بقلم: أحمد مصطفى – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- يختلف الاقتصاديون ومحللو الأسواق حول ما إذا كان العام القادم (2023) هو عام ركود اقتصادي عالمي أم لا، وإن كانت الأغلبية تميل إلى أنه كذلك؛ بل إن بعض الاقتصادات الرئيسية قد تكون دخلت في ركود بالفعل هذا العام، مثل الاقتصاد البريطاني، وإنما الأمر شبه الأكيد هو أن كلفة المعيشة ستظل مرتفعة في العام الجديد.
فحتى إذا كان الارتفاع في معدلات التضخم وصل إلى ذروته وسيبدأ في التراجع، فإن ذلك لا يعني أن الأسعار ستنخفض. ومع استمرار البنوك المركزية حول العالم في رفع أسعار الفائدة، سيظل ذلك ضاغطاً على فرص النمو الاقتصادي بشكل عام، وعلى قطاعات مثل العقار وغيرها أكثر.
وفي ظل مقدمات أحداث هذا العام، يتوقع أن يطال الركود أغلب نشاطات البشر وليس الاقتصاد فحسب. فالعام القادم في أغلبه، هو عام استعداد لانتخابات في عدة دول كبرى، وليس عامَ فعل أو تغيير.
وفي الجانب الآخر من العالم، تركز قوة كبيرة مثل الصين، على شؤونها الداخلية أكثر من اهتمامها بالخارج في محاولة لضبط الأوضاع في ظل الرئاسة الثالثة لقائدها، واستراتيجية تنظيم الاقتصاد بين العام والخاص. وأيضاً بناء دفاعات اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية وفضائية، لمواجهة التصدي الأمريكي والغربي لصعودها كقوة عالمية.
أما البؤرة الأكثر سخونة، والمتعلقة بالحرب في أوكرانيا، فتتباين التوقعات بشأنها أيضاً مثلما يختلف المعلقون بشأن الركود الاقتصادي العام القادم. فما بين تفاؤل باحتمال وقف الحرب والدخول في مفاوضات تسوية سياسية للأزمة، وبين توقعات بتصعيد عسكري يغذّي استمرارها، لا يتوقع أي حسم لهذا الصراع في العام القادم، خاصة أن القوى المتصارعة، في نطاق أوسع من أطراف الحرب المباشرين، تنتظر أن تؤتي العقوبات غير المسبوقة على روسيا، نتائجها الكارثية المقدّرة.
الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يغير تقدير استمرار الركود في ذلك الصراع، هو اندلاع بؤر ساخنة أخرى، مثل صراع بين صربيا وكوسوفو، مثلاً، يشعل منطقة البلقان ويضطر حلف “الناتو” للتدخل، أو حتى مناوشة صينية لاستعادة تايوان لسيادة “الوطن الأم”، لكن التطور الأخير إذا حدث لن يؤدي سوى إلى فرض أمريكا والغرب عقوبات على الصين لن يلتزم بها بقية العالم، ويعزز ذلك أيضاً استمرار “الوضع الراهن” في ما يمكن وصفه بأنه “ركود إيجابي”.
وفي ظل ركود السياسة والاقتصاد، من غير المنتظر أن يشهد عالمنا نشاطاً قوياً في قضايا أخرى تعد مصيرية لمستقبل البشرية، وفي مقدمتها كارثة التغيرات المناخية التي بدأت آثارها تظهر بوضوح، ليس فقط في اختلال درجات الحرارة الموسمية، ولكن أيضاً في ما نشهده من ذوبان الثلوج، واحتمالات ارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات، وتغير خارطة التصحّر والجفاف مقابل الخضرة والرطوبة.
وشهدنا هذا العام مقدمات للنكوص عن كل التعهدات والالتزامات التي تخرج بها المؤتمرات والاتفاقات. فأوروبا وبريطانيا وأمريكا، فضلاً عن الصين وغيرها من كبار ملوّثي البيئة، يتوسّعون في استخدام الفحم لتوليد الطاقة بعدما كان مفروضاً أن يتوقف العالم عن استخدامه؛ لأنه أكثر ضرراً بالبيئة من النفط والغاز، لكن العقوبات الموسّعة تحتاج إلى إيجاد بدائل طاقة لا توفرها بعدُ المصادر المتجددة المستدامة.
وفي ظل العنجهية الضارة يتحول العالم إلى مصدر كاد أن يتجاوزه أضراره نتيجة الإصرار على خلق الأزمات في سوق النفط والغاز.
وتظل الدول الأقل تلويثاً للبيئة هي التي تنشط في ابتكار بدائل مستدامة نظيفة، خاصة في منطقتنا من طاقة الشمس والرياح، إلى الهيدروجين الأخضر والطاقة النووية، على الرغم من أن منطقتنا من أكثر المناطق تأثراً بالانبعاثات التي عبأ بها العالم المسمى “متقدم”، الغلاف الجوي وأحدث تلك التغيرات المناخية الضارة.
هذا الركود المتوقع في العام القادم، ربما يكون قدره الأكبر من نصيب دول ما يسمى “العالم الأول” ومن في يسير في ركبه من قوى صاعدة، لكنه أيضاً فرصة هائلة للدول التي تسعى إلى بناء قدراتها الذاتية وطنياً، وتعزيز دورها الإقليمي وحتى على الساحة العالمية. وأتصور أن دول منطقتنا يمكنها أن تكون الأكثر استفادة من هذا الوضع بإنفاذ استراتيجياها، ليس فقط اقتصادياً؛ بل سياسياً وثقافياً وعلى مختلف صُعُد النشاطات البشرية.
ولعل في الموقف الذي اتخذته دول الخليج وبقية دول المنطقة الرئيسية من الصراع في أوكرانيا، بين الغرب بقيادة أمريكا، والشرق بقيادة الصين وروسيا، مثالاً جيداً على تلك الاستراتيجية التي تفيد المنطقة في ظل ركود العالم.