بقلم: علي محمد الخوري- صحيفة الاتحاد
الشرق اليوم- تمثل الصين التي انتقلت من سوق ناشئة إلى قوة عظمى، اليوم دعامة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية عالمية لا يمكن تجاهلها، ولا سيَّما مع بدء تلاشي معالم جغرافيا القطب الأحادي منذ تسعينيات القرن الماضي. وبحسب تقديرات عالمية، فإن بكين سوف تواصِل نموها، وتزيد حصتها في الناتج الإجمالي العالمي -ولو ببطء وتدرُّج- بالتوازي مع توقعات انخفاض حصتَي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي فيه، وذلك في وقت تزيد فيه التكهنات بشأن حدوث ركود عالمي جديد.
وعلى عكس ما خططت له القوى الغربية، فقد استطاعت الصين إعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية في آسيا وأفريقيا، وصولاً إلى أمريكا اللاتينية، عن طريق شراكاتها التجارية، وتطوير علاقاتها بمختلف دول العالم.
وتشير التحركات الدبلوماسية الصينية إلى زيادة اهتمام بكين بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتوطيد علاقاتها بدول المنطقة، وحرصها على التقرب من المربَّع الخليجي والعربي، بهدف توسيع دائرة نفوذها إلى أسواق جديدة تستطيع استيعاب قدراتها الإنتاجية الجبَّارة من جهة، ومن جهة أخرى تأمين حاجاتها المتزايدة من الطاقة التي أصبحت تهددها التوترات الدولية القائمة.
اهتمام الصين المتزايد بمنطقة الشرق الأوسط
إن التراجع اللافت للنظر في اهتمامات السياسة الأمريكية بأمن منطقة الشرق الأوسط، وتقليل المخاطر التي تواجهها الدول العربية، كان كافياً لتشكيل دافع رئيسي إلى التغيير الاستراتيجي الذي نهجَتْه الصين، والباب الذي اختارته للدخول منه، ولو بحذَر.
وتتبنَّى الصين سياسة القوة الناعمة التي ترتكز على شراكات اقتصادية استراتيجية بعيدة عن السياسة، استطاعت بها تعزيز نفوذها بصفتها قوة اقتصادية، وبالتبعية دعم ثقلها السياسي ووجودها العسكري في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ولتكوين فهْم أدقّ وأشمل لاهتمام الصين بدول الخليج لا بدَّ من ربط رؤية بكين للمنطقة العربية بمنظور تاريخي، إذ يعود اهتمام الصين بالمنطقة أساساً إلى مئات السنين، أي إلى الحضارة الصينية القديمة التي تُظهِر قوة الصين آنذاك من جهة، ومن جهة أخرى قوة العرب الاقتصادية والتجارية، والموقع الجغرافي المميز للدول العربية الذي يتحكَّم في ممرات ملاحية دولية تُعد شريان الحياة الاقتصادية في التجارة العالمية، مثل قناة السويس، ومضيق هرمز، ومضيق باب المندب، ومضيق جبل طارق، مروراً بمنطقة جبل علي الاقتصادية، وخليج عدن، والخليج العربي، وخليج عُمان.
ولو نظرنا إلى الخريطة الاقتصادية العالمية لبكين، لوجدنا أن مبادرة “طريق الحرير الجديد” التي تشارك فيها 146 دولة، وتهدف إلى تسريع وصول المنتجات الصينية إلى الأسواق العالمية -شمالاً وجنوباً- تعبُر وتمتدُّ على طول حدود كثير من البلدان العربية.
كما تكمُن أهمية المنطقة العربية في أمن الملاحة والنقل البحري، ولا سيَّما أن الشحن البحري الدولي يمثل 90 في المئة من قنوات الصادرات الصينية، فضلاً عن أن بكين تستورد أكثر من نصف وارداتها النفطية من دول المنطقة، في حين يمر ربع وارداتها من الغاز الطبيعي عبر مضيق هرمز في الخليج العربي.
ووفق إحصائيات دولية منشورة، فإن حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية ارتفع من نحو 10 مليارات دولار في عام 1990 إلى أكثر من 330 مليار دولار في عام 2021، وتُقدَّر الاستثمارات الصينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكثر من 250 مليار دولار في المدَّة بين عامَي 2005 و2022.
ومن هنا تتأتَّى الأهمية الاستراتيجية المتبادلة بين كِلا الجانبين، العربي والصيني، وتتزايد -بمرور الوقت- حاجة كل طرف إلى الآخر بوتيرة متصاعدة وواضحة.
