بقلم: يوسف بدر – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- يبدو أن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في 31 آب (أغسطس) 2021 كان جزءاً من استراتيجية الولايات المتحدة “نحو آسيا”؛ فلم يكن هذا الانسحاب إيذاناً بنهاية الفوضى في أفغانستان، بل ببدايتها؛ فحركة “طالبان” التي عادت إلى السلطة على إثر هذا الانسحاب، باتت عاجزة اليوم عن إيجاد طرح سياسي يضمن للبلاد وحدتها واستقرارها.
ومن ثمَّ، بدأت الآن تحصد ثمار الفوضى التي خلفتها القوات الأمريكية وتعاني تدهوراً سريعاً في الأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى درجة فقدان المقبولية في الداخل والخارج. ويبدو أن الولايات المتحدة بتجميدها الأصول الأفغانية، بما قد وضع حكومة “طالبان” في حالة عجز؛ أرادت بذلك أن تخلق قنبلة أمنية جيوسياسية في منطقة قلب آسيا الوسطى التي انفجار الأوضاع فيها يمكن أن يهدد باقي القوى الآسيوية المنافسة لها.
ويدل عدم مشاركة باكستان في الاجتماع الخامس للحوار الأمني الإقليمي الذي استضافته العاصمة الروسية، موسكو، الأربعاء 8 شباط (فبراير)، بحضور أمناء ومستشاري الأمن القومي للدول المجاورة لأفغانستان (روسيا والهند وإيران وكازاخستان وقيرغيزستان والصين وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان)؛ إلى أن الولايات المتحدة جادة في الحفاظ على الوضع المتدهور في أفغانستان. فقد أعلنت إسلام آباد أنها تخلت عن المشاورات المتعددة الأطراف التي استضافتها روسيا بشأن أفغانستان؛ معللة خارجيتها هذا التخلف، بأن باكستان قررت المساهمة في منتديات حوارية أخرى يمكن أن تساهم مساهمةً بنّاءة في تحقيق السلام في أفغانستان.
ويرجع تفسير الموقف الباكستاني إلى الدور الأمريكي؛ إذ لا تريد إسلام آباد تكرار ما حدث مع عهد رئيس الوزراء السابق، عمران خان، بالاقتراب أكثر من روسيا. ولا تريد حكومة شهباز شريف الحالية إثارة غضب واشنطن في الوقت الذي تعاني فيه أزمات اقتصادية حادة، وتسعى إلى الحصول على مساعدة واشنطن، بخاصة من خلال نفوذها في صندوق النقد الدولي، فضلاً عن رغبة إسلام آباد في التعبير عن غضبها من التقارب الكبير بين موسكو ونيودلهي، في ظل العقوبات الغربية على روسيا التي توجه صادراتها من الطاقة نحو الهند، بما فرض توسيع العلاقات بين البلدين. وهو ما يزعج باكستان الجارة المناوئة للهند.
قنبلة أمنيّة جيوسياسيّة
أفصح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صراحة عن مخاوفه من تحول أفغانستان إلى قنبلة أمنية جيوسياسية في منطقة جنوب آسيا، خلال كلمته في اجتماع الحوار الأمني، فقد قال: إن “هناك صراعات ليست بعيدة من روسيا، بما في ذلك على المسار الأوكراني، لكنها لا تقلل من أهمية الوضع الأفغاني؛ لأن روسيا لا تريد المزيد من نقاط التوتر بشأن حدودها الجنوبية، والمنظمات الإرهابية الدولية تكثف أنشطتها في أفغانستان”.
وتكشف تصريحات بوتين عن مخاوفه من أن تذهب القوى الغربية بتخفيف الضغط على الجبهة الأوكرانية بإشعال بؤرة توتر جديدة في منطقة آسيا، تدفع روسيا إلى الانشغال بحماية حدودها الجنوبية ومواجهة التهديدات الإرهابية التي تزعزع استقرار الدول الحليفة لها، لا سيما أن تنظيم “داعش- خراسان” بدأ بشن هجمات تستهدف السلطة والاستقرار في أفغانستان، وامتدت هجماته إلى مناطق أخرى خارج أفغانستان. وقد نفذ هذا التنظيم تفجيراً انتحارياً بالقرب من السفارة الروسية في العاصمة الأفغانية، كابول، في أيلول (سبتمبر) 2022، ما أسفر عن مقتل اثنين من موظفي البعثة الدبلوماسية والعديد من طالبي التأشيرات الأفغان.
