً عني، ورحت في هذه الأثناء أراقب عدداً من المصلين وهم يقبلون يد الشيخ بينما يحاول سحبها ويستغفر الله، ولكن محاولته الخفيفة ليست كافية بحق لتمنعهم. قام صاحبي واقترح أن نسلم على الشيخ بعدما انتهت المصافحة، وافقت على ذلك وقلت مازحاً: نسلم فقط.. دون تقبيل اليد!
استقبلنا الشيخ ببشر واضح وبدا أنه يعرف صديقي معرفة جيدة، ولذلك لم يلجأ إلى مقدمات كي يسألني رأيي في ما سمعت منه على المنبر، وفي الحقيقة لم أكن لأقول رأيي دون أن يسألني، ولكن بما أنه فعل، فقد رغبت بأن أحاوره في بعض المسائل التي أثارتها الخطبة. ولأن الحديث اغتنى بمسائل مهمة عن الإسلام والحضارة وحرية الفكر، فسأنقله كما جاء على شكل حواري بيني وبين الشيخ، أعرض فيه آراء الطرفين وأفكارهما على حد سواء.
الحوار: الحضارة الإسلامية ومشكلة الانتقائية
حسن: أود أن أشكر صديقي بحق على نصيحته بالصلاة في مسجدكم، فقد كانت نعم النصيحة، ولست أخفي إعجابي بالخطبة، لغتك ما شاء الله جيدة، وتواصلك مع الحاضرين قوي وفعّال، كما أنك طرقت موضوعاً غير تقليدي، لكني أعتقد أنه يثير الكثير من المشكلات التي تفضلون عادة تجنب الخوض فيها على المنبر.
الشيخ: ممتن لكلامك الطيب أستاذ حسن.. غير أني من تقديم صديقنا المشترك لك، وقد أخبرني أنك باحث وكاتب في الفكر الديني، أطمع أن أعرف رأيك في ما قيل اليوم أكثر من رأيك في من كان يقول، فهذه فرصة لا أجدها بين المصلين إلا نادراً. وأرغب أن أعرف ماذا قصدت بهذه المشكلات التي نتجنبها؟
الصديق المشترك (بين مزح وجد): على رسلكما فأنتما تعرضاني لمسؤولية لم أكن مستعداً لها، الشيخ محمد يا أستاذ حسن أشعري صعب المراس، ولا يمكن تغيير قناعاته بسهولة، وأنا أعرفك أيضاً محاوراً جاداً، لا تهادن ولا تخشى أن تذهب في النقاش إلى منتهاه مهما كان حرجاً وإشكالياً على قضاياه. دعوها جلسة تعارف ولعلنا نلتقي في فرصة أخرى.
حسن: لا مشكلة لدي إطلاقاً!
الشيخ (مقاطعاً): بل المشكلة لدي، ولن أضيع هذه الفرصة إطلاقاً، أخبرتكم أن الخطيب نادراً ما يحظى بحوار جاد في مضمون خطبته، خاصة بعد ما أشار إليه الأستاذ حسن. هذا طلبي والأمر عندكم.
الصديق المشترك: دعوني إذن أن أقول بين مزح وجد أنني أخلي مسؤوليتي مسبقاً من أي خلاف.
الشيخ: لك ذلك دائماً، ولن يكون هناك خلاف.. تفضل يا أستاذ حسن.
حسن: أخبرني إذن يا شيخ محمد، لما ذكرت ابن رشد، وأعليت من قدره كفيلسوف وفقيه وقاض أيام الحكم الإسلامي في الأندلس، لماذا لم تذكر النهاية المأساوية التي انتهى إليها مصيره؟ ولا أظن أنك تجهل أنه قد نفي وأحرقت كتبه، ولولا أن وُجدت منها بعض النسخ في الشرق، أو في الغرب عند غير المسلمين، لضاعت كتبه كلها. أليست الدولة القائمة آنذاك هي التي أمرت بذلك بعدما وافقت على صدور حكم الفقهاء بفساد عقيدته وكانوا يريدون قتله؟
الشيخ: هذا حق وقد حصل، ولكن حيث أنه لكل مقام مقال، فأنا أحاول في خطبتي أن أتبع منهج (بشّروا ولا تنفّروا)، لذلك قد لا أقول كل ما يمكن قوله حتى لو كان صحيحاً. وهناك آراء غريبة وشاذة عند ابن رشد، خاصة في جانب العقيدة، لكنه بلا شك لا يستحق أن يُنفى وتُحرق كتبه.
