الرئيسية / الرئيسية / الدبلوماسية ما بين الإغاثة والكوارث: كيف تعيد الدول صياغة علاقاتها الخارجية؟

الدبلوماسية ما بين الإغاثة والكوارث: كيف تعيد الدول صياغة علاقاتها الخارجية؟

الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يتناول التحليل دبلوماسية الكوارث والإغاثة عبر تقديم مدخل تفسيري للمصطلحين ويركز على مفهوم دبلوماسية الكوارث عبر استعراض تجارب سابقة للوصول منها لقراءة المشهد الحالي عقب الزلازل الذي ضرب تركيا وسوريا مؤخراً، وعلى الرغم من مأساوية الحدث؛ يبحث التحليل في مدى قدرة الدولتين على تحسين واقعهما المحلي والخارجي.

أدناه النص كما ورد في موقع المركز:

تمر الدول بأزمات وكوارث، بعضها طبيعي والأخر من صنع الإنسان، تلزمها بتحرك سريع لوقف الخسائر، أو إعادة الإعمار، أو التعافي، وكذلك من أجل إنقاذ الضحايا. وعادة ما تنشط عدة مصطلحات عقب ظهور الكوارث لاسيما الطبيعية منها؛ من قبيل: دبلوماسية الكوارث، دبلوماسية الإغاثة، دبلوماسية الأوبئة، والرابط بين كل ما سبق وقوع حدث جلل مفاجئ تتخطى آثاره قدرة الأنظمة السياسية ما بتوجب معه استخدام سياق مغاير للدبلوماسية عن ذلك النوع التقليدي المتبع في أوقات السلم أو المسارات الطبيعية في علاقات الدول ببعضها.

من هنا وعقب الزلزال الذي ضرب بشدة تركيا وسوريا في السادس من فبراير 2023، ونجم عنه خسائر كبيرة في الأرواح إضافة إلى الخسائر المادية، تداولت العديد من الكتابات الصحفية والبحثية مصطلحي “دبلوماسية الكوارث – دبلوماسية الإغاثة” في سياق قدرة دمشق وأنقرة على المضي قُدماً في تحسين حضورهما الإقليمي والدولي عبر تطبيع علاقات ثنائية أو كسر عزلة، أو تعزيز علاقات.

مدخل تفسيري وتجارب سابقة

تتعدد مصادر القوة التي تمتلكها الدول ما بين الصلبة (القوة العسكرية والاقتصادية) والناعمة (يدخل في سياقها الدبلوماسية بكل أنواعها)، وتشتد حاجة الدول لاستخدام هذه القوة في الأزمات التي تمر بها، لا سيما الدبلوماسية منها والتي يعتبرها البعض بديلا عن الحرب. وعلى مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، يشهد العالم زيادة في معدل الكوارث الطبيعية، حيث تسارع الدول عادة في إبداء تعاطفها مع الدول المتضررة من تلك الكوارث على اختلافها، وتقوم بتقديم المساعدات النقدية والبشرية والعينية. يتزامن مع ذلك ظهور عدة مصطلحات تربط ما بين أنواع مختلفة من الدبلوماسية، وبين علاقات الدول وبعضها، سواء تلك التي تربطها ببعضها صراعات وتنافس أو تحالفات وتكامل، من هذه المصطلحات:

أولاً: الدبلوماسية الإنسانية

يتضح من سياق مصطلح” الدبلوماسية الإنسانية” أنها تجمع بين مفردتين ليس بالضرورة لهما نفس الغاية، فالدبلوماسية في الأساس هي “فن إدارة العلاقات الدولية عبر مهارات التفاوض والحوار، بما يحقق المصالح للأطراف، من حل للنزاعات والصراعات، وقف الحروب، عقد التحالفات، والحصول على اتفاقيات أو اتفاقات ملزمة للطرفين في شتى المجالات”. فيما يرمي مصطلح الإنسانية إلى “مفردات المبادئ التي تعزز من مفاهيم التضامن، الإغاثة، الدعم غير المشروط، المساعدة، وغيرها من القيم النبيلة التي تحتويها الإنسانية”. لذا يهدف مصطلح “الدبلوماسية الإنسانية” إبان أوقات الصراعات والكوارث إلى تهيئة الظروف وتقديم الدعم للمتضررين والعمل على تمكينهم من الحصول على أبسط الحقوق من المساعدات الإنسانية لا سيما الغذاء والدواء والمساكن المؤقتة. كما تُعرّف منظمة الصليب الأحمر الدبلوماسية الإنسانية بكونها “تلك الدبلوماسية التي تقنع صانعي القرار وقادة الرأي، بالعمل في جميع الأوقات لصالح الأشخاص المستضعفين، مع الاحترام الكامل للمبادئ الإنسانية الأساسية”.

