الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يتناول التحليل قمم الرئيس الصيني شي جين بينغ الثلاث في الرياض، على المستوى الثنائي مع المملكة العربية السعودية وعلى المستوى الخليجي وثم العربي، ويسلط الضوء على أبرز ملامح العلاقات السعودية الصينية في ضوء اعتبارها تحول استراتيجي في سياسة البلدين الخارجية أو بوصفها مناورة جيوسياسية في مواجهة السياسات الإقليمية والدولية الأمريكية.
أدناه النص كما ورد في موقع المركز:
حطت طائرة الرئيس الصيني شي جين بينغ، في العاصمة السعودية الرياض، في 7 ديسمبر 2022 للمشاركة في قمم ثلاث؛ سعودية وخليجية وعربية، وهو ما وصفته وزارة الخارجية الصينية بـ”النشاط الدبلوماسي الأوسع نطاقاً” بين الصين والمنطقة العربية منذ تأسيس الصين الشعبية.
وبسبب الظرف المتوتر الذي يمر به النظام الدولي، فإن هذا الحراك الصيني لا يمكن فصله عن السجال الدائر على أكثر من مستوى، سواء الصيني الأمريكي، أو الأمريكي السعودي، أو حتى على مستوى الإقليم، والسباق بين دوله لتعميق مكانتها وموقعها لدى الدول الكبرى.
ومنذ أن أُعلن عن الزيارة رسمياً في ذروة الاستياء الأمريكي من قرار “أوبك بلس” خفض إنتاج النفط، أصبحت كل تفاصيلها وكواليسها قيد الرصد والتحليل والمتابعة. وحتى مراسم الاستقبال حظيت هي الأخرى بمتابعة واهتمام، ومُقارنة بما تم من مراسم سابقة لاستقبال الرؤساء الأمريكيين، يُمكن ملاحظة النقاط التالية:
1- تم تطبيق البروتوكول الذي يقضي باستقبال أمير المنطقة للرئيس الضيف، على العكس من مراسم استقبال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي استقبله الملك سلمان بن عبدالعزيز في المطار.
2- أن التغطية الإعلامية السعودية المصاحبة للزيارة لم تكن بمستوى يعيد التذكير بزيارة ترامب، فوسائل الإعلام المقربة من السعودية انشغلت في اليوم التالي لوصول بينغ في تغطية إعلان السعودية موازنتها لعام 2023، إذا ترأس الملك سلمان وولي عهده اجتماع وزاري للتوقيع على الموازنة ثاني أيام الزيارة.
3- دلل الاستقبال على عمق العلاقة ما بين بينغ وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حيث تصافح الطرفان باليد الكاملة لا بالقبضة كما جرى بين بايدن وولي العهد السعودي، رغم أن الصين لا تزال تفرض قيود صارمة على التقارب الجسدي على عكس الولايات المتحدة التي رفعت تقريباً كل القيود الوقائية.
ومن جدة التي استضافت قمم بايدن الثلاث، إلى الرياض التي استضافت قمم بينغ، تبني السعودية محوراً متكاملاً يدمج السياسة والأمن والاقتصاد وما أمكن من قيم، من أجل تعزيز موقعها الإقليمي والدولي وتوظيف اللحظة التي أعادت الاهتمام بمصادر الطاقة التقليدية وبضرورة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها.
وهي اللحظة نفسها التي يكاد يجمع منظرو العلاقات الدولية على أنها علامة فارقة في مسار النظام الدولي؛ فإما استمرار تسيّد الولايات المتحدة النسبي للنظام الدولي، أو نجاح الصين بإحداث اختراق نحو تشارك القيادة أو حتى تبوء المرتبة الأولى في تنافسها الجيوستراتيجي مع واشنطن.
