بقلم: أسامة رمضاني – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- يستعد الفرقاء السياسيون في تونس، كل من موقعه، لمواكبة الانتخابات التشريعية يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
أكثر من تطلعهم إلى نتائج الاقتراع ذاتها، ينظر معظم هؤلاء، من موالين للسلطة ومعارضين لها، إلى الاستحقاق كامتحان لشعبية الرئيس قيس سعيد ولسياساته من خلال نسبة المشاركة في الانتخابات.
بالنسبة إلى أنصار الرئيس، يمثل الاقتراع محطة رئيسية في مسار يهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد. وهم يأملون أن يمنح الإقبال على التصويت، إن حصل، تفويضاً شعبياً لهذا المشروع. أما معارضوه فيراهنون على ضعف نسبة المشاركة المحتملة للتدليل إلى تراجع المساندة التي يحظى بها سعيد بعد سنة ونصف سنة، منذ أن بادر في 25 تموز (يوليو) 2021 إلى تعليق عمل البرلمان وحل الحكومة، على أساس تأويله الفصل 80 من الدستور على أنه يبرر اللجوء إلى “التدابير الاستثنائية” في حال وجود “خطر داهم” يواجه البلاد.
منذئذ وضع سعيد أفكاره موضع التنفيذ، على أساس خريطة طريق تضمنت سن دستور جديد وتنظيم استفتاء شعبي حول هذا الدستور، والإعلان عن تنظيم انتخابات سابقة لأوانها.
انقسم الرأي العام وانقسمت النخبة السياسية إلى اتجاهات مختلفة. كان هناك شق يدعو إلى منح سعيد “فرصة لإصلاح الأوضاع” من أجل تجاوز الأزمات والإخلالات التي يرون أن النخبة السياسية التي حكمت البلاد منذ 2011 قد تسببت فيها. وفي المقابل، كان هناك شق ما انفك ينتقد أداء رئيس الجمهورية، ويعارض ما يرى أنه انفراد منه بالقرار وسعي إلى فرض تصوراته الشخصية من دون إشراك أي طرف من الأطراف السياسية أو النقابية الفاعلة.
واليوم تسعى الأحزاب السياسية المعارضة إلى تحويل احترازاتها بخصوص سياسات الرئيس إلى مقاطعة شعبية للاقتراع. وتأمل هذه الأحزاب استغلال انعدام الحماسة لدى شرائح واسعة من التونسيين تجاه الانتخابات وكل ما يمت بصلة للشأن العام. فهناك من يشبهون الأغلبية الصامتة في البلاد لم تنخرط إلى حد كبير في تجاذبات النخبة وصراعاتها، أو في التظاهرات التي تريد بها إشراك الشارع في احتجاجاتها. ولكنها في المقابل لا تبدي اهتماماً كافياً يؤشر إلى مشاركة واسعة في الانتخابات.
الكثيرون من هؤلاء استفزتهم ممارسات الطبقة السياسية التي حكمت البلاد قبل سعيد. ولكنهم لم يجدوا في أداء النخبة التي صعدت إلى سدة الحكم بعد تحمله معظم مقاليد السلطة بديلاً مقنعاً. ولم يجدوا في النتائج التي حققتها حكومته، ما يبرهن على اقتدار في معالجة الأزمة الاقتصادية ودرء تداعياتها الاجتماعية.
بغض النظر عن المواقف الحالية تجاه سعيد، فإن قرار المشاركة في الانتخابات من عدمه سيتأثر بميل التونسيين نحو الابتعاد من الحياة العامة، وهي ظاهرة تنامت تدريجياً في البلاد منذ 2011.
تجربة العشرية الأخيرة بعد إطاحة نظام بن علي، رسّخت انعدام ثقة المواطن العادي بالساسة والسياسة. زعزعت تلك التجربة أيضاً قناعات سابقة كانت قد تملّكت المواطن التونسي البسيط بأن بإمكانه تغيير أوضاعه وأوضاع البلاد، بمجرد الخروج إلى الشارع للتعبير عن رأيه. ضربت التجربة صدقية المسار الديموقراطي وما فيه من ترشح في الانتخابات والمشاركة في حملات المترشحين أو حتى مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
منسوب العزوف عن الشأن العام ينميه اليوم انشغال السواد الأعظم من الناخبين بالصعوبات المعيشية اليومية التي يواجهونها. لدى الكثيرين شعور بأن الانتخابات، أياً كانت نتائجها، لن توقف ارتفاع الأسعار ولن توفر الشغل أو المواد الأساسية المفقودة من السوق.
