بقلم: عمّار الجندي – النهار العربي
الشرق اليوم- بانتخابها نيكوس خريستودوليدس (49 عاماً)، وزير الخارجية السابق، رئيساً ثامناً، خطت قبرص الخطوة الأولى نحو مستقبل قد يشهد اتساعاً في الفجوة مع شطرها الذي تحتله تركيا منذ 1974. ويُخشى أن الأسلوب الذي يلوح الرئيس المنتخب سلفاً بانتهاجه لدى مباشرته مهامه في الأول من آذار (مارس)، والمستلهم إلى حد ما من تشدّد القوى السياسية التي حملته إلى السلطة، سيساعد أنقرة على عرقلة إعادة ثلث الجزيرة الشمالي إلى حضن الوطن.
ولم يكن الدبلوماسي المخضرم أندرياس مافرويانيس (66 عاماً) الذي توقع البعض أنه سيفوز في الانتخابات بعد أدائه المفاجئ في الجولة الأولى، هو الخاسر الأكبر. فالهزيمة الحقيقية كانت من نصيب أكبر حزبين في قبرص: “التجمع الديموقراطي” الذي طرد خريستودوليدس بوصفه “خائناً” خاض السباق كمستقل ورفض دعم ترشيحه، و”الحزب التقدمي للشعب العامل” (الشيوعي) الذي تبنى منافسه. ولا يستبعد أن ينقسم “التجمع الديموقراطي” بسبب هذه الهزيمة، التي لا تليق بحزب حكم قبرص قرابة عشرين عاماً منذ 1974.
ربما توجست تركيا من فوز المستقل مافرويانيس، كبير مفاوضي القبارصة اليونانيين في مباحثات السلام بين 2015 و 2017 مع الشطر الشمالي. فقد شدّد خلال حملته الانتخابية على نيته إبداء أقصى درجات المرونة للوصول الى إعادة توحيد الجزيرة. وألقى باللوم في فشل تلك المفاوضات على “تعنت” نيكوس أناستاسيادس، الرئيس المنتهية ولايته، وخريستودوليدس الذي كان ناطقاً باسم الحكومة (2014-2018).
وفي تصريحاته الأولى بعد الإعلان عن انتصاره بواقع 51.9 مقابل 48.1 في المئة من أصوات الـ561 ألف ناخب، أوضح الرئيس الجديد أن إعادة توحيد الجزيرة تأتي على رأس أولوياته. إلا أن شروطه لفتح باب الحوار مرة أخرى، قد توفر ذريعة لأنقرة لرفض العودة الى طاولة المفاوضات. كما أن هناك الكثير من العناصر الأخرى المرشحة لاعتراض، أو إعاقة، طريق الوفاء بوعد إعادة التوحيد.
على الصعيد المحلي، انتُخب خريستودوليدس بفضل دعم أحزاب يمينية قومية، بينها “الجبهة الشعبية الوطنية” (إلام) وهو النسخة القبرصية من حزب “الفجر الذهبي” اليوناني العنصري المتطرف. وهذه الفئات تطالب بموقف أكثر تشدداً حيال قضية الجزيرة وبالتخلي عما أنجزته المفاوضات الأخيرة لأنها تعتبره ثمرة تنازلات عن حقوق قبرصية سيادية.
في المقابل، لم يعد الشطر الآخر المسمى “جمهورية شمال قبرص التركية” التي لا تحظى باعتراف أي دولة أخرى سوى تركيا، يرضى بما تحقق في مباحثات 2017. كما أنه صار أكثر تمسكاً بوجوب بقاء القوات التركية فيه وباحتفاظ أنقرة بـ”حق التدخل” العسكري، وهما الشرطان اللذان حملا نيقوسيا على الانسحاب من تلك المفاوضات. ويبدو تعويل الرئيس المنتخب على “المرغبّات” الأوروبية التي يأمل بتقديمها لتركيا من أجل إبداء بعض الليونة، ببساطة غير واقعي. ومن المستبعد أن أوروبا التي فشلت مراراً في ترويض تركيا ستنجح هذه المرة، على فرض أن لديها متسعاً حالياً في خضم انشغالها بأزماتها وصراعها مع روسيا لكي تحاول من جديد تلبية لرغبة خريستودوليدس.
في هذه الأثناء، يُصرّ حكام الشطر الشمالي، بإيعاز من أنقرة، على حل الدولتين، الذي تعارضه قبرص ولا يقبله أحد تقريباً، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويرفض القبارصة الأتراك الفيدرالية الواردة في “خطة أنان” التي كانت قد حظيت بتأييدهم الواسع في استفتاء 2004، خلافاً لأشقائهم اليونانيين.
ولتعزيز هذا الرفض، زجت تركيا بثقلها في الجزيرة في السنوات الأخيرة. وأرسلت عشرات الآلاف من “المستوطنين” الذين لا تتوافر الآن إحصاءات دقيقة عنهم، بيد أن بعض التقديرات تقول إن عدد السكان الإجمالي 500 ألف نسمة نصفهم من الوافدين الأتراك، ممن صاروا من مواطني “جمهورية شمال قبرص التركية”. كما عملت على فرض ثقافتها الغريبة على المجتمع العلماني القبرصي الأصيل في الشمال.
ودعمت أنقرة المرشح القومي التركي المتشدد أرسين تاتار بقوة، فتغلب على منافسه المعتدل مصطفى أكينجي في انتخابات رئاسة الشطر الشمالي عام 2020. واتهم أكينجي عندئذ تركيا بـ”ضخ أموال هائلة قبيل الانتخابات الأخيرة”. وهي لم تتوانَ عن ترهيب هؤلاء المعارضين وعائلاتهم من أجل إجبارهم على الرضوخ إلى رغبتها.
مع ذلك، فأنقرة عازمة على المضي في مشروع إقامة “دولة” مستقلة في الجزء الشمالي من قبرص تحمل اسمها وتستعمل لغتها وتستضيف عشرات الآلاف من مواطنيها. وثمة أسباب كثيرة لتمسكها بهذا “الحلم”، قد تبدأ بالثروات التي يختزنها البحر الأبيض المتوسط، والشعور القومي التركي المتورم، ولا تنتهي بقرب موعد الانتخابات الرئاسية في أنقرة.
وهذا يعني أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لن يتخلى عن هدف التقسيم في وقت يحتاج إلى شحذ همم أنصاره واستمالة الناخبين، لا سيما في أعقاب الزلزال الذي كشف عن مشكلات حقيقية ناجمة عن الفساد أو سوء الإدارة أو كليهما.
كما أن إصراره على حل الدولتين قد يزيد من غموض مستقبل “خط أنابيب شرق المتوسط” الذي تتعاون فيه قبرص مع إسرائيل واليونان لنقل الغاز الى أوروبا، والمزمع إنهاؤه في 2025. والمشروع الذي تعقّد مخاضه سلفاً، ورفعت أميركا يدها عنها، يثير غضب تركيا وروسيا.
ولقبرص أهمية استراتيجية بالنسبة لموسكو، وخصوصاً أن الرئيس الجديد وقع معها حين كان وزيراً للخارجية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 اتفاقية حول “التعاون مع روسيا في مجال العمليات الإنسانية” تجيز لسفنها وطائراتها العسكرية استعمال موانئ ومطارات قبرص “لأغراض إنسانية”. وقد يرغب أردوغان باستخدام “جزئه” من الجزيرة كورقة ضغط في مناوراته المستمرة مع طرفي الصراع في أوكرانيا.
في السياق نفسه، أفاد روس مقربون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأوكرانيون، من أصحاب الملايين، من فضيحة “جواز السفر الذهبي”. فقد اشتروا من مسؤولين قيل إن بينهم رئيس البرلمان وبعض أفراد عائلة الرئيس المنتهية ولايته، الجنسية القبرصية مقابل 2.5 مليوني يورو (نحو 2.67 مليوني دولار). وأساءت الفضيحة إلى سمعة أناستاسيادس وبالضرورة إلى أركان ولايتيه، ومنهم خريستودوليدس. إلا أن الرئيس المنتخب، الذي دعمه سلفه بقوة، تعهد باجتثاث الفساد ومحاسبة المتورطين به.
ويغذي الفساد المستشري أزمة “تكلفة المعيشة” التي لا بد لخريستودوليدس من العمل على معالجتها، إذ تزداد حدة فيما يعتقد أن التضخم قد تجاوز معدله في العام الماضي (10.9 في المئة). كما ستكون مشكلة الهجرة بين أولوياته مع وصول نسبة المهاجرين إلى 6 في المئة في الشطر الجنوبي وحده.
لكن تبقى إعادة توحيد الجزيرة “أم القضايا” ومصدر القلق المتجدد. فضعف أردوغان، بسبب التراجع الاقتصادي وسوء إدارة الاستجابة للزلزال، قد يدفعانه الى التصعيد، بدلاً من تقديم “تنازلات” لنيقوسيا، ومن خلفها اليونان، على بعد 3 أشهر من الانتخابات. وحتى إذا احتفظ الرئيس التركي بمنصبه بعد 14 أيار (مايو)، فلا مبرر لتراجعه عن مشروع تقسيم قبرص خصوصاً إذا سمح له “تعنت” الرئيس الجديد وأنصاره بالتهرب من الحل الفيدرالي.