ثانياً: دبلوماسية الكوارث

تعد دبلوماسية الكوارث من المصطلحات الحديثة نسبيا، والتي ليس لها تعريف جامع متفق عليه، بقدر ماهي مجال أكاديمي يبحث في آلية تعامل وتأثير الكوارث على العلاقات بين الدول. كما توصف بكونها “دبلوماسية تتحرى كيف ولماذا تؤثر الأنشطة المتعلقة بالكوارث على الصراع والتعاون”. ومن ثم فإن دبلوماسية الكوارث معنية بكل أشكال النزاعات مع كل الأطراف وفي جميع الأوقات. وتشمل دبلوماسية الكوارث على ظواهر الزلازل، الانفجارات، البراكين، الأوبئة وغيرها من التغيرات التي تدخل في نطاق الكوارث المزمنة طويلة الأجل.

ثالثاً: دبلوماسية الإغاثة

يعد مفهوم دبلوماسية الإغاثة المصطلح الثالث الذي تتداخل فيه عناصر الأزمة (الكارثة والدبلوماسية)، فكلا من الدبلوماسية الإنسانية، ودبلوماسية الكوارث، يقدمان المعونة والمساعدة للأطراف المتضررة، فما الفرق إذن بينهما وبين دبلوماسية الإغاثة؟ لعل عامل الزمن من حيث طول المدة وقصرها، وعامل النفعية (من الأطراف الرابحة) هما معياري التفرقة، حيث تميل دبلوماسية الكوارث أكثر للعمل قبل وبعد الكارثة، سواء كخطوات استباقية تعاونية، أو معالجة الضرر كمرحلة لاحقة لوقوع الكارثة. بخلاف عملية الإغاثة والتي هي أقرب لدبلوماسية لحظية مباشرة بعد وقوع الكارثة وليس قبلها، مع التركيز على المعالجة السريعة للضرر (بشري-مادي).

ومما سبق يمكن التركيز على مفهوم دبلوماسية الكوارث عبر عرض تجارب سابقة للوصول منها لقراءة المشهد الحالي عقب حدوث الزلازل في تركيا وسوريا، كما يلي:

1- زلزال تركيا 1999: تعرضت تركيا في 17 أغسطس 1999 لزلزال ضرب غرب البلاد نتج عنه وفاة حوالي 17 ألف شخص. ورغم التوتر التاريخي بين اليونان وتركيا على خلفية الأوضاع في قبرص، عرضت اليونان المساعدة على تركيا التي قبلت بها. وفي 7 سبتمبر من نفس العام تعرضت اليونان أيضا لزلزال راح ضحيته ما يتخطى 140 شخص، فعرضت تركيا المساعدة على اليونان، وبالفعل ذهب فريق إنقاذ تركي واستطاع انتشال مواطن يوناني من تحت الأنقاض. يؤخذ في الحسبان تغير الأنظمة الحاكمة في البلدين، حيث كان اليسار القومي يحكم تركيا حينذاك (الآن العدالة والتنمية الإسلامي)، أما اليونان فكان يحكمها حينها تيار اشتراكي (الآن تيار محافظ).

