بقلم: أنس القصاص
الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تقدير استراتيجي، يُشرّح هذا التقدير، مفهوم الأمن القومي في الولايات المتحدة وتطور مؤسساته، وفلسفة استراتيجية الأمن القومي ودمجها للأمن الداخلي مع الأمن الخارجي على نحو عابر للموضوعات من البيئة والاقتصاد وحتى العسكرية وأسلحة الدمار الشامل. ويعرض التقدير كذلك المعالم الرئيسية لاستراتيجية بايدن 2022 مع الوقوف بالعرض والتحليل والتفسير للبيئة الاستراتيجية الدولية، وكيف وصلت لهذه الحالة مع قراءة التوجهات الأمريكية للتعامل مع هذه البيئة الاستراتيجية المضطربة والنظرة الأمريكية إلى نقطة الانعطاف التي صرح بها بايدن أكثر من مرة.
أدناه النص كما ورد في موقع المركز:
تعتبر الاستجابة المدمجة للتهديدات الخارجية والداخلية في إطار استراتيجي موحد أمر شديد الأهمية في عالم اليوم الذي لا يتيح رفاهية الفصل بين السياسات الداخلية والخارجية أو التعامل مع تهديد خارجي في سياق منفصل عن السياق المحلي. هذه الاستجابة المدمجة هو صلب مفهوم الأمن القومي وهو المفهوم الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وكان الأمريكيون أول من قدمه في إطار مفاهيمي وتطبيقي مع اعتماد قانون الأمن القومي في عام 1947. تم تشريع العديد من القوانين لدرء الفجوات التي لم يعالجها هذا القانون وكان من أهم التشريعات هو قانون “جولدووتر نيكولز” لإعادة تنظيم القوات المسلحة الأمريكية في عام 1986 الذي ألزم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بإصدار استراتيجيات للأمن القومي تقدم للكونجرس وللمؤسسات والرأي العام.
في الثاني عشر من أكتوبر 2022، أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أولى استراتيجياتها للأمن القومي، بعد أن طرحت قبلها بعدة أشهر توجيها استراتيجيا مؤقتا لحين إصدار هذه الورقة الاستراتيجية الكاملة، وهي الوثيقة التي تعد أهم الوثائق المعبرة عن نهج واشنطن في التعامل مع الأزمات والتحديات والمخاطر والفرص الدولية. وتتأتى الأهمية الكبرى للاستراتيجية الحالية كونها تخط بالأحرف العريضة نهج الولايات المتحدة في التعامل مع النظام الدولي الآخذ في التداعي بسبب الأزمات الدولية التي تجري رحاها سريعا لاسيما العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا والصعود الصيني الكبير وتنامي احتمالات التصعيد لاسيما مع التجديد لفترة ثالثة للرئيس الصيني شي جين بينج، خلال مؤتمر الحزب الشيوعي منتصف أكتوبر 2022.
إعلان الموقف الأمريكي حيال البيئة الاستراتيجية الدولية
منذ بداية الوثيقة وحتى نهايتها، امتلأت الوثيقة بشكل عام بما يشبه الإعلانات العامة لمواقف الولايات المتحدة حيال بعض الدول والاتجاهات السياسية التي تشكل بعض ملامح عالمنا اليوم مثل عودة السلطوية وضعف التقبل للديموقراطية والاستغلال السلطوي لقواعد النظام الدولي الحالية والانفتاح العولمي والثورة التكنولوجية في تأسيس واقع مغاير رويدا رويدا.
لذا، فإنه يمكن اعتبار هذه الوثيقة أقرب للإعلان السياسي منها للوثيقة الاستراتيجية بمعناها الشامل. فالوثائق الاستراتيجية عادة ما تعطي صورة عامة وشاملة حول الخطط والتكتيكات المتبعة والبرامج المعتمدة بغية الوصول إلى أهداف محددة ومقيسة مع ذكر المعايير التي يقاس عليها تلك الأهداف والأدوات والوسائل التي تؤدي للوصول إلى تلك الأهداف في النهاية.
قد تكون الاستراتيجية أتت على ذكر برامج معينة على الصعيد العسكري أو الدبلوماسي أو حتى الصناعي، لكنها لم تمضي في ذكر المستهدف من وراء هذه البرامج أو قياس ما تم إنجازه وإلى أي مدى يتفق أو لا يتفق مع التوجه الاستراتيجي للولايات المتحدة وما هو المطلوب في المرحلة المقبلة للنهوض / للتحسين.