وتعرّض مفهوم القيادة الدولية إلى تغييرات تختلف عما كان سائداً إبان الحرب الباردة، وهذه التغيرات مدفوعة بزيادة كلف القيادة وصعوبة الإشراف على تنفيذ مهام القيادة لتعقيدها وتعددها، خاصة في ظل العديد من الأزمات والصراعات على المستويات المحلية للدول والإقليمية والدولية. كما أن الدول الكبرى أصبحت تواجه تحديات محلية مزمنة بعضها يتصل بالظروف الاقتصادية المعيشية وأخرى أعمق ترتبط بالتجانس المجتمعي والاستقرار السياسي.
كل هذه المعطيات – مثالاً لا حصراً- تدفع نحو إعادة التفكير بمفهوم ومنطق العولمة والقيادة الدولية، فلم تعد الدول المؤهلة للقيادة قادرة/راغبة في استنزاف مقدراتها دون مقابل ومردود استراتيجي، وهو ما صعّد مفهوم الإقليمية لتفسير العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، على افتراض وجود قوى إقليمية هي من تتولى القيادة في نطاق جغرافي محدد، وهذه النطاقات مكتفية ذاتياً وتمتلك عناصر الاستقلالية ولا تخضع لقوة خارجية تحدد مسار الأحداث فيها.
والنشاط السعودي في الساحة الدولية قد يكون مرتبط بالتأسيس لموقع القيادة الإقليمية الموازِنة لاعتبارات واشنطن وبكين في المنطقة التي عُدت تقليدياً منطقة نفوذ حصري أمريكي، ولم يخفي بايدن الطابع التنافسي مع الصين إبان زارته لجدة الصيف الماضي عندما رد على التكهنات والشكوك بنفيه الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط وعدم ترك فراغ تستغله الصين أو روسيا أو إيران.
وقد جاءت مضامين قمتها أعمق من القمتين الخليجية والعربية، ويمكن الاستدلال على هذه المضامين بما صدر من تصريحات رسمية وما جاء في البيان السعودي الصيني المشترك، وأيضاً الإشارات السياسية التي لم تحظى باهتمام إعلامي، ومن أبرز هذه المضامين:
أولاً: التوقيع على شراكة استراتيجية شاملة بهدف رفع مستوى الثقة المتبادلة، والتوقيع على اتفاقيات ومشاريع بقيمة تقترب من 30 مليار دولار، بعضها في مجالات حساسة أمنياً، كتحلية المياه الحيوية لخدمة السكان، والاتصالات والخدمات السحابية مع شركة هواوي المفروض عليها عقوبات أمريكية على خلفية ادعاءات بتسخير الشركة البيانات المخزنة تحت تصرف أجهزة تتبع للحكومة الصينية.
ثانياً: إعطاء الزخم لرؤيتين تنمويتين تمتلكهما كلا الدولتين وهي مبادرة الحزام والطريق الدولية، ورؤية السعودية 2030 الإقليمية، والاتفاق على الموائمة بينهما قد يعني التأثير على وزن بعض الدول والموانئ في المنطقة، وإهمال التحذيرات الأمريكية القاضية بضرورة عدم تعميق التعاون في مبادرة الحزام والطريق.
ثالثاً: يمكن ملاحظة طموح الدولتين في أن يُسفر تعميق التعاون بينهما إلى التغلب على التحديات التي تواجه اقتصادياتها، فالأولى تواجه تباطؤ حاد في النمو الاقتصادي هذا العام من حيث الناتج المحلي الاجمالي (قرابة 3% مقابل نمو بنسبة 8.1% عام 2022) وهذه الأزمات لا ترتبط فقط بسياسة صفر كوفيد والإغلاقات، بل بعضها بنيوي، كأزمة العقارات، وبعضها سياسي، كالتدقيق المالي على شركات التكنولوجيا التي لا تملك الحكومة حصة فيها.
أما الرياض فتبحث عن مصادر توفر خدمات التكنولوجيا الفائقة “Hi-Tech” لمشاريعها وخططها بعيداً عن القيود السياسية، وقد تقدم الصين تنازلاً سياسياً بالتغاضي عن قيود تصدير التكنولوجيا الفائقة إلى الخارج كنوع من الامتنان للسعودية وتوفير عنصر جاذب لها بعيداً عن الغرب الذي يقيّد صادرات التكنولوجيا الفائقة في بعض الحالات والمجالات.
