بقلم: عقيل عباس – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- بعكس الأسابيع الأولى من الحرب الأوكرانية – الروسية حين كان الاهتمام العربي بها عالياً، وكذلك السعي إلى ربطها بالتحولات المقبلة المفترضة في المنطقة، تراجع هذا الاهتمام كثيراً بمرور الزمن، خصوصاً عندما لم تمنح هذه الحرب الصدقية المتمناة لمثل هذه التحولات.
في معظم وسائل الإعلام العربية أصبحت هذه الحرب تُغطى كأي صراع أجنبي بعيد، لا تأثير مباشراً وحقيقياً له على المنطقة وتحالفاتها وصراعاتها ومشكلاتها، باستثناء الانعكاسات العامة السلبية التي ضربت العالم كله جراء هذه الحرب. شملت هذه الانعكاسات ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية وانقطاع تصدير الحبوب الأوكرانية، وعلى نحو أقل، الروسية إلى دول كثيرة في العالم بينها شرق أوسطية. على نحو تدريجي ومتواصل وبسبب جهود مختلفة، دولية وإقليمية وثنائية، خُفف تأثير هذه الانعكاسات.
أحد أهم التحولات المفترضة التي رُوّج لها كثيراً في أوساط إعلامية وسياسية وأيديولوجية في المنطقة هو بروز المحور الروسي – الصيني كبديل من الولايات المتحدة والغرب عموماً. كان هذا الافتراض جزءاً من فهم أوسع ومغلوط، بأن هذه الحرب ستشهد، كإحدى نتائجها، أفول الغرب بزعامة الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى ومهيمنة في النظام العالمي لمصلحة تحالف روسي – صيني صاعد ومتوثب وأقرب إلى العالم العربي وقضاياه. وإذا لم تتحقق هذه النتيجة المرتجاة بإزاحة هذا التحالف الجديد للزعامة الغربية للعالم، فإنه، على الأقل، سيستطيع أن ينافس الغرب في هذه الزعامة باتجاه عالم جديد نسبياً فيه قطبان كبيران ومتنافسان، وبالتالي يحصل العالم العربي على المزيد من المرونة والخيارات في سياق هذا العالم الجديد.
استندت مثل هذه القراءات إلى فهمين مغلوطين، أحدهما أيديولوجي الجذر والغاية والثاني براغماتي، لكنه يعاني فقراً في المعلومات وضعفاً في التحليل. أيديولوجياً، كان محور المقاومة الذي تقوده إيران وتندرج فيه منظمات وقوى سياسية في المنطقة ويعتبر أمريكا العدو الأول والدائم هو الطرف الأكثر استثماراً منذ البداية في انتصار روسي والترويج له في إطار فهم النزاع بوصفه صراعاً عالمياً بين روسيا وأمريكا سيقود في آخر المطاف إلى إضعاف الأخيرة في العالم عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً.
في إطار هذا الاستثمار الأيديولوجي، وجد محور المقاومة نفسه واقعاً في تناقض جوهري، أخلاقي وسياسي صارخ، عبر وقوفه الواضح مع روسيا، ما يعني دعمه اجتياح دولة كبرى أخرى صغيرة مجاورة وضعيفة، واحتلال جزء من أرضها. تقوم الفكرة الأساسية لمحور المقاومة على دعم الضعفاء والمحرومين في أي مكان في العالم. ينص الدستور الإيراني مثلاً في المادة 154 في باب السياسة الخارجية على التالي: “تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله مثلها الأعلى، وتعتبر الاستقلال والحرية وسيادة القانون والحق حقاً لجميع شعوب العالم. وعليه، فإنها تدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في جميع بقاع العالم، ولكنها تمتنع امتناعاً تاماً عن جميع أشكال التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”.
سكتت إيران، ومعها محور المقاومة، عن احتلال روسيا أراضي أوكرانية وضمها إلى روسيا رسمياً، في ضرب صريح لمفهوم الاستقلال الذي يقول الدستور الإيراني إن الجمهورية الإسلامية ستدافع عنه خارج حدودها. ذهبت إيران إلى أبعد من السكوت على احتلال أراض أوكرانية، بل دعمت “المحتل” من خلال تزويدها روسيا بالطائرات المسيّرة لتستخدمها الأخيرة في ضرب البنى التحتية الأوكرانية كمحطات الكهرباء والماء، ما سبّب الكثير من العناء للأوكرانيين العاديين. من الواضح أنه في المثال الأوكراني، لم تدعم إيران “الطرف المستضعف” بل دعمت الطرف القوي الذي تجاوز على استقلال بلد آخر! لذلك تختفي عموماً أوكرانيا ووقائعها الإنسانية وعناءاتها في خطاب محور المقاومة لتحل محلها الولايات المتحدة، في تبسيط مضلل للنزاع على أنه يتعلق بالهيمنة على العالم ويدور بين أمريكا وروسيا.
