بقلم: رفيق خوري – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- تغير لبنان وتبدلت الدنيا من حوله في أزمات ما بعد الحرب بأكثر مما جرى خلال الحرب الطويلة بين 1975 و1990. وأبسط ما يكشف عن عمق التغيير هو الخلل في موازين القوى المحلية، والفارق بين تجربة اللجنة الثلاثية العربية وتجربة الخماسية العربية والدولية.
عام 1989 تقرر في قمة عربية تكليف لجنة ثلاثية مهمتها ترتيب تسوية سياسية بين اللبنانيين لوقف الحرب. اللجنة مؤلفة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز والعاهل المغربي الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. كانت الأوضاع في لبنان مزرية: جيش منقسم وميليشيات قوية. حكومتان ولا رئيس جمهورية. المقيمون والمهجرون يائسون. المتقاتلون متعبون. وظيفة الحرب لم تعد مفيدة للدول التي مولت وسلحت الميليشيات، بحيث حل شعار أمن المنطقة من أمن لبنان محل شعار أمن المنطقة من اللا أمن في لبنان.
اللجنة الثلاثية تحركت إقليمياً ودولياً كما تحركت داخلياً عبر موفدها الأخضر الإبراهيمي، ثم قادت النواب اللبنانيين إلى مؤتمر الطائف برعايتها تحت مظلة دولية. وكان اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب وأعاد الحياة إلى مؤسسات الدولة. لكن الوصاية السورية التي استأثرت بقوات الردع العربية طبقت ما يناسب مصالحها وحساباتها من اتفاق الطائف وعلى الطريقة السورية، وتركت بلا تنفيذ أهم ما في الاتفاق من إصلاحات وإعادة تموضع القوات السورية.
ولم تتبدل الأوضاع الصعبة منذ اغتيال رئيس الطائف رينيه معوض إلا بعدما تبدلت الحسابات الأمريكية والفرنسية عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد قيام “ثورة الأرز” في أعقاب الاغتيال، بحيث سحبت دمشق قواتها العسكرية مرغمة.
اليوم وصلت الرهانات على التسوية إلى ما يمكن أن تفعله الخماسية العربية والدولية المؤلفة من أمريكا وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، التي تجتمع في باريس. فاللبنانيون يعانون انهيارات متتابعة سياسياً ومالياً واقتصادياً واجتماعياً. لا رئيس جمهورية بل حكومة تصريف أعمال شبه مشلولة، وبرلمان معطل بقوة “حزب الله” عن انتخاب رئيس، وبقوة الدستور عن التشريع خلال الشغور الرئاسي، لأن مهمته الوحيدة في هذه الحال هي انتخاب رئيس. ولا توازن قوى في الداخل. “حزب الله” يملك فائض القوة ويتصرف كقوة إقليمية تهدد أميركا وتشارك في حرب سوريا وحرب اليمن وأزمات العراق. الوصاية الإيرانية حلت مكان الوصاية السورية.
لا قدرة محلية، بسبب الانقسامات والشرذمة والحسابات الخاطئة، على وقف هيمنة “حزب الله”. ولا خطة عربية ودولية لمواجهة النفوذ الإيراني في لبنان، على رغم الخطاب العربي والدولي عن “الخطر الإيراني”، الذي يتجاوز الملف النووي والصاروخي. فالخماسية العربية والدولية تشكو مثل أكثرية اللبنانيين من التركيبة السياسية الفاسدة الحاكمة والمتحكمة بالبلد. غير أنها تكتفي بأن تحض هذه التركيبة على المسارعة إلى انتخاب رئيس وإجراء إصلاحات مطلوبة من زمان وإكمال ما يؤدي إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي.
والتركيبة الفاسدة لن تفعل ذلك، لأن الإصلاحات تضر بمصالحها، وتسد أبواب الهدر والسرقة والتهريب عبر المرافق والمعابر والمرافئ الشرعية وغير الشرعية. فلا بد من ضغوط قوية تتكامل فيها جهود قوى محلية لها مصلحة في الخروج من الأزمات وإمكانات قوى عربية ودولية يهمها ألا يسقط لبنان نهائياً، وبشكل كامل في المحور الإيراني. والوقت ضاغط على الجميع، في لبنان والمنطقة، على رغم الانشغال الكبير بحرب أوكرانيا ومجرياتها على الأرض ومضاعفاتها على الصعيد الدولي. ألم يقل مسؤول فرنسي أخيراً إن باريس قلقة حيال قدرات “حزب الله” وعجز السلطة عن ضبطه، وإنها “متعلقة بلبنان ولن تتخلى عنه، لكن الوضع خطر جداً إلى حد التعفن”؟
مفهوم أن لبنان ليس أولوية في أمريكا وأوروبا ولا هو الهم الأول لدى الأشقاء العرب المشغولين بأمور مهمة. لكن من واجب اللبنانيين أن يكون لبنان أولوية عندهم، وأن يراهنوا على أنفسهم ويفهموا المطلوب منهم حين يقول لهم العرب والغرب: “ساعدوا أنفسكم لكي نساعدكم نحن”. خلال الحرب كتب المؤرخ برنارد لويس: “لبنان عانى، لا بسبب أخطائه، بل بسبب مزاياه”. اليوم يعاني لبنان فوق الطمع الإقليمي فيه أخطاء قادته وحساباتهم الصغيرة.