رابعاً: أكد البيان الختامي للقمة الثنائية على أهمية مواصلة “إعطاء الأولية” للتفاعلات الثنائية بين كلا الدولتين، و”وضع نموذج” للدول النامية يقوم على المنفعة المتبادلة والكسب المشترك. وهو ما يعني وجود إرادة سياسية للتأسيس لنموذج يعمل كمثال ليُحتذى به “setting example” في العلاقات الدولية، وهذا الطرح موجه للدول النامية التي تريد الخروج من خانة الاحتكار الأمريكي للعلاقات الدولية.
خامساً: الإعلان عن حصول بعض الشركات الصينية على تراخيص لإنشاء مقار إقليمية في السعودية يدلل أن الرياض نجحت في جذب استثمارات صينية استراتيجية.
وفي فبراير 2021 صدر قرار سعودي يقضي بحصر التعاملات الحكومية مع الشركات الدولية التي تمتلك مقرات إقليمية في السعودية فقط، بهدف جذب رؤوس الأموال وزيادة حجم الاقتصاد غير النفطي، وحتى أكتوبر 2021 منُحت تراخيص إلى 44 شركة أجنبية لتأسيس مقار لها في المملكة.
والقرار يتضمن امتيازات جادة تتعلق بالإعفاءات من الضريبة ومن السعودة ومنح أولوية في العطاءات الحكومية، مما يزيد من القدرة التنافسية للسعودية على استقطاب الأعمال في الإقليم، بما فيها الصينية.
سادساً: رغم الاتفاق على موائمة الحزام والطريق مع رؤية 2030، إلا أنه لم يتم الإعلان عن اتفاقيات نهائية تندرج في مجال منشآت سلاسل التوريد، كالموانئ والسكك الحديدية والطرق السريعة العابرة للدول. ولكن تضمن البيان الختامي التأكيد المشترك على أهمية هذا المجال وقطاعات النقل والسكك الحديدية.
تجدر الإشارة إلى وجود عدة خطط ومشاريع للربط الإقليمي بعضها يتكامل وبعضها يتنافس، ويفترض أن تمول السعودية جزئياً مشروع لسكة حديد في الأردن تتكامل مع دول الجوار، وناقشت ورقة بحثية نشرها ستراتيجيكس في سبتمبر 2021 بعنوان “استراتيجية الربط السككي: آمال أردنية وبحث عن تكامل إقليمي” البعد الإقليمي والدولي لمشاريع النقل والخدمات اللوجستية في المنطقة، والرغبة الأمريكية في مزاحمة وعرقلة مبادرة الحزام والطريق في مفاصلها الحيوية، بما فيها الشرق أوسطية الناقلة من شرق آسيا إلى أوروبا وإفريقيا.
سابعاً: لم يغب البعد الأمني عن القمة السعودية الصينية ولا عن القمتين التاليتين، حيث تم التأكيد على ضرورة مكافحة الإرهاب والتطرف ورفض تنميط الإرهاب بأي اثنية وعدم ممارسة ازدواجية المعايير في مكافحته. في نقد مبطن للسردية الغربية بشأن الإرهاب.
ثامناً: أهم ما يستدعي المراقبة في البيان الثنائي هو الإشارة اللافتة إلى إفريقيا في موضعين: الأول في دعوة الجانب الصيني الجانب السعودي بحث سبل التعاون الاقتصادي والتجاري المشترك مع الدول الإفريقية، والثاني في الاتفاق على تعزيز الشراكة الثنائية بما يسهم في دعم الاستقرار والتنمية هناك.
ولم تحظى هذه الإشارة إلى القارة الغنية بالمواد الخام باهتمام ملحوظ، ولم يتم توضيح آليات التعاون وما إذا كان ثمة مشاريع مشتركة لزيادة الحضور الفعال في إفريقيا، وتحديداً في القرن الإفريقي ذو التربة الخصبة والواقع على مدخل مضيق باب المندب الذي يمتلك أهمية جيوسياسية بالغة في التجارة الدولية.
وتعبيراً عن هذه الأهمية، تحتضن جيبوتي القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة المعلنة خارج أراضيها، وتسعى الصين لبناء قاعدة عسكرية دائمة على سواحل المحيط الاطلسي الإفريقية، تحديداً في غينيا. وبالفعل تنخرط الصين وروسيا في نشاط للتأسيس لتواجد استراتيجي متكامل في القارة الإفريقية، وهو الأمر الذي تحاول منعه واشنطن عبر إيلاء أزمات إفريقيا أهمية في الحسابات الأمريكية ومحاولة دعم تنميتها واستقرارها.
وفي سبيل هذه الغاية، عُقدت القمة الامريكية الإفريقية في واشنطن منتصف ديسمبر 2022 بهدف التأسيس لشراكة تقوم على التجارة ودعم الاقتصادات الإفريقية وتعزيز الحكم الرشيد، وتم الإعلان عن تخصيص واشنطن 55 مليار دولار حتى 2025 للدعم الاقتصادي والصحي والأمني والبيئي في القارة.
ولم يتطرق بايدن في خطابه صراحة إلى التنافس مع الصين، إلا أن وزير الدفاع الأمريكي صرّح في خطاب ألقاه بأن نفوذ الصين وروسيا في القارة يمكن أن يكون مزعزعاً للاستقرار، وتناولت بعض التصريحات الأمريكية تنامي تأثير مجموعة “فاغنر” في بعض الدول الإفريقية.
التقييم الدقيق للجولة
أضفى توقيت الزيارة حساسية بالغة على مدلولاتها وسط مبالغات في تقدير ما تمثله من تحول استراتيجي في التفاعلات الدولية الصادرة والواردة نحو الشرق الأوسط، فالقمم الثلاث التي حضرها قرابة 30 قائد دولة ومنظمة دولية رئيسية جاءت كاستفتاء لقبول الصين في المنطقة، وبعض التقارير والدراسات الغربية اعتبرت الزيارة علامة فارقة جديدة وتوشر لتغير محتمل في النظام الدولي.
لم تكن هذه “المبالغة” في تقييم الزيارة وليدة اللحظة وما رافق الزيارة من اتفاقيات وما صدر خلالها من تصريحات، بل هي امتداد لحقيقة موضوعية جيوسياسية تتمثل بتراجع ثقل الشرق الأوسط في الحسابات الأمريكية على أرضية بروز محددات جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية، تتمثل بإدارة تنافس القوى العظمى في الشرق الأقصى وأوراسيا، ومواجهة المخاطر الأمنية الناشئة، فلم يعد الشرق الأوسط يحظى بمكانة أمريكية بعد طفرة الانتاج النفطي الأمريكي وانحسار مخاطر الإرهاب من الإقليم.
أما دول الخليج؛ فتواجه شكوكاً عالية بموثوقية الولايات المتحدة، وكذلك بالقدرة على التنبؤ بمواقفها حيال التهديدات الناشئة في أمن الخليج والشرق الأوسط، ناهيك عن أن البيئة الخليجية لا تزال تحت تأثير الاتفاق النووي “السيء” الذي أبرمته إدارة أوباما مع إيران عام 2015، بالإضافة إلى ثقل المتطلبات الأمريكية والتي لا تتناسب دائما مع شركائها حتى الأوروبيين منهم.
وسط هذه التحولات في المنظور الأمريكي والخليجي، تقدم الصين نموذجها للتنمية والمرتكز على دعم المشاريع العملاقة بما يعود بالنفع على المجتمع ويسهم في تحقيق الاستقرار بعيداً عن التدخل في الشؤون المحلية المجتمعية أو السياسية، وتعزز الصين رؤيتها بترسانة تكنولوجية متطورة تخضع للقرار السياسي في بكين تمكّنها من جذب مزيد من الشراكات والاستثمارات.