وتدفع روسيا حلفاءها الإقليميين إلى الاستثمار في أفغانستان من أجل مساندة الاقتصاد الأفغاني؛ لأنها تدرك أن سلطة “طالبان” لا يمكنها الاستمرار في كابول ما دامت لا تملك الورقة الاقتصادية؛ وهو ما يعزز من فرص انصياعها للأوامر الأميركية وتحالفها مع الجماعات المتطرفة العابرة للحدود. وهو السيناريو الذي تقلق روسيا من تحققه، بخاصة أن رؤيتها نحو حركة “طالبان” منذ عودتها، هي الاحتواء وقبول التعامل معها ما دامت تعمل داخل حدود أفغانستان. لكن هناك حالياً مؤشرات عدة إلى محاولة إفشال هذا الطرح؛ منها ظهور الجماعات المتطرفة العابرة للحدود داخل أفغانستان. وكذلك استمرار تجارة المخدرات وتضخمها بما يدعم “طالبان” والجماعات المتطرفة اقتصادياً، وانتقال هذا الخطر إلى داخل روسيا، بما يهدد أمنها القومي؛ حيث ارتفع مستوى المدمنين فيها، جراء المخدرات العابرة من أفغانستان.
وأمنياً، فإن روسيا ليست قلقة من قدرتها على التصدي للتهديدات العابرة من أفغانستان؛ إذ لديها تعاون عسكري وقواعد عسكرية في الدول المحيطة بأفغانستان، ويمكنها أن تتصدى لهذه التهديدات في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي استخدمتها روسيا لضمان استقرار دول آسيا الوسطى، مثلما فعلت أخيراً في كازاخستان.
لكن ما يشغل روسيا هو استمرار الفوضي الجيوسياسية التي أبدعتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالحفاظ على الوضع في أفغانستان بنشر الفوضى عن طريق الجماعات المتطرفة التي يمكن أن تتسرب أفكارها وتأثيرها الأمني إلى داخل جمهوريات آسيا الوسطى، بما يطال حدود روسيا الجنوبية. وبذلك تظل أفغانستان مشكلة أمنية أكثر منها سياسة أو اقتصادية، مثلما الوضع في منطقة الشمال السوري.
كذلك، فإن أفغانستان، بالانسحاب الأمريكي، تعززت مكانتها في المعادلة الأمنية؛ بسبب موقعها الذي يقع على حدود جنوب آسيا مع وسطها، وعلى حدود الصين وتفاعلاتها مع جنوب آسيا ووسطها، ونقطة تجاذب بين باكستان والهند، ونقطة اتصال بين جنوب آسيا ووسطها وروسيا.
وإن كانت أفغانستان تبدو بعيدة التأثير بسبب عدم امتلاكها حكومة قوية ذات تأثير خارجي؛ لكن واقعياً فإن لها تأثيراً أمنياً واضحاً امتد إلى مناطق غير متاخمة لها مثل الشرق الأوسط، إبان فترة نشاط تنظيم “القاعدة”. ولذلك، مع استمرار هجرة النخب من داخل أفغانستان وارتفاع مستوى الفقر؛ فإن هذا البلد مهيأ بالفعل للتحول إلى قنبلة أمنية جيوسياسية تضمن للقوى الغربية استمرار الفوضى على حدود منافسيها في آسيا.
نار “طالبان” على حدود باكستان
إن ما يحدث على حدود باكستان ينذر بجدية خطر أفغانستان الأمني-الجيوسياسي؛ فإن إسلام آباد منذ عودة حركة “طالبان” وانحسار دور الهند من داخل أفغانستان، وهي تتعامل مع هذا البلد باعتباره إقليماً باكستانياً وليس دولة مستقلة. فالاستخبارات الباكستانية تتصرف على أنها التي أبدعت حركة “طالبان” منذ البداية، وأنها التي ساعدتها على هزيمة القوات الأمريكية والغربية.
لكن يبدو أن قواعد اللعبة قد تبدلت الآن؛ إذ بعدما كانت الهجمات تنطلق من حدود باكستان إلى داخل أفغانستان ضد القوات الأجنبية؛ بدأت الهجمات ترتد إلى داخل باكستان من خلال الدعم الذي تقدمه “طالبان”-أفغانستان لنظيرتها “طالبان”-باكستان رغم التفاوت بينهما.
