الرئيسية / مقالات رأي / نهايات بعيدة لحرب غير مألوفة

نهايات بعيدة لحرب غير مألوفة

بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- مضى عام كامل على حرب أوكرانيا، وأظن أننا لا نزال بعيدين عن نهاياتها. أسمّيها حرب أوكرانيا لاعتقادي أنه لم يكن هناك موقع آخر غير أوكرانيا يصلح لأداء الفصل الأول من فصول مهمة بعينها. ففي أوكرانيا، جيوب روسية متمردة دفعت قطاعاً معتبراً من النخبة السياسية النافذة للعمل على إثارة المشاعر القومية الأوكرانية ضد الجارة روسيا، والالتزام بتحرير، أو استعادة سيادة أوكرانيا كاملة على الأقاليم الناطقة بالروسية. أما المهمة الأوسع مدى وزمناً، فهي بالتحديد إضعاف الفرص التي يمكن أن تتاح لكل من روسيا والصين لتكتمل لهما معاً، أو لكل منهما منفردة، الإمكانات اللازمة لاحتلال مكانة القطب المنافس للولايات المتحدة. أوكرانيا كانت اختياراً أمثل لبدء مرحلة جديدة في أداء هذه المهمة ضد روسيا، كما كانت هونغ كونغ وتايوان اختيارين أمثل في الجانب الآسيوي من المهمة ذاتها، ولكن ضد منافس آخر هو الصين.

كانت حرب أوكرانيا، ولا تزال أقرب تطور دولي لصفة الحرب العالمية. اجتمعت فيها قوات أجنبية من عدد متزايد من الجنسيات، على هيئة متطوعين ومرتزقة. اجتمعت أيضاً أسلحة بأنواع شتى قدمتها الدول أعضاء الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ويشارك في الجهد العسكري الروسي قوات من الشيشان ودعم من بيلاروسيا.

من اللافت أيضاً في هذه الحرب، أنها على مرّ أيامها أفرزت مصالح، وهذه المصالح خلقت أنواعاً شتى من الضغوط، ونظمت جماعات لخدمتها، أقصد لخدمة هذه المصالح. إيران مثلاً، وجدت في الحرب الأوكرانية مصلحة لها تنفس فيها عن غضب ناتج عن حصار اقتصادي وحملة عقوبات دامت أكثر من أربعين سنة. إسرائيل من الناحية الأخرى، لم تأل جهداً لتستفيد فائدة قصوى من ميزة وجودها ملجأ عند الحاجة لعديد اليهود المقيمين في روسيا وأوكرانيا، هؤلاء بالنسبة إليها جماعتا ضغط ونفوذ ومعلومات يندر أن تتوفرا لدولة أخرى، فضلاً عن مواقع مهمة للجماعتين في قطاعات تصدير الحبوب والأسمدة والزيوت. لذلك أصبح للحرب الأوكرانية وظيفة تجعل إسرائيل طرفاً مهماً في جماعة الدول المهتمة بمستقبل الحرب.

لا أحد، فيما أظن، يستهين بما تسببت به الحرب الأوكرانية على صّعد مختلفة، مثلاً:

* أولاً: نشأت مصالح وتعززت أخرى نتيجة رفع الحظر الفعلي والمادي والدستوري والمعنوي الذي كان مفروضاً، أو معمولاً به ذاتياً، على مسألة التسلح، وربما العودة إلى نظام المجتمع المتعسكر، بخاصة في كل من ألمانيا واليابان.

* ثانياً: عاد الحديث مجدداً ومعمّقاً، عن قضية هيمنة أو تسلط مجموعة المصالح المرتبطة بدور المجمع الصناعي العسكري في إدارة، أو على الأقل التأثير غير المباشر في السياسة والاقتصاد، ومختلف أبعاد المجتمعات المتقدمة. وصالونات الحكم ودهاليزه في أمريكا وألمانيا وكوريا الجنوبية وبريطانيا صارت تعترف بحقيقة الدولة العميقة التي تتخذ قرارات الحرب والسلم، بخاصة مسألة تزويد أوكرانيا بالسلاح، والإغداق على حكومتها بالمعونات المالية من دون حسيب، أو رقيب.