لكنها في المقابل، اهتمت بشكل كبير ببيان نظرة الإدارة الأمريكية للبيئة الاستراتيجية الدولية التي تكتنف النظام الدولي الحالي. وبتفصيل بالغ على مدار الفصل الأول من الاستراتيجية وفي أكثر من موضع داخل الاستراتيجية، مضت الاستراتيجية في تفكيك هذه البيئة التي تقول الاستراتيجية أنها ستشهد تحولا جذريا خلال العقد الحالي وأن ما يحدث في المنظومة الدولية الحالية تمر بـ “نقطة انعطاف” كبرى ستمتد عبر العقد الحالي الذي أسمته الاستراتيجية “العقد الحاسم” في مسار النظام الدولي القادم.
الدور المنوط بالولايات المتحدة
تحت الظلال الكثيفة لهذا العقد، ترى الإدارة الأمريكية أن دورها ينحصر في مسألتين:
1- مواجهة الأنظمة السلطوية ودعم الديمقراطيات حول العالم وتدشين تحالفات من الدول الصديقة التي تتشارك منظورها العالمي في أهدافها مع الولايات المتحدة.
2- التعاون مع كافة الأطراف الدولية ذات الصلة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك كالأمن الغذائي وأمن الطاقة والتغير المناخي والأمن الصحي.
للوهلة الأولى، قد يتسرب إلى القارئ الشك في أن هذه الأدوار تعتبر متناقضة. فمواجهة الأنظمة السلطوية في عالم تتناطح فيه السلطوية مع الديموقراطية وتتفوق عليها في كثير من السياقات الإقليمية حول العالم ستعرقل أي جهود تعاونية أو تشاركية للوصول إلى حلول لمشكلات يتضرر منها الجميع.
لكنه يمكن النظر إلى أن الهدفين متكاملين إذا ما قررنا النظر لسياق المطلب الاستراتيجي في مواجهة التحديات القائمة. فهذين الهدفين يأتيان في سياق تعبير أمريكي عن رغبة في كسر موجة العولمة الثانية التي أتت بالدكتاتورية مجددا للمشهد الدولي والرجوع بالمشهد الدولي إلى ما قبل الحرب على الإرهاب حيث الموجة الأولى من العولمة.
لكن الولايات المتحدة في مأزق حقيقي حيال هذا المطلب. فالدول السلطوية التي تريد الولايات المتحدة مجابهتها وفي مقدمتها الصين تتلبس بالنظام الاقتصادي العالمي ومحال أن يتم التعامل سياسيا مع هذه الدول بدون أن يهتز الاقتصاد العالمي. فأي محاولة لتحجيم الصين مثلا لابد أن يتم عبر إجراءات اقتصادية حيث أن الاقتصاد هو عصب السياسة الصينية الآن والركيزة الحاسمة للسيطرة المطلقة للحزب الشيوعي. ومن نافلة القول إن أي عرقلة للنمو الاقتصادي في الصين سيضر بمنظومة الاقتصاد الدولي بأكمله. وهنا تأتي المشكلة التي لم توفر الاستراتيجية لها أي حل.
هل من الممكن أن تؤثر الأدوات الأمريكية في مسار النظام الدولي؟
بالنظر إلى تحديات البيئة الاستراتيجية، فإن استراتيجية الأمن القومي حددت جملة من الركائز التي ستساعد الولايات المتحدة في الوصول إلى مبتغاها وتحقيق الهدفين الذين حددتهما الاستراتيجية. وقسمت الاستراتيجية هذه الركائز إلى قسمين:
.أولاً: ركائز داخلية مثل قاعدتي التصنيع والابتكار ونمط الحياة الأمريكي والنظام الديموقراطي للولايات المتحدة
.ثانياً: ركائز خارجية مثل الجهاز الدبلوماسي الأمريكي والمؤسسة العسكرية ومجتمع الاستخبارات وما إلى ذلك
لكنه ومع كفاءة أدوات الحكومة الأمريكية، فإن المطالب الأساسية في هذه الاستراتيجية ليست باليسير الوصول إليها. فليس من السهل مطلقا استدعاء حالة تاريخية مع تثبيت كافة العوامل والعناصر التي عاصرت تلك الحالة حتى عصرنا الحالي. فإذا ما سلمنا فرضا إمكانية محو الموجة الثانية من العولمة، فإن المنتفعين من هذه الحالة من الأنظمة السلطوية لن تسلم لذلك بسهولة ويجب أخذهم في الحسبان؛ علما بأن الأنظمة غير الديموقراطية (أوتوقراطية / أوتوقراطية إلى حد ما) في عالم اليوم يتجاوز 43% من دول العالم اليوم وفقا لمؤشر الديموقراطية.