2- زلزال بم الإيراني: وقع في شرق إيران بمدينة “بم” -التابعة لمحافظة كرمان في 26 ديسمبر 2003، وبلغت درجته 6.6 ريختر، ونتج عنه آلاف الوفيات والإصابات، ودمر غالبية المنشآت والبنى التحتية. في مقابل ذلك تواصلت إدارة جورج بوش الابن، وعرضت المساعدة على إيران فوافقت، وهبطت طائرتي شحن عسكري أمريكي، وبهما 200 فرد من فرق الإنقاذ والمساعدات الطبية والإنسانية اللازمة. ومع ذلك فإن العلاقات الإيرانية قبل وبعد تلك الحادثة متوترة، يستثنى من ذلك فترة الاتفاق النووي مع أدارة أوباما بنهاية 2015، والتي رفعت بعض العقوبات الجزئية عن إيران. لكن يفهم من هذه التجربة مسألتين: الأولى؛ أن نجاح الدبلوماسية (هنا هي أقرب لدبلوماسية إغاثة) في تخفيف الأثر ومعالجة الأضرار (حتى لو بين دول متخاصمة) وأنها سمحت بوجود تعاون غير مرحب به في أوقات السلم أو الأيام العادية. المسألة الثانية أن تلك دبلوماسية لحظية لم تدم التعاون بين الطرفين ولم تنهي التوتر الدائم، وهو ما يعتبر حدثاً عارضاً. وفي المقابل حين عرضت إيران على الولايات المتحدة تقديم 20 مليون برميل نفط لمواجهة وتخفيف تداعيات إعصار كاترينا عام 2005، رفضت واشنطن لاشتراط إيران أن يتم ذلك مقابل رفع العقوبات الأمريكية. وهو ما يعنى أن دبلوماسية الإغاثة \ الكوارث ليست بالضرورة ناجحة في كل الأزمات والكوارث، بل الرهان على المدى الزمني وعوامل تعارض المصالح وتعاقب الحكومات واختلافات سياساتها.

التفاعلات التركية الداخلية والخارجية

تملك تركيا بمختلف حكوماتها السابقة والحالية تراث قديم من التعامل مع الكوارث، ومن ثم كيفية الاستعانة والحاجة إلى تطبيق “دبلوماسية الكوارث”، وطبيعة المخرجات الناتجة من سياق التفاعلات التركية الدولية والداخلية، سواء أثناء حدوث الكوارث أو ما بعدها. وبعيدا عن حجم المساعدات التي تلقتها تركيا، وخطابات وبيانات زعماء الدول الغربية والإقليمية، والتي لا تعبر في الحقيقة عن علاقة تركيا الحالية بتلك الأطراف، أو حتى مستقبل علاقاتهم معها، فإن ثمة مؤشرات ومشاهد أخرى قد تكون هي الأفضل، لفهم آلية اتباع الحكومة التركية سياسة أو نهج “دبلوماسية الكوارث” على المستوى المحلى (بين الحكومة والمعارضة)، أو المستوى الخارجي وفق خريطة علاقاتها الإقليمية والدولية، كما يلي:

أولاً: الانتخابات القادمة والمعارضة

تمثل إدارة الأزمات معيارا هاماً في تقييم الحكومات، خاصة عند تزامنها مع عقد انتخابات برلمانية أو رئاسية، يحتمل فيها فوز حكومة جديدة أو رئيس جديد. فعلى سبيل المثال ظل أداء الرئيس الأمريكي ترامب داخلياً قوياً حتى جاءت جائحة كوفيد-19 في العام الأخير من إدارته، وبدت الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الجائحة، وآلية تعامله الشعبوية في بعض الأحيان فيما يخص الجائحة، فضلاً عن عدد الضحايا التصاعدي حينذاك، عوامل ساهمت في خسارته الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020. على ذات السياق تعول المعارضة التركية أن تسهم الانتقادات الموجهة للحكومة التركية فيما يخص الاتسعداد للأزمة، وما نتج عن الزلزال من خسائر اقتصادية وبشرية، إلى جانب الأزمات الاقتصادية المتتالية والتي زادت حدتها عقب الأزمة الأوكرانية الحالية، في أن تنعكس على زيادة عدد مقاعد المُعارضة أو كسبهم للانتخابات القادمة المُتوقعة في مايو 2023.