سعي الدول العربية إلى الاستفادة من الثورة الرقمية
تحاول الدول العربية -والخليجية تحديداً- الاستفادة من علاقاتها مع الصين بصفتها حليفاً استراتيجيّاً جديداً إلى جانب حلفائها الغربيين، وكذلك لجذب وتشجيع الاستثمارات المتبادلة في الصناعات الاستخراجية، والطاقة المتجددة، والتصنيع، والخدمات اللوجستية، ولا سيَّما تطوير البنى التحتية التكنولوجية للدول العربية في ظل تفوق بكين التكنولوجي الملحوظ في دعم منظوماتها الاقتصادية والاجتماعية. أضِفْ إلى ذلك، أن دبلوماسية الصين القائمة على احترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أصبحت تدفع الدول الخليجية والعربية إلى توطيد علاقاتها بها، وتأسيس شراكات متعددة الأبعاد معها تسهم إجمالاً في تحقيق رؤاها الوطنية الطموحة، المتمثلة في تنمية اقتصاداتها، ومواكبة التقدم العلمي.
ولعلَّ النهج المتفرد الذي تتبعه دولة الإمارات العربية المتحدة في بناء مقومات اقتصادها المرتكزة على المعرفة والثورة الرقمية، أصبح نموذجاً للصورة المُثلى التي تريد الدول العربية أن تصل إليها، إذ ترى هذه الدول أن التعاون مع بكين -عن طريق الشراكات المدروسة والهادفة- سيسهم في تحقيق قفزات تنموية في تطوير قطاعاتها المختلفة، واختصار سنوات طويلة من العمل.
الدول العربية والبحث عن توازن علاقاتها بالعالم
استطاعت الدول العربية عامَّة، ودول الخليج خاصةً، في العقدين الماضيين إحداث توازن في علاقاتها بدول العالم، والمحافظة على الحضور المؤثر في الساحة العالمية، سياسيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وعسكريّاً، واتسمت علاقاتها الدولية بالهدوء في مواقفها وتعاملاتها مع الملفات الجدلية والصراعات، وعكفت على تطوير علاقاتها ومنظوماتها الاقتصادية في جميع الأسواق العالمية.
وعلى الرغم من التحفُّظ الأمريكي، فإن علاقات الدول الخليجية والعربية مع الصين لا تزال قوية، وتتبع منهجاً واضحاً في الحفاظ على توازن علاقاتها الاستراتيجية الدولية، وعدم الدخول في حالات عداء مع القوى الدولية والعالمية.
وتؤكد قراءة دقيقة لمجريات الأحداث أن بكين ستُضاعِف اهتمامها بالدول الخليجية والعربية في العقود المقبلة، وأن التجارة والطاقة ستكونان عاملين مؤثرين في تحديد اتجاهات سياسات الصين التجارية مع دول المنطقة. ويُتوقَّع أن يكون لبكين دور وحضور أكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيَّما مع توسع أسواقها واستثماراتها في مبادرة “الحزام والطريق”.
وما تحتاج إليه الدول العربية هو أن تستفيد من هذا الاهتمام في تعزيز مراكز قواها، وتحقيق مكاسب مشتركة، ومواجهة التحديات التنموية الوطنية، ففي ظل المتغيرات الجيوسياسية يجب على الدول العربية -ومنها الخليجية- رسم رؤية واضحة لموقعها في خريطة السياسة الدولية، وتعزيز مرتكزاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية عن طريق شراكات تعتمد على تحقيق مصالحها الوطنية من جهة، وأمن المنطقة كلها من جهة أخرى.
ومع اهتمام الأجندات الوطنية لدول الخليج بالتحول الرقمي، فإن العلاقات الدولية -وخاصة مع الصين- يجب أن تُؤسس على تحفيز النمو الاقتصادي، والابتكار، والإنتاج المحلي، وتعزيز قطاع التوظيف، ومن ثَم فإن هذه الشراكات يمكن أن تُبنى على أسس راسخة لدعم المنظومات الخليجية والعربية التي تخدم تنويع اقتصاداتها، وتسهم في زيادة ناتجها المحلي الإجمالي، والقيمة المعرفية المضافة لصناعاتها التحويلية، ما قد يساعد الدول الخليجية والعربية على تعزيز قدراتها التنافسية الصناعية، والتحوُّل من اقتصادات مستهلكة إلى اقتصادات إنتاج مبرمج ومستدام.