إلا أن المشهد أشد تركيبا من ذلك، فالدول الديموقراطية نفسها تشهد موجة صعود لليمين المتطرف من داخلها قد تقضي على مكتسباتها التاريخية وتنذر بعودة سريعة لهذه الأنظمة إلى عصر الديكتاتوريات في القرن التاسع عشر وثلاثينات القرن العشرين؛ وهو ما لم يكن بعيدا أبدا في أي وقت من الأوقات. وهذه هي الورقة الحساسة التي يتلاعب بها السلطويون مع الولايات المتحدة سواءا كانوا من أصدقائها أو أعدائها. فطوال الوقت، تحاول هذه الحكومات استغلال ثغرات داخل القانون الأمريكي للتأثير على صناعة القرار الأمريكي داخل الكونجرس أو حتى البيت الأبيض أو إن أمكن التأثير في مجريات الانتخابات أو التصويت.
الأولويات الجغرافية لاستراتيجية الأمن القومي
انطلاقا من الموقع المتميز للولايات المتحدة داخل النظام الدولي منذ نشأته، فإن الأنظمة الإقليمية ودون الإقليمية عادة ما تتأثر بتغيرات الاستراتيجية الأمريكية. فالإقليم الذي يقع في أولوية الاستراتيجية الأمريكية عادة ما تنتابه تغيرات كثيرة على محمليه الإيجابي والسلبي؛ وهذا ما كان بديا للعيان في عقدي الثمانينات عندما كانت أمريكا اللاتينية أولوية وفي العقد الأول من الألفية الثالثة عندما كان الشرق الأوسط أولوية.
ناقشت الاستراتيجية القضايا محل الاهتمام في كافة الأقاليم وناقشت قضايا محورية في الأمن الدولي في مناطق الفقر التنموي في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكذلك أماكن التهديدات الجيوسياسية الكبرى في القطب الشمالي. لكن كان من اللافت للانتباه مناطق الالتحامات الكبرى في العصر الحالي: الإندوباسيفيك وأوروبا والشرق الأوسط.
فقد حددت الاستراتيجية منطقة الإندوباسيفيك أولوية أولى ومتقدمة وهو أمر منطقي بالنظر لاستراتيجيات الولايات المتحدة السابقة من عصر أوباما مرورا بترامب. ودعت الاستراتيجية إلى تقوية التحالفات الأمريكية في المنطقة مثل تحالف AUKUS وتحالف QUAD مع الاهتمام بمنصتي الآسيان ASEAN والأبيك APEC كمنصات للحوار حول القضايا ذات الاهتمام المشترك.
كما صنفت استراتيجية الأمن القومي العلاقات العابرة للأطلسي أولوية كبرى في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا والنظرة الأمريكية للأمن في أوروبا. وفي حين أن الاستراتيجية حددت أولوية تنشيط التعاون العابر للأطلسي عبر تقوية الاتصالات مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، إلا أنها لم تطرح تفاصيل حول كيفية حل الخلافات مع الاتحاد الأوروبي لاسيما حول عدم التوافق بين قادة الاتحاد والولايات المتحدة حول ملفات شديدة الأهمية مثل زيادة الميزانية العسكرية للدول الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي وكذلك الملف الإيراني والأمن المناخي والخلافات الدائرة بين الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي حول السياسات النقدية العالمية.
لاحقا، تحدثت الاستراتيجية عن الشرق الأوسط الذي ظل يعاني من توجهات ترتكن إلى سياسات عسكرية الطابع فشلت في النهاية في تحقيق نتائج مستدامة يمكن البناء عليها فيما بعد. وحددت الاستراتيجية أُطرا للتعامل الأمريكي مع منطقة الشرق الأوسط من بينها تعميق التعاون مع الدول التي لا تعارض قواعد النظام الدولي، وتأكيد أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع تهديد حرية الملاحة في المضائق والمعابر الاستراتيجية كمضيق هرمز وباب المندب. كما دعت إلى تقليل التوترات وخفض التصعيد وإنهاء النزاعات بالوسائل السلمية. لكن الاستراتيجية أغفلت تمام أزمات شرق أوسطية طاحنة كالأزمة السورية والحرب في اليمن والأزمة الليبية ومضت فقط في استعراض مواقف مبادئية وقيمية.