من جانبه دعا الرئيس التركي العالم أجمع لتقديم المساعدات العاجلة لأنقرة، وهو ما استجيب له، لا سيما في توافد المساعدات من دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول العربية وإسرائيل. ولعل اللجوء لدبلوماسية الكوارث، قد يكون له عوائد على الحكومة التركية لعدة أسباب:

1- أن طبيعة وجوده في السلطة قبل عقد الانتخابات العامة، يمكنه من إدارة الشق المالي من المساعدات الدولية والتي بالطبع سوف تساهم في تقليل خسائر الزلزال على المستوى المالي. على عكس المعارضة التركية التي لن تملك سوى مراقبة المشهد وتعبئة الجمهور نحو إبراز أخطاء الحكومة -المفترضة- سواء تحميلها مسؤولية تفاقم انهيار المباني، في إشارة لشبهات فساد في بنائها، أو تكرار تذكير المواطن التركي بالتراجع الاقتصادي ومسؤولية السياسات الحكومية عن ذلك.

2- أن دبلوماسية الكوارث، سوف تخفض -أو ترجئ- التوترات والخلافات بين تركيا وغيرها من القوى الدولية والإقليمية، حول الملفات الهامة مثل ليبيا، والعمليات العسكرية في سوريا والعراق، والموقف من الأزمة الأوكرانية الحالية، وتعليق الموافقة على انضمام السويد وفنلندا للناتو.

3- إن دبلوماسية الكوارث، بما تُقدمه من معونات ومساعدات، قد تُمكن الحكومة التركية من التعافي بسرعة جراء الزلزال، والتخفيف من تداعياته متوسطة وبعيدة المدى، خاصة وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أقر بوجود “ثغرات” في الاستجابة للزلزال، وسط انتقادات شعبية طالت استعدادات الحكومة لهكذا أزمة.

ثانياً: تقارب أنقرة تجاه دمشق

سبق حدوث الزلزال، تقاربا بين دمشق وأنقرة، على خلفية عدة سياقات منها:

1- التحول النسبي إلى سياسة “صفر مشاكل” والتي كانت تتبعها تركيا إلى حد ما قبل عام 2011.

2- وجود تيار شعبي يُحمل اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا مسؤولية الأزمات الاقتصادية، ما أبرز ضرورة التفكير في إعادة ما يقرب من مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، وقد استخدمت المعارضة التركية ورقة اللاجئين في حملاتها الانتخابية، في ضوء أن تدّخل تركيا في الأزمة السورية أسفر عنه وجود حوالي 3.5 مليون لاجئ سوري في الأراضي التركية.

3- إن المعارضة الغربية لشن تركيا عمليات عسكرية جديدة ضد المجموعات الكردية في سوريا، وفرت الفرصة لعقد صفقة ثلاثية تجمع بين أنقرة، موسكو ودمشق، بموجبها تساعد تركيا وروسيا الجيش السوري في تسلم  مناطق حدودية مع تركيا في الشمال السوري، دون الحاجة للقيام بعملية عسكرية جديدة هناك.

ثالثا: القوى الكبرى والإقليمية

سارعت الدول الكبرى في الإعلان عن تقديم مساعداتها لتركيا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول الاتحاد الأوروبي (خاصة اليونان والسويد)، فضلاً عن التضامن والدعم العربي والإقليمي مثل دول مصر، الإمارات، إسرائيل، والتي تحاول أنقرة مؤخرا تغيير سلوكها تجاهها في إطار نهج جديد لتعزيز المصالح التركية لاسيما الاقتصادية. من هنا تبرز عدة قضايا، يمكن مناقشتها لمعرفة تأثير دبلوماسية الكوارث على علاقات تركيا بالدول الكبرى والإقليمية، كما يلي:

