بقلم: حازم سالم الضمور
الشرق اليوم– نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يقدم التحليل تشخيصاً لخطابات قادة “حماس” الأربعة التي تضمنتها احتفالات الحركة بمناسبة مرور 35 عاماً على تأسيسها، ويسعى التحليل إلى الإجابة عن التساؤل الرئيسي: ما الذي حملته كلمات قادة الحركة؟ وأين منها التحديات والتوجهات الرئيسية في مسار الحركة المستقبلي؟
أدناه النص كما ورد في موقع المركز:
احتفلت حركة “حماس” في 14 ديسمبر 2022 بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيسها من خلال تنظيم مهرجان مركزي في قطاع غزة، بالإضافة إلى مهرجان آخر في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية في نفس اليوم، ومهرجان ثالث في مدينة صيدا اللبنانية في 25 من الشهر نفسه.
تضمن المهرجان المركزي في قطاع غزة كلمة لرئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، وتلاها كلمة لمسؤول الحركة في القطاع يحيى السنوار، في حين شهد مهرجان الحركة في جامعة بيرزيت كلمة لصالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي، أما في مهرجان صيدا فقد ألقى الكلمة مسؤول الحركة في الخارج خالد مشعل.
ونظراً لتزامن الحدث مع متغيرات عدة تشهدها الساحة المحلية في فلسطين سواء الضفة الغربية أو قطاع غزة، والذي يأتي في ظل مرحلة جديدة في مشروع “حماس” السياسي، يستند أساساً على التطبيع الإقليمي والتهدئة في القطاع، والمناورة في الضفة الغربية، يبرز التساؤل الرئيسي ما الذي حملته كلمات قادة “حماس” بعد خمسة وثلاثين عاماً على تأسيسها؟ وأين منها التحديات والتوجهات الرئيسية في مسار الحركة المستقبلي؟
الأولويات الاستراتيجية في مضامين الخطابات الأربع
تعتبر كلمة إسماعيل هنية الأكثر أهمية من بين الكلمات الأربعة المشار إليها بحكم موقعه على رأس المكتب السياسي لـ “حماس”، وباعتبارها الكلمة الرسمية للحركة في ذكرى تأسيسها، وهي كلمة تفصيلية أقرب ما تكون للبيان السياسي، أشار فيها إلى ثلاثة متغيرات مهمة تتمثل فيما يلي:
1- تصاعد حالة “المقاومة في الضفة الغربية”.
2- نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جاءت بالحركة الصهيونية الدينية شريكاً في تشكيل الحكومة، وفي ظل حديث يدور عن تشكيل حكومة ربما الأكثر يمينية في مواقفها ومقارباتها تجاه القطاع والضفة الغربية.
3- الأزمة الأوكرانية وما يترتب عليها من نتائج ذات تأثير مباشر على المنطقة، وعلى القضية الفلسطينية وفقاً لهنية، وكذلك على العالم الذي بات على أبواب تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب.
وفي ضوء المتغيرات الثلاثة السابقة أشار هنية إلى سبع أولويات استراتيجية ستعمل عليها “حماس” خلال الفترة المقبلة، وهي:
1- أن القضية الفلسطينية كلٌ لا يتجزأ على مستوى الأرض والشعب والثوابت والحقوق.
2- أن القدس محور الصراع مع إسرائيل.
3- أن المقاومة قدر وليست خيار أو شعار، وهي “ستستمر وستتصاعد”.
4- إنجاز الوحدة الوطنية والاتفاق على برنامج وطني سياسي لهذه المرحلة وبناء المرجعية القيادية الموحدة.
5- الاستمرار بالانفتاح على كل مكونات الأمة والدول العربية والإسلامية، والانفتاح على جميع “أحرار العالم” والتنسيق المشترك مع الجميع لمواجهة إسرائيل.
6- أن “حماس” لن تتوانى في التخطيط والعمل من أجل تحرير الأسرى، وأن كتائب القسام مصممة على إنجاز صفقة تبادل الأسرى مع إسرائيل.
7- العمل على كسر الحصار عن قطاع غزة.
أما كلمتي يحيى السنوار وصالح العاروري، فلم تتضمنا جديداً بقدر ما جاءتا في سياق التأكيد على بعض أولويات “حماس” السبعة التي ذكرها هنية، خاصة أولوية “الأسرى”، وفي صيغة أقرب للخطاب التعبوي منها للبيان السياسي، حيث جاء في كلمة السنوار إمهاله الحكومة الإسرائيلية “وقتاً محدوداً لإتمام صفقة تبادل أسرى”، مهدداً بأن “حماس” ستغلق الملف بشكل نهائي، وستجد طريقة أخرى لتحريرهم، وقد استكمل العاروري الحديث بشأن ملف الأسرى، وكان لافتاً فيها قوله “أسرنا الجنود وحررنا الأسرى، وواجبنا أن نكمل هذه المسير ونأسر جنودًا ومستوطنين، ونكمل عملية التبادل حتى نحرر أسرانا”.
فيما جاءت كلمة خالد مشعل بمضامين أكثر سياسية، خاصة في حديثه حول “تحقيق الوحدة الوطنية في مواجهة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، على أساس روح الشراكة في المسؤولية والقرار في الميدان والقيادة على أسس ديمقراطية”، مركزاً على دور “الشتات” الفلسطيني، وداعياً إلى الاتفاق على “رؤية سياسية واضحة تستند إلى برنامج المقاومة”.
بعد خمسة وثلاثين عاماً: بيئة مُتغيرة وتحديات ناشئة
عملياً لم تحمل خطابات قادة “حماس” الأربعة جديداً بالمعنى الاستراتيجي، حيث جاءت امتداداً “لوثيقة المبادئ والسياسات العامة” التي أعلنتها “حماس” في مايو 2017، وشكلت منعطفاً في خطاب “حماس” السياسي وتحولاً عن “ميثاق حماس” الذي أعلن في أغسطس 1988. فقد خلت مضامين الخطابات من أي ملاحظات ذات دلالة على تنوّع التحديات وكثرة الأولويات تبعاً لتعدد مواقع صنع القرار، ومحاولة المحافظة على التوازن الداخلي ما بين تلك المواقع ومراكز القوى فيها.
ويظهر التحدي الرئيس الذي يواجه “حماس” في حقيقة توزيع مراكز صنع القرار فيها بين أربعة أقاليم أو مناطق تنظيمية كبيرة، وهي: (قطاع غزة، والضفة الغربية، والسجون الإسرائيلية، والخارج)، ويبدو واضحاً حالة التنافس ما بين مراكز القوى تلك، والتي بدأت بالظهور بعد اعتقال رئيس أول مكتب سياسي لـ “حماس” موسى أبو مرزوق في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1995، وصعود خالد مشعل لرئاسة المكتب السياسي في العام 1996 في ظل بقاء أبو مرزوق في السجن الأمريكي، وهو ما أثار أزمة داخلية كبيرة في “حماس” بعد الإفراج عن أبو مرزوق في العام 1997 وصلت حد اتهام مشعل وجماعة “الكويت” كسامي خاطر وعزت الرشق بالانقلاب على جماعة “غزة” التي يمثلها أبو مرزوق؛ وتعتبر ذاتها أولى بقيادة الحركة.
ومنذ تلك اللحظة ظهرت استراتيجية “التوازنات التوافقية” في تشكيل قيادة الحركة، وبما يرضي مراكز صنع القرار الأربعة فيها، وهو ما يظهر في تشكيلة المكتب السياسي الحالي لـ “حماس”، حيث يترأسه إسماعيل هنية وهو من قطاع غزة، ونائبه صالح العاروري من الضفة الغربية (أسير سابق ومُبعد)، فيما يتولى خالد مشعل مسؤولية إقليم الخارج، ويتولى يحيى السنوار مسؤولية إقليم غزة، وهو أيضاً أسير سابق، في حين يبقى مسؤول إقليم الضفة الغربية سرياً لأسباب أمنية، ويقوم بمهامه الرسمية نائب رئيس المكتب السياسي الحالي، ويرأس الأسير سلامة قطاوي الهيئة القيادية العليا للسجون، وكذلك توزع مُختلف المسؤوليات في المكتب السياسي على ذات القاعدة التمثيلية للمواقع الأربعة.
