بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- أحياناً تتعقد بدائل المستقبل إلى حد يدفع بالمحللين في تحليلاتهم إلى الميل في اتجاه التنظير قليلاً سعياً نحو فهم أفضل أو ممكن. يحدث هذا عندما تتعقد الأمور عند حدود قصوى ويتصرف اللاعبون، وفي حالتنا اللاعبون الكبار دول نووية أو ما شابه، تصرفات المراهقة أو اليأس، أو تسلك عن عمد مسالك الاستهتار.
بعد مراجعة ما قيل في قاعات الخطب والمناقشات العلنية وما تسرب من أحاديث في غرف وصالونات مغلقة في مؤتمر ميونيخ للأمن، وبعد الاستمرار في متابعة تصرفات من جانب دول كبرى وصغرى وبعضها نووي التسلح، ومقارنة هذه التصرفات بسلوك المراهقة أو بدت لنا هكذا كمعاصرين لها ولكثير من علماء السياسة الذين سجلوا تفاقم هذا السلوك في كتب وأبحاث. كشفت المقارنة لي على الأقل عن أن اللاعبين الرئيسيين في الأزمة الراهنة يستخدمون درجة عليا من القسوة والبشاعة لا أجد تبريراً لها، إلا أن لهؤلاء اللاعبين أغراضاً وأهدافاً لا يعلنون عنها. لا أقصد أن هذه الدول لم ترتكب حماقات في السابق فبعضها ارتكب بالفعل جرائم ضد الإنسانية، إنما أقصد أن ما اتضح لنا حتى الآن يتجاوز في بشاعته أفظع ما ارتكبه الكبار كذلك الصغار في أوقات عشتها أنا وأبناء وبنات جيلي. اليوم نحن شهود على حرب دمار شامل تشنها روسيا على أوكرانيا وحرب ليست أقل بشاعة تشنها أمريكا على روسيا باستخدام أوكرانيا وكيلاً لها. تجري أمام أعيننا التضحية بشعبها وعمائرها ومصانعها وحقولها ومحطاتها النووية.
نحن شهود في الوقت نفسه على نظام جديد ابتدعته الولايات المتحدة وتطبقه على روسيا ومعها كل دولة في العالم تسول لها نفسها التعاون معها. نظام عقوبات متصاعدة ترقى أو تنحدر إلى هدف فرض العدم وليس مجرد الهزيمة على الخصم من دون أي اعتبار يذكر لما يمكن أن تسببه هذه العقوبات من أضرار جسيمة للبشرية بأسرها. ففي أي مشهد من مشاهد النظام الدولي نعيش ونحو أي مشهد نسير أو نساق؟
- أولاً: نعيش في عصر الأحادية القطبية، ومن أسمائه الأخرى اسم عصر الهيمنة الإمبراطورية. المحبون لهذا المشهد يعتقدون في قدرته الأسطورية على إحلال السلم، ومن هنا اختلقوا عبارة لحظة القطب الأوحد باعتباره عصر سعادة وأمن وحبور. قيل إنه يأتي غالباً بعد مرحلة قطبية ثنائية مثلما حدث بعد مرحلة الحرب بين اسبرطة وأثينا وبعد مرحلة هيمنة نسبية من جانب فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر على صراعات القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، وإن اختلطت الهيمنة الثنائية هناك بحالة توازن قوة أشبه ما تكون بمشهد التعددية القطبية.