هل تتغير أهداف الاستراتيجية بتغير إدارة بايدن؟
للإجابة على هذا السؤال، تمت مقارنة أولويات إدارة بايدن المطروحة في هذه الاستراتيجية بأولويات إدارات سابقة جمهورية وديموقراطية وتم التوصل إلى أنه في معرض الحديث عن اسلاتراتيجيات، فإن ثمة تقارب كبير في الاستراتيجية الحالية مع استراتيجية إدارة ترامب 2018على الرغم من التنافر الكبير بين ترامب وبايدن ناهيك عن تمايز الانتماء الحزبي. كما أن التقارب في الخطوط العامة بين استراتيجية ترامب واستراتيجية أوباما 2015 يكاد يصل إلى حد التطابق.
كل هذا يوحي لنا بضرورة إيجاد آلية يعتد بها لتفسير الاستراتيجيات بعيدا عن كونها خيارات حزبية أو حتى شخصية مرتبطة بتوجهات إدارة معينة، فعلى سبيل المثال، كان الغرض الأساسي لاستراتيجية أوباما الأولى هو تثوير السياسة الخارجية بعيدا عن سياسات جورج بوش الذي ورط البلاد في حربين، لكنه على الرغم من ذلك، كانت استراتيجية إدارة بوش في 2006 أكثر تقدمية وأقرب للأجندة الديموقراطية – إن جاز التعبير – من استراتيجية أوباما.
كما هو واضح، فإن الموضوعات من بوش وحتى بايدن على مدار عشرين سنة لا تتغير تقريبا والأولويات الاستراتيجية من ثابتة مع بعض تغييرات على الأطراف وليس المتون. وإذا ما حاولنا الغوص أكثر في أعماق التاريخ سنجد أن استراتيجية كلينتون 1994 تتحدث كذلك عن موضوعات شبيهة بالمطروحة في استراتيجيات الرؤساء الأربع.
ما يغير في أهمية موضوع على الآخر هي فقط معطيات البيئة الاستراتيجية التي تتغير بين فينة وأخرى، لكن معظم الموضوعات المطروحة على طاولة تلك الوثائق متكررة في كل الاستراتيجيات؛ مع استثناء بعض الموضوعات المستجدة مثل تأمين الفضاء السيبراني الذي بدأنا نجده منذ استراتيجية الأمن القومي 2010 حتى اليوم.
هل تفلح الولايات المتحدة في تخطي “نقطة الانعطاف” في هذا “العقد الحاسم”؟
مع تدشين موجة العولمة الحديثة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينات من القرن الماضي، كان لابد من حصان أسود في رهان الولايات المتحدة لنجاح هذه الموجة التي أرادت بها تنميط العالم وتحديد هدف واحد يسعى الجميع نحوه وحوله: الحلم الأمريكي.
لكن هذه المحاولة الأمريكية أدت لنتائج عكسية غير مرغوب فيها. فقد أدت إلى انتقال جزء كبير من الثروة العالمية صوب آسيا وهذه الثروة تحتاج بطبيعة الحال إلى حماية وهو ما أجج الصراعات في آسيا على هذا النحو الذي نراه هذه الأيام.
إن محاولة إدارة بايدن الواضحة وفق استراتيجية الأمن القومي 2022 كشط الموجة الثانية من العولمة والعودة إلى الموجة الأولى حيث الواقع المثالي الذي تقل فيه الصراعات وتزيد فيه التنبؤات المتفائلة تكتنفها صعوبات كثيرة. قد يستطيع بايدن تجاوزها لكن تجاوزها على أي حال لن يمر بلا ثمن. فالولايات المتحدة مستعدة أن تدفع الكثير والكثير للحفاظ على قواعد النظام الدولي التي وضعتها منذ قرابة 80 عاما، وإذا سرت إرادة الحزبين وفق هذا المعنى فإن العالم قد ينتظره أيام صعبة في 2023 وربما 2024 كذلك.
وربما تكون هذه هي المحاولة الأمريكية لإعادة الاستقامة للنظام وكسر “نقطة الانعطاف” في هذا “العقد الحاسم”.