حسن: لنعلّق الرأي إذن حول هذا الموضوع وقصدك بما تصفه بالآراء الشاذة. دعني أسألك عن الفارابي، وقد ذكرته في الخطبة وأشدت بأثره الكبير على الغرب في الفلسفة، هل يعني هذا أنك توافق على نظريته في خلق العالم والفيض الإلهي وترتيب العقول والأفلاك السماوية عنده؟
الشيخ: هذا جانب لا نخوض فيه أيضاً يا أستاذ حسن!
حسن (مقاطعاً): أرى أننا هكذا لن نخوض في شيء إذن؟
الشيخ: بل على العكس، أرجو أن لا تسحب البساط في الحوار إلى مشكلات قديمة نعرف أن العلم قد تجاوزها، وأنها مجرد أنساق فكرية ميتافيزيقة مجردة فيها خروج عن العقيدة أحياناً، ولا أكتم أنني لست مطلعاً عليها الاطلاع الكافي، ولست أرى أنه ثمة فائدة منها حالياً.
حسن: وأنا أتفق معك أن العلم تجاوزها، ولكن أحكام التكفير باسم العقيدة لم تتجاوزها بعد. وقد تنبهت إلى أنك لم تذكر الغزالي رغم أنه من المبرزين في الأشعرية، ربما لأن فكره لا يتفق مع غايتك من الخطبة، خاصة وأنه كفّر الفارابي وكل من اشتغلوا بمنهج عقلي حر، وأظن أن كتاب “تهافت الفلاسفة” ذائع الصيت لدى دارسي العقيدة والمختصين بها، فهل توافق على مضمونه، ثم تستشهد في الخطبة بالأعلام من الفلاسفة الذين كفّرهم؟
الشيخ: هذا كان رأي الغزالي وبعض من وافقه، وعلى مبدأ (هم رجال ونحن رجال) فلا أحد من البشر في منجى من مخالفته والرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حسن: إذن فأنت تختلف مع الغزالي؟
الشيخ: في هذه النقطة نعم.. لا يؤخذ كلامه كله ولا يُردّ كله.
حسن: ألا ترى معي إذن أن هذا الموضوع مهم ليُطرح في خطبة جمعة مقبلة؟ أقصد التنبيه إلى أن رأي الغزالي في الفلاسفة كان متشدداً لأنه انتهى إلى تكفيرهم؟
الشيخ: أختلف معك في هذه يا أستاذ حسن، فمنبر الجامع للتوحيد وتأكيد الاتفاق كما قلت، لا لطرح ما يؤدي للاختلاف والفرقة.
حسن: دعنا نعلّق الحكم في هذه أيضاً.. مع تحفظي على ما ذكرت، فمنبر الجمعة للحق أي كان، سواء أعجبنا هذا الحق أم لم يعجبنا، وسواء أحببناه أو لم نحبه. واسمح لي على أية حال أن أطرح أمامك سؤالاً لست متأكداً من إجابته!
الشيخ: تفضل..