1- السويد ورئاسة الاتحاد الأوروبي: تستمر رئاسة السويد للاتحاد الأوروبي حتى 30 يونيو 2023. ولا تزال تركيا تتحفظ على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعللت تحفظها على خلفية رعاية السويد للاجئين أكراد مؤيدين لحزب العمال الكردستاني، والذي تصنفه أنقرة كحزب محظور. إضافة إلى رهن أنقرة موافقتها على انضمام السويد وفنلندا للناتو، مقابل تسلمها طائرات (F-16) من الولايات المتحدة، وهو ما يرفضه الكونجرس. في المقابل تبنت السويد خطابا إيجابيا تجاه تركيا، بوصفها شريكة لها، عارضة تقديم المساعدات، في ضوء أنها رئيسة للاتحاد الأوروبي. ويفهم من الموقف السويدي والذي جاء بعد سلسلة من الحوادث التي ساهمت في توتر العلاقات مع أنقرة، أن عرض تقديم مساعدات لتركيا خطوة تدفع لتهدئة الأجواء بينهما، كون أن دبلوماسية الكوارث ليست فقط نهجا تقوم به الدول المتضررة من الكوارث، بل أيضا يمكن أن تستفيد منها الدول الأخرى عبر تحسين أوضاعها المحلية والخارجية بما لا يتحقق في ظروف مغايرة.

2- اليونان وشرق المتوسط: يعد شرق المتوسط إحدى مناطق التنافس بين الدول، والذي طالما شهد توترا في علاقات تركيا مع دول مثل (اليونان- مصر- قبرص) على خلفية الموارد الاقتصادية، وترسيم الحدود البحرية، والدور التركي في ليبيا. فمن جانب لا تعترف تركيا باتفاقية أعالي البحار والتي من خلالها، رسمت وحددت مصر مع إيطاليا واليونان وقبرص اليونانية حدودهم البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة. ومن جانب آخر لا تعترف أيضا مصر واليونان، باتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها تركيا مع حكومة فائز السراج السابقة في ليبيا. وعقب حدوث الزلزال تواصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع نظيره التركي وهو التواصل الحي الثاني بعد لقائهما في افتتاح بطولة كأس العالم في قطر نوفمبر 2022. في المقابل زار وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس أنقرة في 12 فبراير 2023، والتقى نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، وهو ما جعل البعض يرى أن ذلك بمثابة انفراجة في علاقات تركيا مع مصر واليونان. غير أن هذه الرؤى، ثمة ما ينقضها، على الجانبين التركي-المصري، والتركي- اليوناني، لعدة أسباب منها؛ أن التقارب التركي المصري يتم وفق مفاوضات ولقاءات دبلوماسية لم ترتق إلى المستويات العليا، ولم يحدث بها تطور لافت ينبئ بتحولات في العلاقات التركية المصرية، في ظل الخلافات على شرق المتوسط والأزمة الليبية. وبالتالي التواصل المصري مع تركيا في سياق الزلزال، هو اقرب للدعم والتضامن اللحظي في سياق الإغاثة الإنسانية. كما توحي التجربة السابقة بين تركيا واليونان في سياق التعاون أن دبلوماسية الكوارث التي اتبعت بينهما آنذاك، ويروج لها الآن أيضا في زلزال فبراير2023، هي دبلوماسية تخفف حد الصراع وقد تؤجله، لكنها لا تخلق منعطفا جديدا في العلاقات، حيث لطالما لم يتغير موقف البلدين تجاه الملفات الخلافية العالقة وعلى رأسها تقسيم قبرص، والمنافسة على موارد شرق المتوسط، علاوة على أزمة عبور اللاجئين من حين لأخر عبر بحر إيجة الفاصل بين تركيا واليونان.