ويدل إلغاء اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة “طالبان”-باكستان والحكومة الباكستانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، وأيضاً الاشتباكات الحدودية بين الجيش الباكستاني وحركة “طالبان” الأفغانية، والهجوم على السفارة الباكستانية في أفغانستان في كانون الأول (ديسمبر) 2022، والتفجير الانتحاري الضخم في مسجد مزدحم يرتاده رجال الشرطة في مدينة بيشاور الباكستانية، في كانون الثاني (يناير) 2023، إلى أن المعادلة تغيرت، وقد ترضح الحكومة الباكستانية لمطالب حركة “طالبان”-أفغانستان؛ ويتم توظيف هذه العلاقة الاستخبارية من جديد في إطار استراتيجية الفوضى الأمريكية التي تستثمر في ما تعلمته حركة “طالبان” من تنظيم “القاعدة”، وهو تأكيد وجودها دائماً من خلال التورط في العمليات الإرهابية.
بل إن حركة “طالبان”-باكستان تدخل ضمن هذه الاستراتيجية؛ فهي تقع على الحدود مع أفغانستان، وتسعى إلى تطبيق حكومة إسلامية في مناطقها داخل باكستان، بعدما عادت “طالبان”-أفغانستان إلى السلطة. ولا ننسى أن الجماعات الجهادية والمتطرفة داخل باكستان تفوق الجماعات الموجودة داخل أفغانستان، وأن نجاح “طالبان”-باكستان على الفوز بشيء أمام الحكومة الباكستانية يمكن أن ينسف الطموحات الاقتصادية بين هذا البلد والصين، البلد المنافس للولايات المتحدة.
المحصّلة
تكشف النقاشات التي دارت في الاجتماع الخامس للحوار الإقليمي حول أفغانستان في موسكو، وغياب باكستان عن هذا الاجتماع؛ أن المسألة الأفغانية لم تعد تقف عند تناول شرعية حركة “طالبان” في الحكم ودعوتها إلى إقامة حكومة سياسية شمولية وتعددية، أو مناقشة الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية داخل أفغانستان؛ بل بات الأمر يركز على المسألة الأمنية؛ بعدما أثبتت الشواهد أن الولايات المتحدة تستغل الوضع في أفغانستان للاستمرار في تعزيز استراتيجيتها للفوضى في آسيا.
ويظهر هذا القلق من جانب روسيا في عدم اقتناعها بالإجابة التي قدمتها حركة “طالبان” في تموز (يوليو) 2022، حينما أبلغتها موسكو بوجود أكثر من 6000 مقاتل من “داعش-خراسان” في أفغانستان. ويبدو أن “طالبان” عبرت عن رضاها من هذا الوجود، بإنكارها له، وإعلانها أن العدد أقل وتقتصر أنشطته على جيوب صغيرة شرق أفغانستان. بينما روسيا كانت تقصد ميلاد جماعة جهادية جديدة من رحم “طالبان” تحت لواء “داعش”.
عززت عودة حركة “طالبان” إلى السلطة من اتخاذ الجماعات الجهادية والمتطرفة المحيطة بأفغانستان من هذا البلد قاعدة لعملياتها؛ إذ هناك عمليات جهادية ضد الحكومات العلمانية في آسيا الوسطى، وأخرى ضد السلطات الصينية في تركستان الشرقية، وكذلك في كشمير وفي باكستان. ولذلك تحولت أفغانستان إلى قاعدة لجماعات متطرفة مثل: الحركة الإسلامية في أوزبكستان، والحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، وجيش طيبة وجيش محمد، وحركة “طالبان”-باكستان. فضلاً عن تحولها إلى مخزن لجماعات عابرة للحدود مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” فرع خراسان.
إن ما يحدث من تبدل لقواعد اللعبة بين باكستان وحركتي “طالبان”-أفغانستان وباكستان؛ يدل إلى أنه لا يمكن السيطرة على الجماعات المتطرفة دائماً، وأن هذه الجماعات التي أبدعتها باكستان لحماية بُعدها القومي الديني داخل أفغانستان وكشمير، بدأت الآن في توجيه سهامها إلى داخل باكستان. وإن حجم جماعة مثل “طالبان”-باكستان يمكن أن يخلق معضلة أمنية داخل باكستان، بما يهدم طموحاتها الاقتصادية؛ إذا فكرت إسلام آباد في أن تتمرد على السياسة الأمريكية تجاه المنطقة.