* ثالثاً: الأهم من وجهة نظري في ما هو جار على صعيد الصناعة، والصناعة العسكرية تحديداً، هو أن من بيدهم الأمر في أمريكا، وربما في ألمانيا والصين، عازمون على تجديد ترسانتهم العسكرية. وأظن أن البشرية في انتظار أدوات قتل جماعي تتفوق في صنعها على أبرع وأكفأ ما أنتجه العقل البشري. هذا التحديث يتطلب صناعة بالغة التقدم، وعلوماً رقمية متطورة، وسرعة في الأداء تتجاوز ما عهدناه. كل هذا يستدعي التخلص، ولكن بسرعات متفاوتة ومناسبة، من كل الأسلحة المودعة في مخازن وقواعد الولايات المتحدة، ودول غرب أوروبا، وبعض دول شرق أوروبا، مثل بولندا.

فلتذهب كل الأسلحة القديمة إلى أوكرانيا لتتفرغ المصانع الأمريكية مرة أخرى لإنتاج أسلحة جديدة، وبكميات هائلة مثلما فعلت في مطلع الحرب العالمية الثانية.

* رابعاً: الحديث في معظم بلاد العالم الثالث يتكثف من جديد حول ما فعله الاستعمار الأوروبي بهذه البلاد. يصعب أن أصف ما سمعته من تعليقات إفريقية على حال دول الغرب نتيجة عجز الطاقة ومشكلات توفير الضرورات والتضخم، بأنه مجرد شماتة.

إنه غضب حقيقي. يتحدثون عن مسؤولية الغرب عن تخلف بلادهم. يقارنون بين الاتهامات الموجهة لروسيا والنية في محاكمة فلاديمير بوتين، ورفاقه، على جرائم حرب ارتكبتها قواتهم، وبين ما ارتكبته قوات أمريكا في العراق وأفغانستان، وفي مواقع أخرى، وما ارتكبته فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا والبرتغال على امتداد قرون. حان وقت الحساب ودفع الثمن. يتكثف الحديث أيضاً عمّا صار يُعرف بالسباق الأوروبي الاستعماري الثاني على إفريقيا، وعن حاجة الأفارقة للانتباه، وحماية ما تبقى من ثروات طبيعية.

* خامساً: بالرغم من الهيمنة شبه المطلقة للإعلام الأمريكي على شؤون الحرب الأوكرانية، يتأكد يوماً بعد الآخر أن بعض شعوب أوروبا، بل وقطاعات في الشعب الأمريكي، بدأت تفصح عن عدم رضاء عن التدفق المبالغ فيه من السلاح والذخائر والأموال على الحرب في أوكرانيا. زادت أيضاً، وبشكل مفاجئ، ممارسات العنف في مدن أمريكية، وظهرت إحصاءات تكشف عن موجات من الأمراض النفسية تجتاح المدارس، وربما امتدت إلى داخل الكونغرس الأمريكي. هذه، وغيرها أمور، تحدث عندما تكون الدولة في حرب فعلية. واشنطن تنفي أن أمريكا في حالة حرب بينما الإنفاق، إنفاق حرب والتحول المفرط والعاجل في أنماط التصنيع العسكري لا يحدث إلا في سنوات حرب، أو الاستعداد لحرب.

ونتساءل مع أعداد متزايدة من المراقبين والمهتمين عن أسباب غياب النية لدى أمريكا ودول غربية أخرى في تدشين مفاوضات لوقف الحرب الناشبة في أوكرانيا، أو على الأقل لبعث الأمل في نهاية قريبة؟ من ناحيتي، أعتقد أن دوافع استمرار حالة الحرب لدى الجهات التي خططت لهذه الحرب والجهات المستفيدة من نشوبها، لا تزال أقوى وأكثر من دوافع وقفها.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …