بقلم: ناجي شراب – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- تتعدّد الكتابات التي تتناول وصف الحالة السياسية الأمريكية الداخلية، وما تواجهه من تحديدات وتطورات تعرّض روح أمريكا الواحدة للتفسخ. لقد وصفت أمريكا بأمة من المهاجرين جرّاء نجاح عملية الانصهار لكل من تطأ قدمه الأرض الأمريكية في بوتقة هذه الروح التي دعمتها الأمة القائمة على المساواة وروح المواطنة الواحدة والدستورية والمؤسساتية التي تعمل على خدمة هذه الروح.
ولذلك كانت توصف الولايات المتحدة بأرض الأحلام والديمقراطية. اليوم تتعرض هذه الحالة لتطورات سياسية تعيد أمريكا إلى العنصرية، وإلى العودة للجذور بتنامي التيارات الشعبوية والعنصرية البيضاء، وبتنامي نزعة الاستقلالية لدى الكثير من الولايات.
ففي تقرير لمجلة “الإيكونومست” في سبتمبر/أيلول الماضي بعنوان: “الولايات الأمريكية غير المتحدة”، أشارت إلى أن الولايات المتحدة مثلها مثل أطباق تيري الزجاجية المعملية المغلقة التي تنمو فيها خلايا بكتيرية. ومن أبرز هذه الأمثلة إصدار ولاية كاليفورنيا قراراً بمنع بيع السيارات التي تسير بالوقود ابتداء من عام 2035، وتبني ولاية تكساس قانون منع الإجهاض أياً كانت الأسباب، وأن من يمارس الإجهاض سيتعرض للسجن لمدة 99 عاماً. ودلالة هذه القرارات زيادة الصلاحيات التشريعية للولايات بعيداً عن السياسة الفيدرالية. ولا خلاف على أن الفيدرالية الأمريكية تقوم على منح درجة من الاستقلالية للولايات، لكن ليس لدرجة أن تمس الروح الفيدرالية، حيث تلاحظ زيادة حالة الاستقطاب ونشاط النخب الحاكمة في كل ولاية لتقنين ما تراه مناسباً لها، إضافة إلى خطاب التشكيك والإقصاء والتخوين في الخطابين الجمهوري والديمقراطي.
وهناك من يرى أنه بسبب التركيبة المحافظة للمحكمة العليا يتم التعامل مع الولايات كدول ذات سيادة. وأيضاً يرى اليسار أن الكلية الانتخابية وتركيبة مجلس الشيوخ على أساس نائبين لكل ولاية، وتأكيد مبدأ المساواة بين الولايات يعد مناهضاً للديمقراطية، بينما يرى اليمين تغوّل الهيئات التنفيذية للدولة أو الدولة العميقة، ما دعا إلى مطالبة الرئيس السابق ترامب بإلغاء الدستور. وهنا يتجدّد السؤال الذي تركه المؤسسون بأن كل الناس خلقوا متساوين، وكيف يمكن تحقيق الحرية والمساواة.
منذ تأسيس الولايات المتحدة بعد إبادة دموية مطلقة للسكان الهنود الحمر، ومفهوم القوة هو الذي يحكم السياسة والقرار والفعل الفردي، وتنامي الفكر الجديد الذي يعد الخير شراً والشر خيراً، فهذا يفسر لنا العديد من حالات العنف والقتل التي تستهدف المواطنين الأمريكيين السمر والمسلمين، وهذا التوجّه يتم تحت شعار العودة للجذور.
لعل أفضل من وصف الشخصية الأمريكية الاستعمارية هو سيمون بوليفار، أحد قادة الاستقلال في أمريكا اللاتينية، بقوله: “يبدو أنه كتب على الولايات المتحدة أن تقوم بتعذيب وإذلال القارة باسم الحرية”. وما كتبه الناشط السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل بعد رحلته إلى أمريكا في وصف الديمقراطية الأمريكية بقوله: “إني لا أعرف شعباً يحتل فيه حب المال كثيراً في قلوب الناس أكثر من هذا الشعب الأمريكي، شعب يشكل تجمعاً من المغامرين والمضاربين”.
ولذلك يقال دائماً في السياسة الأمريكية إن المال هو الذي يحرّك ويقف وراء كل القرارات والسياسات. وفي كتابه “أيديولوجيا واقتصاد”، يقول نعوم تشومسكي: “إن بنيامين فرانكلين أبو الأمة الأمريكية وباسم التنوير، طرد السكان الأصليين كي يفسح المكان لأمته”.
ولعل أبرز ما يثير القلق هو التحذيرات التي صرح بها لأول مرة عدد من السياسيين والعسكريين حول تدهور العلاقات الداخلية، فعدد من العسكريين السابقين حذّروا من تدهور العلاقة بين السياسيين والعسكريين. ووقع ثمانية وزراء دفاع سابقين وخمسة رؤساء أركان سابقين، بياناً قالوا فيه: “نحن في بيئة تتسم فيها العلاقات بين المدنيين والعسكريين بصعوبة كبيرة”.
وحذرت المرشحة السابقة للرئاسة الأمريكية تولسي غيبارد من حظر نشوب حرب أهلية جراء سيادة لغة الخطاب الزاعق والعنيف والمرَضي، والتخوين لقادة الحزبين، وهو ما يعني أن أمريكا أمام ظاهرة الخصم الذي ينبغي التخلص منه. والنائب تيد كروز، قال إن “البلاد على أعتاب أحداث استثنائية”، وهذه اللغة تحمل في طياتها نذر الحرب الأهلية.
وفي الفيلم الوثائقي الذي نشره أنصار ترامب وصفوا اليسار بأنه يسعى للقضاء على كل ما هو جيد، وتصريحات ترامب المتكررة بتزوير الانتخابات، وضرورة إلغاء وزارة التربية؛ لأنها تسمح بتدريس العنصرية. كل هذه إرهاصات وصور تؤكد أن روح أمريكا الواحدة تتعرض للتفسخ والانفجار، ولكنها تبقى في حيز التحذير والتخوفات؛ لأن روح أمريكا تبقى قوية حتى اللحظة، وليس من السهل أن نرى تفككاً للولايات المتحدة وتحوّلها إلى نموذج سوفييتي جديد، ولعل قوة أمريكا تمكن في هذه الروح وقوة المؤسسات الاتحادية بشرط ألاّ تفقد الأمة روحها.