حسن: لاحظت تأكيدك من على المنبر أن التسامح والحرية الفكرية كانت عماداً من أعمدة حضارات الإسلام المتعاقبة كما سميتها، واستشهدت على ذلك بالتيارات الفكرية التي اشتهرت وتميزت وبلغت مرحلة عالمية أثرت على الحضارة الأوروبية، وهذا اقتضى أن تتغنى من على هذا المنبر بأسماء فلاسفة ومفكرين عكسوا روح هذه الحضارة كما قلت. لكنك تعلم أن هؤلاء المفكرين قد لاقوا من الفقهاء ورجال الدين كل أنواع التضييق، من اتهامهم بالكفر والطعن في عقيدتهم، وإصدار الفتوى التي سمحت للسلطة بسجن بعضهم وتعذيبهم، وأحياناً إعدامهم. فكيف يستقيم أن يمتدحهم اليوم رجل الدين على المنبر، وهم ضحايا رجال الدين الذين سبقوه؟
الشيخ: وقعت عبر التاريخ بعض المظالم لهؤلاء، ولا ننكر ذلك، وبعضهم بلغ الشطط والكفر، فلقي ما يلقاه المرتد عندما يخرج عن الدين. وأنا مع الدفاع عن العقل، لكن في إطار المعتقد الصحيح.
حسن: وهذا ما تصفون به المنهج الأشعري عادة في أنه يؤكد أهمية استخدام العقل في حدود الدين؟
الشيخ: نعم تماماً وهذا معروف عبر التاريخ.
حسن: وحيث أن الأشاعرة خالفوا المعتزلة، فما رأيك بالفكر الاعتزالي؟
الشيخ: كان فكراً ضالاً وصل بأصحابه إلى الخروج عن دين الله.
حسن: الغريب يا شيخ أن دفاعك عن العقل اليوم هو الأقرب إلى دفاع المعتزلة عنه، هم اعتقدوا أن الإيمان لا يكمل ويصح إلا بالعقل، فكانت لهم آراؤهم واجتهاداتهم وفضلهم الكبير في الدفاع عن العقيدة الإسلامية في مراحلهم الأولى، ومعروف عن غالبيتهم شدة الإيمان والتقوى. ومشكلتهم الكبرى أنهم حظوا بمساندة السلطة السياسية لهم أحياناً، ثم انقلابها عليهم وملاحقتهم أحياناً أخرى، حتى تم إفساد فكرهم لتضيع بذلك أهم فرصة شهدها تاريخ الإسلام لمناصرة التفكير العقلي.
الشيخ: كلامك هذا يحتاج إلى مراجعة وتفكير حتى نبّت الرأي فيه. وأنا مقتنع بكلامك أنهم مجتهدون، لكن غيرهم أيضاً ناصر العقل كما ناصروه هم، ولكن على أسس عقيدية أصح.
حسن: في الحقيقة أتمنى أن أقتنع بذلك، ولكن الحقيقة أننا ما زلنا بعد أكثر من عشرة قرون على انحسار المعتزلة ما زلنا ندافع عن أهمية العقل وضرورة إعماله في الفكر والمعرفة؟ فلماذا لم يصبح هذا الأمر مقضياً ومفروغاً منه إلى اليوم؟ وإذا وافقتني في هذه المقدمة أفليست النتيجة أننا كلما أحرزنا تقدماً عقلياً لفترة من الزمن نعود فنفشل في اتباع المنهج العقلي ووضعه الموضع الذي يستحقه؟
الشيخ: حدث هذا مراراً ولا أنكر ذلك، وإنما العلة في المسلمين أنفسهم، ليست في الإسلام ولا في القرآن، والله حفظ لنا النقل وأكمل لنا الدين حتى تقوم الساعة، أما العقل فمسؤوليتنا نحن، نحن المسؤولون عن حفظه والعمل به.
حسن: هذا كلام مهم أوافقك عليه، العلة في المسلمين وليست في الإسلام، وأتوقع بالمقابل أن توافقني على نتائجه!
الشيخ: وما نتائجه؟
حسن: أهم نتائجه برأيي أن تعطيل العقل والفكر النقدي الحر في الإسلام كان المحصلة الغالبة لصراع التيارين الرئيسين: أصحاب العقل وأصحاب النقل، ومشكلة هذا الصراع أنه محسوم دائماً لصالح الطرف الأقوى، ليس بسلاح الحجة، وإنما بسلاح التكفير والإخراج من الملة وتهمة مخالفة العقيدة، هذا السلاح الذي لم يملكه أنصار العقل إلا فيما ندر، بينما بقي سيفاً حاداً بيد أنصار النقل يستلونه متى شاؤوا. وبذلك بقي تيار النقل سائداً وتيار العقل متنحياً في غالب فترات تاريخنا.
الشيخ: لا أستطيع أن أوافقك على هذا يا أستاذ حسن كما وصفته، ربما أسرفت قلة قليلة في التكفير، لكن جمهور علمائنا انطلقوا في نقد التيار العقلي من حماية الدين والحفاظ عليه، وكانوا حريصين جداً في فتاويهم وأحكامهم.
حسن: وددت لو أن الأمر كذلك يا شيخ محمد، وأن لي الاطمئنان ذاته الذي تشعر به إزاء هذه المسألة. ولكن لدي بعض الملاحظات؛ أولها أنك أنت من قال منذ قليل أن النقل والدين محفوظان من الله سبحانه. أما الملاحظة الثانية فلو أن التكفير لم يشع كثيراً وبقي محصوراً بقلة قليلة لرأينا انحساره ثم زواله عبر القرون الطويلة التي مضت، لكن المتتبع لتاريخ التكفير سيرى اشتداده قرناً بعد قرن، وصولاً لحاضرنا الذي بات التكفير فيه خطاباً شائعاً وعاماً، لم يعد محصوراً في الكتب كما سبق مع الإمام الغزالي في “تهافت الفلاسفة”، بل شاع لسنوات في الصحف والمطبوعات خلال القرن الماضي، ثم تلقفته بعض وسائل الإعلام لسنوات تلتها، واليوم يتخذ التكفيريون من وسائل التواصل الاجتماعي منابر حديثة لتكريس منهجهم وتعميمه.
الشيخ: ما تقوله عن عصرنا صحيح أتفق معك فيه يا أستاذي الفاضل، لكني لا أوافقك على الاستدلال به للقول أن انتشار التكفير يزداد يوماً بعد يوم. ولا أعتقد أن أنتشار مغالاة البعض في تكفير الآخر يعود لأسباب دينية، بل أرى أن شيوع التكفير وانتشاره يمثل نوعاً من ردة الفعل تجاه ما تلقاه المجتمعات من إفقار وتهميش واستبداد، ولا أريد الخوض في السياسة العالمية وأثرها في محاصرة الشعوب المسلمة والسيطرة عليها. واسمح لي أن أرى في هذا الكلام شيئاً من تصديق الشبهات التي يروجها أعداء الإسلام حوله. لا أقصد طبعاً أنك تروجها، بل ربما تصدقها!
حسن: وددت يا شيخ محمد أن نستمر في نقاش الآراء والأفكار، ومقاربة حجج صحتها أو بطلانها دون أن يتحول حوارنا إلى الحكم عليّ من خلال موقفي ورأيي، وعموماً هكذا يبدأ التكفير الذي تحاول أن تنفي أثره في تاريخنا.
الشيخ (مقاطعاً): معاذ الله أن نكفر أحداً إلا إذا صرح بذلك وجهر، أنا أزهري أشعري، وهذا منهجنا المعتدل لقرابة ألف سنة خلت. وقد لاحظت أنك ذكرت الغزالي أكثر من مرة في حديثك على تكفير الفلاسفة، فلماذا نركز على مثال واحد ونترك أمثلة أخرى كثيرة؟!
حسن: حرصت على ذكر الغزالي لقبول مذهبه لديك، وأظنك مطلع على أن التكفير بدأ مبكراً منذ أن بدأ المسلمون يتعرفون على آراء غيرهم وعقائدهم. فالإمام الشافعي مثلاً عدّ الميل لأرسطو وفكره من أسباب جهل المسلمين بالدين، وبالتالي خروجهم عنه. ولا يجهل المطلعون على الفكر الإسلامي آراء ابن الصلاح التي كانت شديدة جداً في تكفير الفلاسفة ورفض الاشتغال بالمنطق، ولذلك كانت الفلسفة برأيه رأس السفه والانحلال وسبب الزندقة والضلال، وأن الفلاسفة ليسوا سوى مضلين عميت بصائرهم عن محاسن الدين. ناهيك طبعاً عن الأسماء اللامعة في العقيدة والفقه، وبخاصة ممن لم يتناولوا الفلسفة بشكل مباشر، وإنما من خلال تناولهم لأصحاب التيار النقدي وحكمهم بفساد عقائدهم. فلماذا نحاول تجنب الاعتراف أن التكفير كان الأكثر انتشاراً مقابل التسامح وقبول الاختلاف؟
الشيخ: لا أختلف معك كثيراً في ما تقوله، لكني لم أتبين بعد العلاقة بين كلامك هذا ورأيك في مضمون الخطبة!
حسن: سأوضح لك ما قصدته، ولو أنني كنت مكانك في الخطبة لما سكتُّ عن ما فضلت أنت السكوت عنه، بل كنت سأطرح من على ذات المنبر أن الحل لاستعادة حضارتنا الماضية لا يكون بدعوة عامة المسلمين إلى العودة الصحيحة للدين رغم أهمية هذه العودة دائماً وفي كل عصر، بل يكون بنقد منهج التكفير لضمان عودة المناخ الفكري الحر والمتسامح الذي احتضن العلم والفكر الحر في المساجد كما احتضن العبادات والصلوات، ولكن هذا المناخ زال وانقضى أثره لما صار استخدام العقل كفراً بالدين وضلالاً عن العقيدة. والحقيقة أن ما عبر عنه الشافعي والغزالي وابن الصلاح بوضوح، جاء متضمناً بالمعنى ذاته في آراء جمع غفير من العلماء حتى صار هو السائد في العقلية الإسلامية ووعيها قرناً بعد قرن. وليس بعيدة عن هذا الأمر آراء ابن خلدون الذي عاش بدايات أفول الحضارة الإسلامية، ولم يكن مؤيداً لحرية الفكر الفلسفي كما قد نظن به، وكما امتدحت أثره الحضاري في الخطبة.
الشيخ: لا أعرف في الحقيقة أن ابن خلدون كان من رافضي الفلسفة، ولا أنكر حالة التشدد التي كانت هي السائدة في بعض العصور، لكن بالمقابل لا يجوز أن ننكر عصور التسامح وتقبل الرأي الآخر وتدعيم أسس الفكر الحر في الإسلام. وهذا ما أردت توضيحه التزاماً مني بمنهجية (بشّروا ولا تنفّروا). فما مأخذك على ذلك.
حسن: مأخذي الرئيس هو أن خطابنا الديني إزاء هذه المشكلة ما زال خطاباً مهادناً في الحقيقة، وقد وضحت أنني لا أرى المشكلة في الإسلام بذاته، حاشا لدين الله أن يعطل العقل، بل إن الدعوة للتفكر والتعقل هي من صميم الدين الحنيف والكتاب المنزل، إنما نشأت المشكلة من استسهال رمي الناس بالضلالة والخروج عن الدين. ولذلك فإن الدعوة لاستعادة الدور الحضاري للمسلمين هو أن هذه الدعوة تدور منذ قرون في حلقة مفرغة، إذ أن النخب من العلماء والفقهاء والوعاظ يطالبون عامة المسلمين بالعودة للدين الصحيح، بينما لو أردت التحدث باسم عامة المسلمين لطالبت الفقهاء ورجال الدين بالعودة إلى الدعوة لحرية التفكير وقبول اختلاف الآراء وتشجيع النهج العقلاني بكافة أشكاله وصوره ودون قيد أو شرط، وليكن الإجماع العام ورأي الجمهور هو القول الفاصل في ما هو حق وما هو باطل، فالحق هو الأقدر دائماً على الدفاع عن نفسه وعن أهله، ولا يحتاج لمن يرسمه ويخصصه ويدافع عنه. بل إن ما يؤذي الحق دائماً هو أن يكون حكراً لفئة دون غيرها.