وتضمنت القمم الثلاثية اتفاقيات في مجالات حاسمة في علاقات القرن الحادي والعشرين الدولية، كالذكاء الاصطناعي والاتصالات والبنى التحتية مزدوجة الاستخدام (مدني – عسكري) كالنقل والطاقة والمياه. وهذا التكامل النسبي المحتمل بين الطاقة الخليجية والتكنولوجيا الصينية يعزز من وزن قمم بينغ الثلاث.
ولم تقتصر القمم على الشق المادي والسياسي بل حاولت التأطير لعلاقات ثقافية حضارية مؤسسة في اتفاقيات ومذكرات تفاهم ومبادرات، وهو ما يعني أن الصين تسعى إلى بناء قوة ناعمة في المنطقة العربية، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال المقال الذي نشره بينغ في جريدة الرياض خلال زيارته ذاتها وحديثه عن “البعد الثقافي المشترك” لأكثر من 2000 عام من التواصل.
كما أن بعض الاتفاقيات والمذكرات تمحورت في الجانب الثقافي، كالعام الثقافي الرقمي الصيني السعودي، وجائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي، ناهيك عن تعليم اللغة الصينية في مراكز سعودية والتعاون بين المؤسسات الأكاديمية والبحثية.
مناورة جيوسياسية
يصف بعض المحللين القمم الثلاث بأنها تحول استراتيجي، لكن في المقابل ثمة مؤشرات ودلائل تشير بوضوح أنه لا يزال من المبكر الحديث عن تبدلات استراتيجية وانعطافات شرق أوسطية تؤثر على خارطة النفوذ الإقليمي، وهو ما تتبناه هذه الورقة التي تحاجج أن قمم بينغ هي أقرب ما تكون للمناورة الجيوسياسية من أن تكون تحول استراتيجي، للعوامل التالية:
أولاً: ليس كل ما جرى التوقيع عليه يعتبر اتفاقيات ملزمة قانونياً وخضعت بنودها لدراسات الجدوى الفنية الشاملة، فجزء منها هو مذكرات تفاهم تحمل طابع استكشافي لفرص محتملة، وقد يكون من المبكر توقيع مذكرات تفاهم لمشاريع ومبادرات دون اخضاعها لدراسات جدوى فنية أولية.
ثانياً: لم يتم الإعلان عن تقدم على صعيد استخدام اليوان في المعاملات الثنائية، ولم يجري تناول ذلك إلا من قبل بينغ في القمة الخليجية حيث دعا إلى التعاون مع الصين في بورصة شنغهاي المستحدثة لبيع النفط والغاز باليوان. ولم تبد أي من الدول حماس لهذا الأمر الذي إن حصل سيكون مؤشر على “التحول الاستراتيجي” للتوجه الخليجي نحو الصين بعيداً عن واشنطن وكسر البترودولار.
ثالثاً: لم يحصل أي تقدم على صعيد مفاوضات التجارة الحرة الخليجية الصينية، واكتفى بيان القمة الخليجية الصينية بتأكيد أهمية استكمال مفاوضات التجارة الحرة في أسرع وقت، دون تقديم إطار زمني. وهذا الملف يخضع لدراسات واجتماعات منذ سنوات ويُستبعد التوصل فيه إلى اتفاقية تجارة حرة شاملة وكاملة، بسبب فرق القوة التجارية بين الطرفين ومخاطر الإضرار بالصناعة الخليجية بسبب التفضيلات التي ستمنح للسلع الصينية رخيصة الثمن أصلاً في اتفاقية التجارة الحرة.
رابعاً: صحيح أن اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين السعودية والصين يدلل على عمق العلاقات الثنائية، لكن في الوقت ذاته تجد الصين نفسها مجبرة على الموازنة في علاقاتها بين نقيضين؛ حيث أبرمت في السابق اتفاق شراكة شاملة مع إيران يتضمن أبعاداً عسكرية ودفاعية.
