بقلم: حسام ميرو – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- في المفهوم الاستراتيجي لتصنيف الدول العظمى، تمتلك الجيوش مكانة خاصة ومميزة؛ إذ لا ينطبق وصف الدولة العظمى على دولة لا تمتلك جيشاً قوياً وحديثاً، وبشكل أدق، فإن جيوش الدول العظمى، ليست مهمتها الدفاع فقط؛ بل شنّ هجوم ضد الأعداء، والتحرك خارج الجغرافيا الوطنية، وبهذا المعنى، فإن بعض الدول الفاعلة عالمياً، من خلال التكنولوجيا والمال والمؤسسات الدولية والأبحاث المتطوّرة، لا تعد دولاً عظمى بهذا المعنى، ومن بينها اليابان، التي حضرت بقوة في العقود الماضية في معظم المجالات الدولية، لكنها حافظت على عقيدة عسكرية مقيدة، منذ خسارتها في الحرب العالمية الثانية، حتى أنها أطلقت على قواتها العسكرية اسم “قوات الدفاع الذاتي”، وهي تسمية حددت من خلالها اليابان عقيدتها القتالية، بوصفها دفاعاً عن النفس.
كل المعطيات العالمية التي حددت للعالم نظامه الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، تبددت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، لكن انهيار هذا النظام ثنائي القطب، لم يكن دافعاً لليابان بأن تعيد بناء عقيدتها القتالية؛ بل ربما على العكس من ذلك تماماً، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي، بما كان يشكّله من تهديد لأمريكا وحلفائها، ومنهم اليابان، أعطى طوكيو انطباعاً بأن أزمنة الحروب، والتهديدات العسكرية، أصبحت شيئاً من الماضي، في ضوء علاقات مميزة بين طوكيو وواشنطن، وتحوّلات كبرى في العالم، أوحت بأن الحروب في أوروبا والدول التي انخرطت في الحرب العالمية الثانية، هي خط أحمر في النظام الدولي، الذي أصبحت أمريكا القوة الأبرز فيه بعد زوال الند العسكري السوفييتي.
عقيدة الدفاع الذاتي اليابانية، شهدت نهايتها في أواخر العام الماضي، مع إعلان طوكيو في 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، تبني عقيدة قتالية جديدة، تسمح لها “بشن هجوم مضاد ضد أي خصم يستهدف أراضيها”، وهو ما ترافق مع زيادة الميزانية المخصصة للإنفاق العسكري، ما يسمح لها بتطوير الجيش، بما يتناسب مع الأخطار والتهديدات المحتملة، في بيئتها الجيوسياسية، وهذه الخطوة التي لقيت على الدوام معارضة سياسية من قبل معظم الأحزاب، وهي معارضة مستندة إلى الدستور الياباني المعمول به منذ عام 1945، أصبحت الآن ضرورية من قبل الأحزاب نفسها.
التحوّل الياباني، كان قد سبقه تحوّل من قبل الجارة الأكثر نفوذاً في شرق آسيا، فالصين منذ سنوات، راحت تنخرط أكثر فأكثر في تطوير بنيتها العسكرية، وزيادة إنفاقها العسكري، وتحديث القوات الجوية والبحرية والبرية، وقامت بمناورات عسكرية في المياه الإقليمية اليابانية، وتوتر ملف الجزر المتنازع عليها بين البلدين أكثر من مرة، مع رغبة صينية واضحة في امتلاك جيش قادر على حماية مكتسباتها الاقتصادية، بعد أن أصبحت في المرتبة الثانية اقتصادياً، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأخيرة، وضعت الصين منذ عقد على الأقل، بوصفها التهديد الاستراتيجي الأول لمكانتها العالمية.
إضافة إلى التهديد العسكري الذي يشكّله التطور العسكري الصيني لليابان، هناك طموحات عسكرية مستمرة ومتصاعدة لكوريا الشمالية، التي لم تعد تكتفي بقدراتها النووية؛ بل دخلت بقوة على خط تطوير الصواريخ، وقد أجرت بيونغ يانغ 86 اختباراً للصواريخ في العام الماضي، وهي صواريخ متطورة متوسطة وبعيدة المدى، تقف وراءها قيادة سياسية يصعب التكهن بخياراتها، لا سيما العسكرية منها، ما يجعل من التطوّر الكوري الشمالي في مجال الصواريخ تهديداً جدياً لليابان، التي قامت على مدار السنوات الماضية، باتخاذ تدابير دفاعية، وتحذيرية لمواطنيها، جراء انفجار بعض الصواريخ في سماء بلادهم.
لكن الحدث المباشر، الذي دفع اليابان لإعلان مثل هذه الخطوة، والقبول العام لها حزبياً وشعبياً، تمثّل في الحرب الروسية الأوكرانية، التي أربكت العلاقات الدولية في أوروبا والعالم، وفسحت في المجال لبروز سيناريو اشتعال الحرب في شرق آسيا، واحتمال شن الصين لحرب، من أجل استعادة تايوان، وما قد ينتج عن مثل حرب كهذه من تداعيات، خصوصاً أن الكثير من التصريحات العسكرية، وآخرها تصريح الجنرال الأمريكي مايكل مينيهان، تشير إلى أن هذا الاحتمال، يتحوّل في المناخ الدولي الحالي، إلى سيناريو مرجّح بقوة.
زيادة الإنفاق العسكري الياباني، تستهدف في قسم كبير منها إبرام صفقات طائرات وصواريخ مع واشنطن، وإجراء مناورات مشتركة، وهو ما قد مضت فيه كوريا الجنوبية شوطاً كبيراً، ما يجعل من الاستنفار العسكري سيد الموقف، بين الصين وكوريا الشمالية من جهة، واليابان وكوريا الجنوبية من جهة ثانية، بدعم وتنسيق مع واشنطن، استعداداً لحرب مقبلة، تبدو أولوية لواشنطن لاستنزاف الصين.