- ثانياً: هؤلاء يعتبرون أن مرحلة الحرب الباردة كانت في الحقيقة مشهداً لقطبية ثنائية تدهورت في أواخرها أو ارتقت إلى مشهد القطبية الأحادية، المصير المتوقع لأي قطبية ثنائية. بدأ مشهد الأحادية القطبية مع انفراط عقد القطب السوفييتي بعد جهود مكثفة من جانب القطب الأمريكي لدفع الاتحاد السوفييتي نحو سباق تسلح لم تقو موسكو على تحمل كلفته الباهظة. انتهى السباق بانفراد الولايات المتحدة بالقيادة وأيضاً بالهيمنة. كانت الولايات المتحدة قد استعانت بالعولمة أملاً في فرض منظومة قيمها على العالم بأسره. كان للعولمة الفضل في انتقال الصين من مرحلة كمون طويل إلى مرحلة التحول الكلي نحو الاقتراب من النظام الدولي للاستفادة مما يعرضه من تجارة حرة وأسواق وتكنولوجيات جديدة، لكن دون الاندماج فيه. لا تريد واشنطن التخلي عن مشهد القطبية الأحادية الجديد، تريد على العكس الإطالة فيه ليستحق صفة عصر السلم الأمريكي وليس مجرد لحظة أو مشهد. تريد إزالة ما طرأ عليه من شوائب مثل عودة روسيا وصعود الصين المفاجئ في سرعاته وتصميمه. موسكو ترفض إحالتها للتقاعد وقد صارت واثقة أن حبل التقاعد يقترب من رقبتها بالتقدم الذي أحرزه حلف الأطلسي في مسيرته المحكمة التنفيذ نحو حدودها على الرغم من الاتفاقات والتعهدات المعقودة بين الرئيسين الأمريكي والسوفييتي في أواخر القرن. اختارت للتخلص من الحبل المقترب من رقبتها الترتيب لحرب مع أوكرانيا تبعد بها شبهة قابلية التقاعد.
- ثالثاً: أما بكين وقد أدركت مبكراً نية واشنطن تعطيل أو وقف صعودها عن طريق دمجها في صف الخصم الروسي اختارت وبكل العزم الابتعاد في انتظار اكتمال أهليتها لمكانة القطب الثاني والتزام توصية الزعيم الصيني دينغ تشاو بينغ قائد الانفتاح بالتريث وعدم الهرولة نحو القمة. عطلت بكين أو أحبطت خطة واشنطن لإدماجها في الصف الروسي عندما أطلقت مبادرة توسط وسلام لإنهاء الحرب الأوكرانية.تدرك الصين ويشاركها هذا الإدراك عدد من المحللين الأجانب أن الأمريكيين قرروا أن تكون حرب أوكرانيا درساً قابلاً للتكرار معها عندما يحين دورها، وهو الدور الذي اكتملت خطته، لكن عطلت تنفيذه العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا كما تسميها موسكو.
- رابعاً: مرة أخرى تبرز حاجة العالم إلى تنظيم دولي إقليمي موازٍ للنظام الدولي ولنسميه مجموعة المئة دولة أو مجموعة دول الجنوب العالمي. يعلم قادة الجنوب أن استقلال بلادهم ورفاهية شعوبهم إنما تعتمد على مشهد دولي مختلف كلية عن مشهد الهيمنة الذي تسعى قوى أو مصالح معينة في الولايات المتحدة ودول أخرى إلى استمرار فرضه تحت مسمى النظام أحادي القطبية. لن تكون هينة المرحلة القادمة في تطور النظام الدولي. لا يبالغ من يتصور معارك كسر عظام تسبق ولادة المشهد القادم، أولها وليس آخرها الحرب العالمية الناشبة حالياً ضد روسيا ومنها إلى الصين وإحدى ضحاياها غير المباشرين الشعب الفلسطيني. أبشع علامات هذه الحرب العقوبات الاقتصادية وفي صدارتها عمليات التجويع وفي ركابها إطلاق سباق استعماري جديد لنزف البقية الباقية من ثروة إفريقيا.
لا يجوز أن نتجاهل حقيقة أن الغرب شاخ أو في أحسن أحواله يشيخ بتدرج متسارع، أو نتجاهل حقيقة أن منظومة القيم الغربية لم تعد مرغوبة أو محبذة في العديد من بقاع العالم. بمعنى آخر لم تعد «رسالة الرجل الأبيض» تجد آذاناً صاغية أو متفهمة.