وبينما يسود العلاقات السعودية الإيرانية عدم اليقين، فإن بكين قد تجد نفسها مجبرة على الاختيار بين أحد الشريكين، أو أنها قد تضطر للقيام بوساطة سياسية تقرب مواقف الخصمين لضمان ألا تتأثر مصالحها.
وبامتداد الشراكات الصينية إلى دول متخاصمة ومتنافسة، يتأكد المبدأ الصيني الذي تروج له في الإقليم كـ”صديق الجميع”، والذي سيكون أمام امتحان صعب بزيادة الشراكات الصينية وتعمقها، نظراً لحالة الاستقطاب وهشاشة الاستقرار الأمني.
وقد تعاملت الصين مع أول حادثة لشراكتها مع خصمين، حينما استدعت الخارجية الإيرانية السفير الصيني للتعبير عن الاستياء الشديد من بعض ما ورد في بيان القمة الخليجية الصينية، وتحديداً الإشارة إلى الجزر الثلاث التي تطالب الإمارات بالسيادة عليها، وضمانات سلمية البرنامج النووي، واحترام مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل.
وهنا ينبغي التساؤل عما إذا كانت بكين حسمت قرارها واختارت ترجيح الرياض على حساب طهران، لا سيما وأن اتفاق الشراكة الشاملة الصيني الإيراني لم يطرأ عليه تقدم فعلي بسبب العقوبات الأمريكية ورغبة بكين بعدم التصادم مع واشنطن في توفير دعم لإيران يمكّنها من التخفيف من وطأة العقوبات وتجاوز تأثيراتها الحادة على المجتمع والاستقرار.
خامساً: الدور الاقتصادي الصيني في المنطقة وكثافة تمويل الصين لمشاريع قد يضعها أحياناً لأن تكون طرفاً في الأزمات، كتمويلها الجزئي لسد النهضة في إثيوبيا الذي يهدد الأمن المائي المصري لا بل أمنها القومي بمفهومه الواسع.
سادساً: قد تواجه بكين صعوبة في تحويل ما عبّرت عنه من مواقف خلال القمم إلى واقع على الأرض، حيث تضمنت تصريحات وبيانات القادة تأييد وجهات النظر في الأزمات الرئيسية، كإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، ومبدأ الصين الواحدة (تايوان وهونغ كونغ)، والحل السياسي للأزمة اليمنية وفقاً للمبادرة الخليجية.
بمعنى أدق؛ فإن مواقف الدعم والتأييد تفتقد لوسائل التطبيق الفعلي، فلم يتم نقاش – حسب ما أُعلن رسمياً وما تناولته التقارير الصحفية- أي مبادرة جديدة لحل أي من أزمات المنطقة.
سابعاً: حتى لو أرادت الصين تشكيل موقف ضاغط، فيلزمها وقت طويل للتأسيس لبعد دفاعي مؤثر في المنطقة، وهذا البعد كان غائباً عن القمم الثلاث على جميع الأصعدة، كالتصنيع العسكري وشراء الأسلحة والتنسيق الأمني، وللدقة قد تكون القمة السعودية الصينية ناقشت في بعض اجتماعاتها غير العلنية جوانب دفاعية، ولكن ما هو مؤكد أن الوزن الدفاعي للصين لا يؤهلها لممارسة أنشطة علنية.
تنافس استراتيجي وليس تنافس اقصائي
قد تكون زيارة الرئيس الصيني حُمّلت أكثر مما تحتمل من حيث تداعياتها على خريطة توزع القوى الإقليمية والدولية، فبعض المقالات والتقارير اعتبرت أن معالم التعددية القطبية في الإقليم آخذة في التجلي، مع أن مفهوم القطبية لا يتعلق بإقليم وإنما بالنظام الدولي برمته.
وربما أدى الصدع الأوراسي بين الناتو الغربي وروسيا إلى إذكاء عقلية الحرب الباردة لدى بعض المراقبين والمحللين بما يدفع لتفسير أو ربط أي جولة أو حادثة أو اتفاقية بوجود تحولات في القوى.