في ضوء ذلك يمكن قراءة تفاوت أولويات “حماس” الاستراتيجية في خطاباتها الأربعة التي تعبر عن تعدد التحديات التي تمر بها مراكز صنع القرار فيها، وتعكس أولوياتها الجغرافية، بالإضافة إلى ما يمكن تسميته بالصيغة التوافقية الجامعة التي يمثلها خطاب إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي، وذلك ما يظهر عند تحليل كل خطاب على حدة، حيث:
أولاً: في خطابي السنوار والعاروري، وكلاهما تسلّم مسؤولية إقليم السجون خلال فترة اعتقالهما الطويلة، تبرز وتيرة الاهتمام المرتفعة بقضية الأسرى، خاصة في ظل حالة الإحباط من إمكانية تحريرهم، سواء بين الأسرى ذاتهم أو داخل الشارع الفلسطيني، وباستمرار بقاء ملف الأسرى معلقاً، فإن ذلك يضع قيادة “حماس” في مأزق، يدفعها للاختيار بين خيارين لتحقيق اختراق يُذكر، خاصة في ظل سياسات حكومة اليمين الجديدة في إسرائيل.
الخيار الأول يتمثل في تنفيذ تهديدات السنوار والعاروري باختطاف جنود ومستوطنين إسرائيليين من أجل تسريع عملية تبادل الأسرى وتحسين شروط التفاوض حولها. أما الخيار الثاني عبر تقديم تنازلات لإسرائيل فيما يتعلق بشروط عملية التبادل، من أجل الدفع قدماً بالمفاوضات، ولضمان تحرير المئات من الأسرى، مقابل امتيازات أخرى قد تحصل عليها “حماس” في ملف إدارة قطاع غزة، خاصة في قضايا التسهيلات الاقتصادية والتجارية وحركة المعابر وتصاريح العمل لمواطني غزة في إسرائيل.
وفي ضوء صعوبة موقف “حماس” الميداني في الضفة وغزة، وعدم قدرتها على تحمّل تبعات الخيار الأول سياسياً وعسكرياً، وتأثير المعادلات العربية والإقليمية على قراراتها الاستراتيجية، وكذلك في ظل استعداد حكومة بنيامين نتنياهو لاتخاذ إجراءات تصعيدية حال نفذت “حماس” تهديدات السنوار والعاروري، فإنّ الخيار الثاني هو الأكثر ترجيحاً، والأكثر تعزيزاً لاستراتيجية “حماس” السياسية بعيدة المدى، خاصة في حالة التدخل الفاعل من قبل وسطاء مؤثرين في مسار مفاوضات تبادل الأسرى بين “حماس” وإسرائيل.
لكن عدم القدرة على تحقيق اختراق في ملف الأسرى عبر الخيارين السابقين، قد يقود لخيار ثالث ليس في الحسبان، من حيث قيام مجموعات مسلحة صغيرة بعمليات اختطاف جنود أو مستوطنين إسرائيليين بقرار فردي منها، أو بتوجيه ودعم من حركة الجهاد الإسلامي وحلفائها، أو من بعض قيادات “حماس” في السجون وفي الضفة الغربية. ومن شأن حدوث ذلك أن يترتب عليه تداعيات كبيرة، على رأسها أن يتضمن الرد الإسرائيلي تصعيداً عسكرياً كبيراً في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ثانياً: يمر قطاع غزة بحالة اقتصادية صعبة، وصلت إلى حد محاولة العشرات من أهالي القطاع الهجرة عبر البحر رغم المخاطر العالية التي تسببت بغرق الكثيرين منهم، وبالرغم من خطورة تلك الحالة إلا أنها لم تحتل المساحة التي تستحقها في خطابات “حماس”، حيث أنّ خطاب السنوار، وهو مسؤول “حماس” في غزة، لم يتطرق لهذا الموضوع، في حين تناوله إسماعيل هنية، وهو أكبر مسؤول في “حماس” من غزة، بوصفه الأولوية السابعة “الأخيرة” حين أشار إلى “العمل على كسر الحصار عن قطاع غزة”.