أما الفهم الثاني الذي حاول أن يقدم شرحاً براغماتياً لتبرير الاصطفاف مع روسيا على أساس أن الوقائع تدعم انتصاراً روسياً ومن الصحيح التحالف مع المنتصر. قاد هذا الفهم بعض الدول العربية إلى الشروع بفتح مسارات خاصة مع الصين وروسيا، والسعي إلى تمتين العلاقات معهما بوصفهما خيارات المستقبل. لم يستوعب أصحاب هذا الفهم جيداً موازين القوى بين الطرفين المتحاربين والداعمين المختلفين لهما ليتوصلوا إلى استنتاجات خاطئة. عملياً، وضعت الحرب روسيا بمواجهة الغرب، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. كان هذا هو الخطأ الروسي الفادح. تصورت القيادة الروسية أن الغرب سيتعامل مع غزوها لأوكرانيا على نحو شبيه بتعامله مع ضم شبه جزيرة القرم ومناطق شرق أوكرانيا في لوغانسك ودونيتسك في عام 2014. حينها، ترك الغرب أوكرانيا وحدها تواجه القوات الروسية التي حققت انتصاراً سهلاً. في 2022، كان السلوك الغربي مختلفاً، إذ وقف الغرب بقوة خلف أوكرانيا، خصوصاً بعدما ظهر أداء القوات الأوكرانية مختلفاً هذه المرة. قاتلت هذه القوات بتماسك خلف رئيس شجاع رفض العرض الأمريكي بمغادرة العاصمة كييف المهددة باجتياح روسي سريع، واستطاع بأسلوب قيادته استنفار الوطنية الأوكرانية وصناعة مشهد صمود لدولة صغيرة أمام دولة كبيرة تفوقها عسكرياً واقتصادياً. عبر أشهر الحرب، تصاعد تدريجياً الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، خصوصاً بعد ظهور علامات ضعف التخطيط الروسي والفشل في تحقيق الأهداف العسكرية الرئيسية خلال أيام قليلة كما كان متوقعاً.
في آخر المطاف، تحولت المواجهة بين الطرفين، الأوكراني والروسي، إلى حرب استنزاف طويلة ومفتوحة تبدو فيها الحظوظ الأوكرانية أعلى بسبب الدعم الغربي، خصوصاً في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا التي يُعتقد أن أثرها تدريجياً سيظهر ويتراكم بمرور الزمن. فشل هذا الفهم الثاني في استيعاب الطبيعة الاستراتيجية للمواجهة الأوكرانية – الروسية بدينامياتها الداخلية وتحولاتها الخارجية، من ضمنها الاستعداد الأوروبي، الرسمي والشعبي، لتحمل العبء الاقتصادي لأسعار عالية للطاقة على المدى البعيد. سيمثل الشتاء الحالي اختباراً حقيقياً لهذا التحمل في ظل ازدياد الحاجة للطاقة على مدى الأشهر المقبلة.
ثمة اعتقاد واسع في العالم العربي أن ما يحدث في أوكرانيا اليوم هو إحدى حروب الوكالة، بمعنى استخدام الغرب أوكرانيا لخوض حربه المفترضة ضد روسيا نيابةً عنه.
تُروج روسيا وحلفاؤها كثيراً لمثل هذا التفسير للحرب عبر منح صراعها مع أوكرانيا طابعاً دولياً لأغراض التحشيد الداخلي الروسي، وكسب خصوم الغرب إلى جانبها، والتغطية على حقيقة استهدافها جاراً صغيراً وأضعف منها. في الحقيقة، الحرب الأوكرانية – الروسية أسبابها محلية بالأساس، مرتبطة بخلافات بين البلدين منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991 واستقلال أوكرانيا، ومحاولة روسيا البوتينية تالياً إعادة تشكيل ما يمكنها من شرق أوروبا ووسطها على أساس المركزية السياسية والثقافية والاقتصادية لروسيا التاريخية التي يحاول الرئيس فلاديمير بوتين إحياءها. تصطدم هذه الرؤية القومية الروسية ذات الطابع التوسعي مع الرؤية الليبرالية الغربية التي تركز على وقائع اليوم الجغرافية والسياسية في إطار العولمة التي تعيد صوغ الهوية وتستثمر في المستقبل لا الماضي وتفسيراته ومحاولة إحيائه.
من هنا، جاء الاستثمار الغربي المتزايد في دعم أوكرانيا لمنع تحويل الرؤية الروسية إلى واقع جيوبولتيكي. الذي يجمع أوكرانيا مع الغرب هو التقاء مصالح الطرفين بإزاء هذه الرؤية الروسية التي يمثلها الرئيس بوتين ويحاول تطبيقها، وليس التسخير المتعمد للغرب لأوكرانيا ضد روسيا كما يُشاع واسعاً في العالم العربي.