بقلم: يونس السيد – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- ما بين دبلوماسية هنري كيسنجر وبرغماتية فلاديمير بوتين، ثمة مساحة واسعة لإعادة النظر في التطورات العالمية الراهنة، ومعالجة هواجس كلا الطرفين من احتمالات صدام مباشر بين روسيا والولايات المتحدة، لا أحد يمكنه توقع نتائجه الكارثية.
يرى كيسنجر، مهندس إطفاء بؤر الصراع إبان الحرب الباردة، أن الوقت قد حان لحل الأزمة الأوكرانية عن طريق المفاوضات، مع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات الاستراتيجية التي حدثت بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في نهاية فبراير 2022، وضرورة أن تكون كييف ضمن حلف “الناتو” أو تحت حمايته، مع احترام التاريخ الروسي وإعادة صياغة أمن القارة الأوروبية على قواعد جديدة تضمن المصالح والمخاوف الأمنية الروسية.
وفي رؤيته يضع كيسنجر خطوطاً لوقف إطلاق النار والشروع في مفاوضات وصولاً إلى التسوية المنشودة، مقترحاً اللجوء إلى مبدأ تقرير المصير يإشراف دولي بالنسبة للمناطق التي أصبحت تحت سيطرة روسيا في حال تعذر التوصل إلى حل عن طريق التفاوض.
لكن بوتين، البرغماتي الحذر، يفضل المزاوجة بين الدبلوماسية والقوة، فبعد أن استنفد فرص الدبلوماسية خلال أشهر من المفاوضات التي سبقت عمليته العسكرية في أوكرانيا، دون أن يتمكن من إبعاد “الناتو” عن حدوده، أو لجم الحلف عن التوسع شرقاً على حساب نفوذه الجيوسياسي التقليدي، آثر اللجوء إلى خيار القوة. ولذلك إرث في العلاقات الروسية مع الغرب إبان الحرب الباردة، فبعد نحو أربعين عاماً من تولي يوري أندروبوف زعامة الاتحاد السوفييتي خلفاً ليونيد بريجنيف عام 1982، والذي استهل عهده القصير بالحديث عن سلام القوة، أي السلام القائم على القوة، ما أرعب الغرب آنذاك، جاء بوتين ليتمثل تلك المقولة، وإن كان أندروبوف توفي بعد ذلك بسنتين (عام 1984) في ظروف غامضة قيل إن وفاته ناجمة عن أسباب صحية بعد مرض عضال.
فما الذي تغير منذ ذلك الوقت، الحرب الباردة التي خبت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عادت لتشتعل الآن وتصبح أكثر سخونة، وروسيا بوتين أعادت بناء وتطوير قدراتها العسكرية على نحو أكبر بكثير مما كانت عليه في عهد الاتحاد السوفييتي، على الرغم من الاختلال الناجم عن تفكك ذلك الاتحاد. وبالتالي لماذا ينشد كيسنجر التوصل إلى حل يطفئ بؤرة الصراع في أوكرانيا، إذا لم يكن هناك ما يتهدد الجميع، وهو كذلك بالفعل. فنذر المواجهة المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة والغرب عموماً بدأت تتجمع في الأفق، على الرغم من أنه لا روسيا ولا الولايات المتحدة يرغبان في هذه المواجهة. لكن هناك مخاوف من فقدان السيطرة والوصول إلى ما يحمد عقباه، ما يعني العودة إلى قاعدة “سلام القوة” التي تقتضي تنازلات من كلا الطرفين، وصولاً إلى تسويات تراعي مصالح كل الأطراف الأمنية والسياسية، بما في ذلك إعادة بناء النظام العالمي على قاعدة التعددية القطبية لضمان قيام نظام عالمي جديد أكثر شمولية وعدلاً. وربما هذا ما كانت تبحث عنه موسكو في الأصل، بينما كانت الولايات المتحدة تريد أن تتفاداه بأي ثمن.