بكل تأكيد لم تعد الولايات المتحدة القوة الأحادية التي تعمل كطرف مهيمن على النظام الدولي مثلما كان عليه الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن من المضلل إسقاط صراع الحرب الباردة الأيديولوجي الإقصائي على الوضع القائم، وحتى قيادات البلدين عادةً ما يحذرون من استحضار منطق الحرب الباردة، وآخر هذه التصريحات جاءت على هامش لقاء جمع بايدن وبينغ في نوفمبر 2022 أثناء قمة مجموعة العشرين، حيث تعهدا بـ”مواصلة إدارة المنافسة” وصرّح بايدن “لن تحدث بالضرورة حرب باردة جديدة” في حين قال بينغ “الصين لا تنوي تغيير النظام الدولي الحالي”.
وهو ما يدلل على أن العلاقات الامريكية الصينية تندرج تحت باب كونها تنافسية وليست صراعية، ويسودها الحذر والمسؤولية وعدم الرغبة في إحياء استقطاب النصف الثاني من القرن العشرين الذي قسّم العالم إلى محورين لا يلتقيان.
والشرق الأوسط ليس استثناءً ليكون ميدان تنافس صيني أمريكي، ولكن تريد كل الأطراف المناورة وتحسين شروط التفاوض، عبر تحركات ذات صلة بالتأثير والنفوذ، فدول الخليج العربي تريد أن تكون قوة مستقلة قادرة على تنويع الخيارات بشكل يكسر احتكار واشنطن النفوذ في المنطقة.
أما تبديل التحالفات الاستراتيجية فتلك مجازفة مستبعدة تقتضي استبدال الحضور الأمريكي بتعميق التحالفات مع الصين وروسيا لترقى إلى مستويات دفاعية وأمنية والتكنولوجيا الفائقة وتفضيل الصين اقتصادياً في التقديرات الخليجية، ويستبعد غض واشنطن الطرف عن هكذا “انعطافة” لا سيما وأن استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي المعلنة في أكتوبر 2022 قيّمت العقد الحالي بالحاسم لشكل النظام الدولي وموقع الولايات المتحدة، وتدرك أن الشرق الأوسط قد يكون مضمار الحسم بالنسبة للصين.
وعليه، يمكن القول حتى لو اكتسبت التفاعلات الصينية تجاه المنطقة مقومات الاستمرارية والنمو، فإنها غير مرشحة على المديين القصير والمتوسط لتكون بديلاً عن الشراكة الأمريكية المعززة بانتشار عسكري دولي قادر على التدخل في الأزمات، على عكس الصين التي تعتمد “الصعود السلمي” في سياستها الخارجية.
وأخيراً؛ فإن القمم الثلاث لها أهميتها، وهي خطوة في مسار يتوجب مراقبته سواء من حيث المشهد الدولي العام أو من حيث المجالات الخاضعة للتعاون، فعلى الأغلب، مع تعمق العلاقات الاقتصادية فإن اختراقات أمنية سياسية ستقع بحكم الضرورات وكتحصيل حاصل، فالتكنولوجيا تعني نفاذ إلى بيانات الدولة وتوجهات مواطنيها.
ولذلك على المديين المتوسط والبعيد يمكن أن تحمل مناقشة الحضور الصيني في المنطقة أبعاد قصوى، أما في الظروف الراهنة فإن فالمعطيات الحالية تدلل أن بكين والعواصم العربية الرئيسية لا يجمعهما عدو مشترك، ولكن أخطار مشتركة، كأمن الطاقة وأمن الغذاء، كما أن كلا الطرفين لا يجمعهما اعتماد اقتصادي متبادل، وإنما تعاون وثيق، وبحدوث تغير نحو هذين المعطيين (العدو المشترك، والاعتماد الاقتصادي المتبادل) يمكن عندها الحديث عن تحول استراتيجي في الإقليم، لا بل والنظام الدولي.