بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- ما المستقبل السياسي لرجل الكرملين القوي “فلاديمير بوتين”؟ هل يترشح مجدداً لفترة رئاسية جديدة عندما يحين موعدها العام المقبل؟ إذا لم يترشح فمن يخلفه؟
السؤال كامن في الجو السياسي تحت نيران الحرب الأوكرانية المستعرة. هناك رهان غربي على إطاحته وإذلال روسيا نفسها، لكنه شبه مستحيل.
عندما تتوقف الحرب فإن نتائجها السياسية سوف تحسم إلى حد كبير طبيعة النظام الدولي الجديد وموازين القوى فيه، كما مستقبل كل اللاعبين الكبار على مسارح النيران، وأولهم “بوتين”.
في اللحظة الراهنة فإن هناك وجهين متناقضين للكرملين في إدارة الحرب. الأول، وجه عسكري يلوح بالقوة المفرطة لتحطيم الطرف الآخر ودفعه للتسليم بكل ما تطلبه موسكو لوقف الحرب.. وفيه توجّه للمضي قدماً في سباق التسلح مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو» بالإعلان عن فرقاطة مسلحة بصواريخ فرط صوتية مستعدة للدفاع عن الأراضي الروسية.الثاني، وجه إنساني يدعو لهدنة مؤقتة في عيد الميلاد حتى يتسنى للمواطنين الأوكرانيين الذهاب إلى الكنائس بسلام.. وفيه استعداد لوقف إطلاق النيران إذا ما بدأت مفاوضات حقيقية وفق شروط مقبولة.
التناقض مقصود لحلحلة الوضع المأساوي الذي وصلت إليه الحرب الأوكرانية في إنهاك الأطراف المنخرطة فيها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، دون استعداد في الوقت نفسه للتراجع خطوة واحدة حتى لا يكون تسليماً بأهداف الطرف الآخر.
الشروط المعلنة من الجانبين لوقف الحرب تكاد تجعل من المستحيل التوصل إلى أية تسوية في الأفق المنظور.
لا روسيا بوارد التراجع عن ضم أربع مناطق أوكرانية لها، وإلا فإنها هزيمة سياسية تضع “بوتين” في وضع كارثي أمام شعبه. ولا الولايات المتحدة وحلف “الناتو” سوف يتراجعون عن طلب إزعاج روسيا على حدودها وإلا فإنها الهزيمة الاستراتيجية.
قرب نهاية العام الماضي كانت لافتة التصريحات غير المعتادة في درجة تشددها وحدّة لغتها التي أطلقها الرئيس الروسي السابق “دميتري ميدفيديف” عن مسار الحرب ومستقبلها والاستراتيجية التي ينبغي أن تتبعها موسكو وتنبؤاته لما قد يحدث في المستقبل.
بالنظر إلى موقعه الحالي نائباً لسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، الرجل الثاني بعد “بوتين”، في أعلى وأقوى هيئة سياسية وأمنية روسية، فإن تصريحاته تكتسب أهميتها ورسائلها.
خروجه إلى الضوء مجدداً بدا مثيراً بذاته وتصريحاته المتشددة استدعت تساؤلاً غربياً عن دواعي تحولاته من “تكنوقراطي لطيف ودود مع الغرب إلى صقر حرب مجنون؟” بتعبير مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
لم يكن من الصعب استنتاج أنه يهيئ نفسه لدور في المستقبل بعد أكثر من عقدين ل”بوتين” في السلطة.
إذا وضعنا في الاعتبار أن “بوتين” يفكر حسب تقارير أولية في عدم التمديد لرئاسته بالانتخابات المقبلة عام (2024) واستحداث منصب جديد تعلو كلمته فوق كلمة الرئيس من دون أن يكلف نفسه مهاماً تنفيذية، فإن “ميدفيديف” هو خليفته المنتظر.
نحن أمام إعادة تأهيل جديدة ل”ميدفيديف” ودوره والصورة التي يجب أن يكون عليها، صقراً جديداً في الكرملين يضمن استمرار “البوتينية السياسية” تحت قباب الكرملين.
“ميدفيديف” آخر غير “ميدفيديف” القديم.. مخالب الصقر لا أجنحة الحمام.
في المرة الأولى، التي تولى فيها الرئاسة الروسية بين عامي (2008- 2012) بدا خياراً مأموناً للزعيم الروسي لتجاوز العائق الدستوري الذي لم يكن يسمح في ذلك الوقت برئاسة ثالثة على التوالي.
أدى دوره بانضباط كامل تحت ظل “بوتين”، لكنه أعطى رسالة للغرب أنه أميل إلى علاقات أفضل معه، وأكثر سماحة وليبرالية.
هذه المرة ربما يفكر “بوتين” في إسناد الرئاسة إليه لكن بصورة مختلفة، تحت سقف “البوتينية” لا بشراكة شكلية كما جرى سابقاً.
نحن أمام صقر جديد، يتحدث بأكثر مما هو معتاد من رجال الكرملين الآخرين، يرسم خطوطاً عريضة في إدارة الصراع على وجهيه العسكري والسياسي، ولم يكن ذلك ممكناً دون أن تكون هذه هي أفكار “بوتين” نفسه.
مالت تصريحاته عن صورة العالم (2023) إلى التشاؤم المفرط فنحن “على شفا حرب عالمية ثالثة، أو كارثة نووية”.كان ذلك تلويحاً جديداً بالخيار النووي، بعدما توقفت موسكو عن الإشارة إليه تصريحاً أو تلميحاً.
التلويح به من جديد رسالة إلى الغرب، أن روسيا لن تتراجع تحت أي ظرف وأياً كانت العواقب، إلا إذا حصلت “على ضمانات أمنية تناسبها”، كما قال نصاً.
موسكو المنهكة تحت ضغط الحرب وخسائرها والعقوبات المفروضة عليها تطلب التسوية، لكنها لا تريد أن تتراجع عن مطالبها الأمنية التي دعتها للتدخل.
الأمر نفسه على الجانب الآخر، فالولايات المتحدة غير مستعدة لأي تراجع عن مطالبها الأساسية لكنها تحت ضغط ما يتعرض له تحالفها من إنهاك سياسي واقتصادي وعسكري تريد وضع نهاية للحرب.
“أوكرانيا بلد ضائعة تبحث عن هويتها، وقياداتها أشخاص لا يتمتعون بهوية ذاتية مؤكدة”.. “يجهلون أصولهم التاريخية ومن أي أعراق انحدروا، حائرون أمام احتمالات أن يكونوا أوكرانيين أم أوروبيين أو تتاراً أو مجريين أو يهوداً”.”أوكرانيا سوف تختفي”.
كان ذلك توقعاً أقرب إلى نوع من التعسف في قراءة التاريخ الأوكراني وتعقيدات الموقف الحالي.
أراد ميدفيديف بتصريحاته أن يثير قدراً من الرعب الفكري والسياسي والاستراتيجي، متوقعاً في السياق انهيار الاتحاد الأوروبي ودخول الولايات المتحدة في حرب داخلية.
يتوقف الصعود المحتمل ل”ميدفيديف” على تطورات الحوادث في الحرب الأوكرانية. إذا ما صبت نتائج الحرب بدرجة أو أخرى لصالح “بوتين” فإن صعوده سوف يأخذ مداه تحت سقف “البوتينية السياسية”.