وحتى تلك الأولوية في خطاب هنية لم تذكر سوى القليل عن كيفية العمل لكسر ذلك الحصار، حيث اكتفى هنية بالقول “ستنطلق مجددًا الحملات لإرغام إسرائيل لإنهاء الحصار عن غزة”، وهذا يشير إلى أن “حماس” وصلت سقفها الأعلى فيما يتعلق بإدارة قطاع غزة معيشياً، ولا تستطيع تقديم المزيد لأهالي القطاع، خاصة وأن قادة الحركة لا يشعرون بوجود أي مهددات لسيطرتهم في القطاع بالرغم من صعوبة الظروف المعيشية والداخلية، إلا أن استمرار الأزمة واشتدادها قد يؤثر في طبيعة العلاقة ما بين مراكز صنع القرار فيها، أو في علاقة الحركة بالفصائل الأخرى وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي، التي تشهد توترات، منذ نأي “حماس” بنفسها عن التدخل في التصعيد الإسرائيلي ضد حركة الجهاد في قطاع غزة؛ أغسطس 2022.
ثالثاً: صعد خطاب صالح العاروري ضد السلطة الفلسطينية سياسياً وأمنياً، بسبب تحيملها مسؤولية التوترات الميدانية في الضفة الغربية، ويتضح من خطاب “حماس” أن تحدي الضفة الغربية مرتبط بالأدوار المستقبلية للحركة هُناك، وهو الدور المحكوم بمحددات داخلية على رأسها السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وحركة فتح، ومحددات خارجية تتمثل بالاستيطان المتزايد في الضفة الغربية. وتُراهن “حماس” على التوتر الأمني في الضفة الغربية للتأسيس لدور مركزي لها في الضفة الغربية. وبينما لا تنخرط “حماس” كُلياً في التوترات الأمنية فهي تصعد خطابياً في تحميل السلطة والأجهزة الأمنية المسؤولية، بما يعفي “حماس” في قطاع غزة من تلك المسؤولية من جانب، ويضع السلطة الفلسطينية في أزمة ثقة أمام الرأي العام.
رابعاً: برز في خطاب خالد مشعل طموح “حماس” السياسي لقيادة الشعب الفلسطيني وتمثيله، وتحديداً في الخارج، خاصة في ظل أزمة السلطة الفلسطينية الداخلية، وظهر ذلك من خلال تشديده على الرؤية السياسية الواضحة وتحقيق الوحدة الوطنية على أسس الشراكة والديمقراطية، وهو ما سبق أن أشار إليه هنية في تأكيده على ضرورة الاتفاق على برنامج وطني سياسي لهذه المرحلة وبناء المرجعية القيادية الموحدة، لكن الخطابين لم يقدما أي مبادرات إجرائية لتحقيق الوحدة الوطنية، وهو ما يعني بقاء الأحوال على ما هي عليه في ملفات الانقسام السياسي والمصالحة الداخلية.
وأخيراً؛ تبدو حركة “حماس” بعد خمسة وثلاثين عاماً على تأسيسها أكثر حذراً وبراغماتية، لكنها أكثر طموحاً من الناحية السياسية؛ حيث تسعى لتوظيف المتغيرات في إسرائيل والضفة الغربية لصالح تعزيز أدوارها على مختلف المستويات المحلية والإقليمية، انطلاقاً من تقديم نفسها ككيان سياسي يمتلك العديد من الأدوات والإمكانيات.
مع ذلك؛ تواجه الحركة تحديات جسيمة مرتبطة بالتوازن الدقيق بين أقاليمها التنظيمية الأربعة، وبصعوبة تحديد أولوياتها بين تعزيز إدارتها للقطاع أو الخروج بحلول لقضية الأسرى. كما أن التداعيات التي قد تترتب عن التصعيد الأمني في الضفة الغربية وفقدان الاستقرار فيها يصعب التنبؤ بها، ناهيك عن أن الحركة تواجه أزمة شرعية بعد تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في القطاع، وبعد فشل تجارب الإسلام السياسي في المنطقة. بذلك تجهد الحركة للحفاظ على شبكة علاقاتها المعقدة، والتي تشهد هي الأخرى تغيرات جوهرية في سياستها تجاه “حماس” كما الحال مع تركيا.