سوريا وحدود التحرك من العزلة

تواجه سوريا أزمات متعددة وهي تستقبل الزلزال الأخير، فمن جهة تداعيات مستمرة منذ عام 2011، ومن جهة أخرى تدخلات لقوى دولية وإقليمية في الأراضي السورية. فبينما سارعت الدول لتقديم الدعم بكل أنواعه لتركيا، لا تصل المساعدات ولا الدعم لكل المناطق المتضررة في سوريا، في ظل تشدد المواقف، حيث تخشى الحكومة السورية جراء وصول المساعدات إلى شمال غرب سوريا من وقوعها في قبضة الجماعات الإرهابية والمُتطرفة، فيما ترفض بعض هذه الجماعات من دخول المساعدات عبر المناطق التي تسيطر عليها الدولة، حسبما أعلن متحدث باسم الأمم المتحدة. وكذلك بسبب معارضة قوى إقليمية وغربية التعامل مع الحكومة السورية، عبر تقديم الدعم المطلوب لإغاثة المتضررين في كل المناطق السورية. في هذا السياق ومع تواصل عدد من الدول العربية مع الرئيس السوري بشار الأسد، للتضامن مع كارثة الزلزال وتقديم العون، بدأت التقديرات في الحديث عن مدى قدرة دمشق للتحرك من عزلتها استغلالا لدبلوماسية الكوارث، والضغط بتجاه رفع العقوبات المفروضة عليها، ويمكن قراءة المشهد من الجانب السوري عبر النقاط التالية:

أولاً: بوابة المساعدات

تطالب دمشق منذ بداية الأزمة بنقل المساعدات وتوصيلها للمناطق المتضررة، عبر الحكومة السورية وتحت إشرافها وليس عبر الحدود التركية، وألا تمر المساعدات لسوريا من معبر باب الهوى الواقع في الشمال الشرقي لمحافظة إدلب. تبدو الانفراجة في ملف المساعدات مرهونة بتوافق دمشق وأنقرة على فتح بوابات أخرى لنقل المساعدات في ضوء مؤشرات التقارب السابق عرضها، والتي ربما تكن مدخلا أيضا لتخفيف الضغط الدولي على سوريا، كونه سوف يسمح بعبور المساعدات لكل المناطق حتى تلك الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية. وهذا الطرح ليس مضمونا بالطبع لكنه محتمل، خاصة مع استمرار الصعوبات في تقديم المساعدات خلال الأيام الماضية، ومن شأن بقاء الوضع كما هو عليه أن يُفاقم الخسائر البشرية والمادية التي خلفها الزلزال.

ثانياً: استمرار التحركات الأردنية تجاه سوريا

تعتبر التحركات الأردنية تجاه دمشق هي الأبرز عربيا قبل وبعد الزلزال، فقد كان جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، من أوائل القادة العرب الذين تواصلوا هاتفياً مع الرئيس السوري بشار الأسد في أكتوبر 2021، كما هاتف جلالته للمرة الثانية الأسد لتقديم التعازي بضحايا الزلزال والإعراب عن وقوف الأردن إلى جانب سوريا في هذه الكارثة، وقد قدم الأردن قوافل من المساعدات الإغاثية الطارئة إلى سوريا، كما أرسل طائرة عسكرية محملة بالمساعدات الإغاثية إلى مطار حلب، وأخرى إلى مطار دمشق. وقد كان التواصل الأردني السوري سابقاً للكارثة، حيث سعى الطرفين لإعادة التبادل التجاري بينهما عبر نقطة حدود جابر، بالإضافة إلى أن تزويد الأردن للبنان بالكهرباء، يمر عبر الأراضي السورية.

ثالثاً: مواصلة التقارب الإماراتي مع سوريا

تصاعد تواصل المسؤولين الإماراتيين مع دمشق خلال العامين الماضيين، حيث زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد دمشق للمرة الأولى في نوفمبر 2021، وكان قد سبقها عدة اتصالات جرت بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره الإماراتي محمد بن زايد (ولي العهد حينذاك). ثم الزيارة الثانية لوزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق يناير 2023، والثالثة في 12 فبراير الجاري، بالتزامن مع تخصيص الإمارات مبلغ 50 مليون دولار لدعم سوريا في مواجهة تداعيات الزلزال. وقياسا على موقف الإمارات خلال الفترة من نوفمبر2021 وحتى فبراير2023، فإن دبلوماسية الكوارث في إطار الزلزال السوري، ساهمت في تعجيل وتسريع التقارب الإماراتي السوري، لكنها لم تخلقه من العدم.

