بقلم: إدريس لكريني – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- شكل تحقيق السلام مطمحاً للشعوب منذ القدم، وقد تم إرساء مجموعة من التدابير الرامية إلى كسب هذا الرهان، سواء من خلال الدخول في تحالفات أو تعزيز العلاقات الاقتصادية، أو عبر السعي لامتلاك عناصر القوة التي تحقق الردع. قبل أن تتّجه الكثير من الدول إلى عقد معاهدات ومؤتمرات هامة، أسهمت في إرساء ضوابط تؤطر العلاقات بين الدول، ونذكر في هذا السياق معاهدة ويستفاليا لعام 1648 ومؤتمرات فيينا لعامي 1814 و1815، فيما شكل ظهور المنظمات بعد إحداث عصبة الأمم في عام 1919 مكسباً مهماً في هذا الشأن.
ورغم تأسيس منظمة الأمم المتحدة التي جعلت من حفظ السلم والأمن الدوليين إحدى أهم أولوياتها، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن العالم ما زال يعيش على إيقاع الحروب التي تصاعدت خطورتها مع بروز أسلحة عسكرية أكثر فتكاً وتدميراً، واقتران ذلك بتوظيف التكنولوجيا الحديثة في هذا الخصوص.
لقد استطاع المجتمع الدولي أن يحقق مجموعة من المكتسبات التي تجسدها الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات التي تدعم تحقيق السلام، وتعزز الحماية الدولية لحقوق الإنسان، لكن توالي الأحداث والمخاطر المختلفة، يؤكد أن العالم ما زال بحاجة إلى بذل مزيد من الجهود في سبيل ترسيخ سلام مستدام.
ربط عدد من الباحثين والفلاسفة بين الدكتاتوريات والحروب، وأكدوا أن الديمقراطية هي مدخل أساسي لتحقيق السلام المنشود، فقبل تأسيس الأمم المتحدة تبين أن الفاشية والنازية بتوجهاتهما الاستبدادية والتوسعية، قادتا العالم نحو حروب طاحنة كانت كلفتها خطيرة على كل المستويات. وقد حاولت الدول الأوروبية أن تستفيد من هذه المحطات الصعبة، لتراهن على المدخل الديمقراطي الذي ساهم في تحقيق التنمية، والمساهمة في بناء أحد أهم التكتلات الاقتصادية الإقليمية على المستوى العالمي الذي دعّم من جانبه هذه التوجهات الديمقراطية.
يجد ربط تحقيق السلام بالممارسة الديمقراطية أساسه في عدد من الاجتهادات التي برزت منذ بدايات القرن الثامن ضمن كتابات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت والمفكر الأمريكي توماس بين، قبل أن تظهر الكثير من الكتابات الأكثر دقة وعمقاً في هذا الصدد، على يد عدد من الباحثين والمفكرين منذ منتصف القرن العشرين، الذين أكدوا على أن الديمقراطية هي مدخل هام لإرساء السلام وتحقيق التنمية.
تطرح نظرية السلام الديمقراطي الكثير من الأسئلة والإشكالات، في علاقة ذلك بطبيعة ومفهوم الديمقراطية الذي من شأنه أن يحقق هذا الرهان، كما أن الكثير من النظم التي تعتبر ديمقراطية، تورطت في حروب خطيرة قادتها بشكل أحادي أو جماعي في إطار تحقيق مجموعة من المصالح والأهداف الخاصة، في خرق واضح لقواعد القانون الدولي.
لا يمكن لإرادة الشعوب إلا أن ترفض الحروب والنزاعات العسكرية، لكن للسياسة منطقها ومصالحها المتقلبة، فكثيراً ما زجت النظم الاستبدادية ببلدانها في معارك مكلفة، بحسابات ضيقة ومغامرات غير محسوبة تنحو من خلالها إلى كسب نقاط سياسية تبرّر بقاءها في السلطة أو لإشباع نزوات نفسية مرضية.
وتبرز التقارير والمعطيات الإحصائية أن توجهات الدول – بغض النظر عن إمكانياتها وطبيعة نظمها السياسية – نحو الإنفاق على التسلح، ما زالت تشهد ارتفاعاً ملحوظاً رغم نهاية الحرب الباردة، ما يبرز الهواجس العسكرية، رغبة في تحقيق الردع أو استعداداً لبسط الهيمنة تجاه المحيط.. فكثيراً ما تورطت العديد من الدول الديمقراطية الغربية في حروب عسكرية دفعت ثمنها شعوب بريئة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكن ذلك لم يمنع هذه الدول من تحقيق مجموعة من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية لشعوبها، وكذا تجنيب بلدانها الدخول في حروب ونزاعات عسكرية داخلية.
وهناك دول أخرى رغم الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية، فهي حرصت على بناء جيوش ضخمة بتجهيزات وبنى عسكرية متطورة، وقادت معارك سياسية وعسكرية خارجية خاسرة، لكنها في المقابل لم تفتح أو تكسب أي معركة من المعارك الداخلية المتصلة بإحداث البنى التحتية وتحقيق التنمية والرفاه وتطوير منظومة حقوق الإنسان والقضاء على المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، بل كثيراً ما أدخلت بلدانها في متاهات من المشاكل السياسية، والحروب والصراعات الأهلية التي عمقت أوضاعها وساهمت في تخلّفها.
ترتبط الديمقراطية بمجموعة من المعاني والدلالات في علاقة ذلك بالتحرّر من الظلم والاستبداد، وبتداول السلطة بصورة سلمية ومشروعة، وبتعزيز المشاركة السياسية واحترام القانون وإرادة الشعوب، وحماية حقوق الإنسان في أبعادها الكونية، وهو ما يجعل من ترسيخ دعائمها مرتكزاً مهمّاً لنبذ العنف، وإرساء السلام وكسب رهاناته المتصلة بمواجهة الفقر والتخلف والأمراض الخطيرة وتلوث البيئة.