الشيخ: لكن ألا تعتقد يا أستاذ حسن أنك تولي موضوع الفلسفة أكثر من حقه في هذا السياق، وأن أسباب تخلف المسلمين أكثر من أن نحصرها بتراجع العقل النقدي في الفكر الإسلامي؟ فالعلم الطبيعي قد تراجع أيضاً، وكذلك علوم السياسة وأدبياتها، حتى الآداب والفنون والعلوم الفقهية تراجعت في المراحل المتأخرة من تاريخ المسلمين، وخاصة خلال القرون من الخامس عشر وما تلاه!
حسن: أعتقد يا شيخ محمد أن ما تفترضه يبرهن على صحة رأيي، وبه أرد.. فخصوصية الفلسفة وحريتها تجعل تراجع كل ما عداها من علوم طبيعية ودينية وآداب وفنون نتيجة منطقية لتراجع التفكير النقدي الحر. ولقد برهنت جميع الحضارات أن وجود الفلسفة هو الضامن لتأسيس مناخ الحرية الفكرية واتساعه، فإذا غاب هذا المناخ غابت الأصالة والإبداع في كل حقول المعرفة واختصاصاتها، وغلبت سنن التقليد والاتباع على شروط التجديد والإبداع.
الشيخ: تقصد أن المشكلة عندنا هي علاقة الدين بالفلسفة؟
حسن: تماماً.. مهما حاولنا تطبيع العلاقة بين الدين والفلسفة في تراثنا الإسلامي، ستبقى الحقيقة أن حضور الفلسفة وغيابها بقيا مرهونين بموقف الدين منها، وأن أهم فترات الحضارة الإسلامية وأغناها كماً ونوعاً ارتبطت زمنياً بالعصور التي شهدت مستوى عالياً من التسامح الديني، وبخاصة عندما حمته وكفلته أنظمة سياسية غلّبت العقلانية وحرية الفكر وحدّت من انتشار التعصب والتشدد. وهذا برأيي ما جعل العقلانية العربية قادرة على شد انتباه الغرب والتأثير فيه، وعلى أسسها خاض معركته في التنوير والثورات العلمية، فاستطاع دعم حرية الفكر والإبداع، وحصد ثمرة ذلك تقدماً تكنولوجياً هائلاً وبخاصة في الذكاء الصناعي الذي به يتحكم اليوم في العالم كله! مشكلتنا إذن يا شيخ محمد أننا لم نخسر معركتنا الحضارية فحسب، بل نحن من قدم الأدوات التي جعلت أوروبا تتفوق علينا في السياق الحضاري اليوم.
الشيخ (وقد جاء المؤذن يستأذنه في لينادي لصلاة العصر): أعترف أن حوارنا هذا قد نبهني لأمور كثيرة لم أكن منتبهاً لها، لكن وبعدما ضاق الوقت علينا، أخبرني إذن قبل أن يبدأ الأذان، ودون مجاملة، هل تراني مقلداً أم مجدداً بعدما سمعت الخطبة ودار بيننا هذا الحوار؟
حسن: كن متأكداً يا شيخ محمد أنني ما كنت لأجاملك حتى لو لم تطلب مني ذلك. وفي الحقيقة فقد رأيتك في منطقة وسطى، ساعياً للتجديد على المنبر، ولكنك ما زلت متمسكاً بأدوات الماضي وطرائقه، ومثال ذلك الواضح أنك تسمح للمصلين بتقبيل يدك!
انتهى الحوار فجأة..
وبدا أن ملاحظة تقبيل يد الشيخ قد أربكته قليلاً، وهمّ بالتعليق على الأمر، لولاً أن صوت المؤذن سبقه منادياً: الله أكبر.. الله أكبر.
تركت المدينة الصغيرة صباح اليوم التالي ولم يتح لي لقاء آخر مع الشيخ. ثم بعد أسبوع، وعقب صلة الجمعة أيضاً، هاتفني صديقي من تلك المدينة ليخبرني أنه صلى الجمعة في المسجد ذاته الذي صلينا فيه قبل، وأن الشيخ لما جاءه المصلون ليسلموا عليه، رفض بشكل قاطع أن يُقبل أحد يده، كبيراً كان أو صغيراً. ثم بلغني سلام الشيخ وتحياته، وبادلته بالمثل التحية والسلام.
المصدر: اليوم السابع