رابعاً: التضامن التونسي

يتّبع الرئيس التونسي قيس سعيد، سياسات مرنة تجاه الدول العربية الإقليمية خاصة (مصر، ليبيا، الجزائر، تركيا). وقد تحسنت علاقة تونس بسوريا بداية من عام 2015 عقب فتح مكتب لإدارة شؤون التونسيين المقيمين في سوريا، وذلك بعد ثلاث سنوات من إغلاق تونس لسفارتها في دمشق عام 2012 بقرار من الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، وأخيرا أعلنت الرئاسة التونسية في 9 فبراير نيتها حول رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا، وقرب تبادل السفراء بين البلدين.

يمكن أن نستنتج من السياق التونسي أن دبلوماسية الكوارث أحدثت تطورا في تعزيز العلاقات مع سوريا، كما أنها تعد انفراجة نسبية في تقليل عزلة النظام السوري، الذي ربما يستغل الوضع لحلحلة المشهد أكثر في الشهور القادمة.

خامساً: مسوغات لتخفيف العقوبات الأمريكية

أعلنت الخزانة الأمريكية في 9 فبراير 2023، رفع العقوبات جزئيا عن سوريا لمدة 6 أشهر، سامحة للدول ومنظمات الإغاثة تقديم مساعداتها لكل المناطق المتضررة في سوريا، على أن تستخدم المصارف السورية لتلقي التمويلات القادمة بغرض الإغاثة والدعم. مع الأخذ في الحسبان عدم استخدام الدعم المالي لغايات إعادة الإعمار بشكل عام، مع بقاء العقوبات المفروضة على استيراد النفط السوري. ورغم أن هذه الفترة سوف توضح إن كان رفع العقوبات الجزئية عن سوريا ساهم في تخفيف المعاناة الإنسانية للسوريين، وهل ستستفيد دمشق من التمويلات القادمة للمصارف السورية أم لا؟ لكن مدة رفع العقوبات تعد أيضا مهلة جيدة لتصويب الأوضاع السورية في الإقليم، خاصة لو تزامن ذلك مع التوافقات التركية الروسية في ملف المساعدات، وعودة اللاجئين، وعدم قيام تركيا بعمليات عسكرية في شمال سوريا.

وأخيراً، يمكن القول إن دبلوماسية الكوارث عامل محفز لتعزيز العلاقات الدولية شريطة أن يكون هناك تحركات مسبقة وليست وليدة اللحظة، كما أن التجارب التاريخية تبرهن على عدم قدرة دبلوماسية الكوارث على استدامة التعاون بين الدول ما بعد الكوارث والأزمات. وفي سياق زلازل تركيا وسوريا، قد توازن دبلوماسية الكوارث من الانتقادات التي تعرضت لها الحكومة التركية بعدم استعداداتها للأزمة، مع الأخذ في الحسبان الثبات النسبي لعلاقات تركيا بالغرب تحديدا تجاه قضايا الناتو والطائرات الأمريكية، وكذلك شرق المتوسط. أما عن الرئيس السوري بشار الأسد فثمة انفراجة نسبية في حلحلة العزلة الدولية المفروضة عليه منذ الأزمة السورية عام 2011. وبمعزل عن الدبلوماسية ومفاهيمها المتعددة فإن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وراح ضحيته -لغاية نشر التحليل- أكثر من 36 ألف قتيل و150 ألف جريح، يعد أحد الأزمات الإنسانية الكبيرة التي تواجه العالم الحديث، لا سيما أن مناطق عدة تأثرت بالزلزال، هُمشت عنها المساعدات الأممية بشهادة مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، الذي ذكر في تغريدة له أن “المنظمة خذلت السكان شمال غربي سوريا”. وفي هذا السياق يجب أن يدرك الساسة أن الاعتبارات الإنسانية يجب أن تأتي أولاً في مثل هذه الظروف الكارثية.

شاهد أيضاً

الذهب يحقق أفضل أداء سنوي

الشرق اليوم- سجلت أسعار الذهب، الجمعة، أفضل أداء أسبوعي لها في عام، مدفوعة بالطلب المتزايد …