بقلم: محمد خليفة – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– تتشكل في العقد الأخير منعطفات تاريخية حاسمة في تاريخ بريطانيا الحديث، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية قد تغير مستقبل تلك الدولة العريقة تغييراً جذرياً، يحمل تغييراً في السياسة المتنوعة المفعمة بإيديولوجيات شمولية وليبرالية على السواء.
لقد مرت سنوات من المعضلات الفكرية الكبرى في محاولة حثيثة من الحكومات السياسية البريطانية، سواءً أكانت تنتمي لحزب العمال أم حزب المحافظين، مع نظرية الأنساق المعقدة، وهي سلوك فلسفي غاية في التركيبة توظف منطق القلة في توصيف الموجودات الجوهرية من المواد الأساسية للحياة والارتقاء بحياة الشعب البريطاني في سياق دوره المجتمعي. هذه الإيديولوجية نتج عنها هذا الوضع البائس الذي تعيشه بريطانيا في هذه الآونة، أسوأ مرحلة في تاريخها، فقد بلغ حجم دينها العام الماضي تريليوني إسترليني.
وقد تجمعت عوامل متعددة دفعت بالدين البريطاني إلى هذا المستوى القياسي غير المسبوق، أولها: الأزمة الاقتصادية، التي ألحقت أضراراً كبيرة بالاقتصاد البريطاني. وعلى الرغم من التعافي البطيء من تلك الأزمة، إلا أن بريطانيا لم تلبث أن شهدت أزمة أخرى أشد سوءاً؛ ألا وهي أزمة خروجها من الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء “بريكست”، الذي مثّل أغلبية آراء الشعب البريطاني، وربما كان الاستفتاء مصلحة قومية للشعب البريطاني؛ حيث إن الاندماج الأوروبي أفسح المجال لهجرة الكثير من سكان دول أوروبا الشرقية الفقيرة إلى بريطانيا، ما خلق حالة شعبية بريطانية رافضة لهذه الهجرة التي لا يمكن منعها إلا بالابتعاد عن أوروبا، فكان الاستفتاء خياراً لبقاء الأمة نقية العنصر، لكنه كان خياراً سيئاً بالنسبة للاقتصاد، لأنه تسبب في زيادة الضعف الاقتصادي لأن الاقتصاد البريطاني يعتمد على الخدمات وليس على التصنيع، حيث كانت لندن مقراً لصناعة الخدمات المالية في قارة أوروبا، وتتخذ منها بنوك عالمية كثيرة مقرات لها، وكان هذا القطاع يدر ضرائب كبيرة للخزانة البريطانية ويعمل في شتى أنحاء الاتحاد الأوروبي.
وبعد خروج بريطانيا من ذلك الاتحاد تأثرت البنوك وشركات الاستثمار البريطانية بشكل كبير وسلبي من خلال القيود الجديدة على النشاط التجاري غير المحدود، وتراجعت معدلات الضرائب بشكل كبير، كما فقد الكثير من الموظفين وظائفهم بسبب تراجع الأعمال. وجاءت جائحة “كورونا” لتزيد من التراجع الاقتصادي بسبب توقف الأعمال المختلفة من جراء الحظر، وبلغ حجم الاقتراض خلال العام الماضي 150 مليار جنيه، ما تسبب في ارتفاع حجم الدين على خزانة الدولة.
وقد انعكس هذا الواقع الاقتصادي المتردي على الوضع السياسي حيث عجز رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب المحافظين بوريس جونسون عن التصدي للأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق في تاريخ المملكة، ما اضطره إلى الاستقالة، فاختار حزب المحافظين وزيرة الخارجية ليز تراس لشغل منصب رئيس حزب المحافظين ورئيسة وزراء بريطانيا، وكانت تراس معبأة بالآمال في تحقيق الأهداف المتمثلة في القضاء على التضخم وتصحيح الوضع الاقتصادي.
لكن ما إن تولت منصبها وبدأت بتطبيق سياستها الاقتصادية حتى بان فشلها، وأغرقت البلاد في أسابيع من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، فأعلنت استقالتها، واختار الحزب وزير الخزانة ريشي سوناك لتولي رئاسة الوزراء، وفور توليه المنصب استقرت الأسواق، لكن المشكلة التي واجهها كل من جونسون وتراس، وهي مشكلة إيجاد دخول جديدة إلى الخزانة، سوف تستمر في عهد سوناك، الذي سيعمد، على الأرجح، من أجل توفير السيولة، إلى مراجعة الإنفاق في مختلف المجالات بما في ذلك الصحة والتعليم والدفاع والرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية. وستكون القضية الرئيسية هي تحديد التوازن بين الزيادات الضريبية وخفض الإنفاق.
لكن، بلا شك، ستكون هناك معارضة لأية تخفيضات في الإنفاق، وينطبق الأمر نفسه على الزيادات الضريبية. لكن ربما كان هذا هو الخيار الوحيد المتوفر الآن، الأمر الذي قد يجعل حكومة سوناك محكومة بالفشل. ولعل بريطانيا اليوم أمام تحد تاريخي، أو ربما هي أمام واقع جديد، فالمشكلة الاقتصادية التي تعاني منها هي مشكلة بنيوية وليست عرضية، وأية اقتراحات يتم تقديمها لن تؤدي إلى معالجة تلك المشكلة.