على هذه الخلفية حاول المترشحون للانتخابات التشريعية جذب اهتمام الناس إليهم، حتى وإن غابت الحماسة والتنافس الشديد بينهم. كما بقي الاهتمام الإعلامي بحملاتهم محدوداً.
وزادت تراتيب القانون الانتخابي الجديد الذي سنّه سعيد من وعورة المسالك التي يوفرها المسار الانتخابي للناخبين والمترشحين على حد سواء، بما انعكس سلباً على عدد الترشحات، وعلى فهم المواطن لمجريات المحطة الانتخابية وثقته بقدرتها على تحسين ظروف حياته.
الشروط الجديدة استثنت من الترشح الأفراد الذين يمارسون “أنشطة أخرى بمقابل أو بدون مقابل”، ما حرم الكثير من الكفاءات من الترشح حتى إن راودتهم الرغبة في ذلك.
إضافة إلى ذلك، وجد الكثيرون صعوبة في جمع الأربعمئة توقيع في دوائرهم الانتخابية التي يفرضها القانون الانتخابي، ما أدى إلى اضطراب عملية الترشحات، من ذلك وجود مرشح وحيد (بلا منافس) في عشر دوائر انتخابية في الداخل والخارج، وبقاء سبع دوائر في الخارج من دون مرشحين.
في نهاية المطاف، سيتسابق في الانتخابات 1055 مترشحاً، من بينهم 122 امرأة فقط على 161 مقعداً (مقارنة بـ1500 قائمة متعددة الأسماء ونسب أعلى للمرأة والشباب في انتخابات 2019).
العامل الأهم الذي ألقى بظلاله على الانتخابات هو غياب دور الأحزاب السياسية فيها. وأدى نظام التصويت على الأفراد (عوض نظام القائمات) الذي اعتمده القانون الانتخابي إلى تقليص دور الأحزاب، إن لم يكن إلى إنهائه تماماً. مهما كانت الهنات التي كانت تميز عمل الأحزاب وأساليبها، فإن تنافسها كان يشحن الاهتمام بالسباق الانتخابي.
أصبح الناخب مضطراً للإنصات إلى التخمينات التي توفرها المنصات الاجتماعية حول الانتماء السياسي لهذا المرشح أو ذاك، ليميز بين المرشحين. وساد الساحة كلام عن دور “الغواصات” الذي يلعبه بعض المرشحين بشكل غير معلن، كممثلين لأحزاب سياسية دون غيرها في الانتخابات.
مداخلات المرشحين في الإذاعة والتلفزيون كانت مركزة على القضايا المحلية البحتة، وكأن الانتخابات البلدية لا البرلمانية هي التي على الأبواب.
وغابت المداخلات التي تبحث في مصير البلاد وتقدم الحلول الممكنة لإخراجها من أزماتها، في انعكاس لما ينص عليه النص الدستوري من أن السياسات العامة وخياراتها تبقى بيد الرئيس، وإلى حد ما فقط بيد الحكومة التي يعيّنها.
ويصر منتقدو المسار الانتخابي الحالي على أن دور مجلس نواب الشعب المقبل سوف يكون محدوداً، إذ سوف يتقاسم “الوظيفة التشريعية”، كما يسميها الدستور، مع غرفة ثانية هي مجلس الجهات والأقاليم الذي لا تُعرف بعدُ ما هي مشمولاته ونوعية علاقته بمجلس نواب الشعب. إضافة إلى ذلك سيمارس مجلس نواب الشعب رقابة محدودة على الحكومة التي ستبقى مسؤولة فقط أمام رئيس الدولة.
عنصر آخر زاد من صعوبة الترشح والقيام بالحملات الانتخابية، وإن كان قد جنّب العملية الانتخابية الإنفاق النشط، هو إلغاء التمويل العمومي والاعتماد على التمويل الذاتي والخاص.
كذلك فإن توقيت الانتخابات والحملة السابقة لها لم يشكلا عاملاً مساعداً، باعتبار أن هذا الاستحقاق تزامن مع نهائيات كأس العالم التي استقطبت اهتمام التونسيين كثيراً. وهذا التزامن كان معروفاً مسبقاً، لكن سعيد كان مصراً على ربط موعد الاقتراع برمزية يوم 17 كانون الأول، تاريخ اندلاع شرارات الحركة الاحتجاجية التي أطاحت نظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
لا يتوقع معظم الملاحظين أن تشهد مكاتب الاقتراع ازدحاماً شديداً، وأكثر المواقف تفاؤلاً ومساندة للمسار الانتخابي لا تبتعد كثيراً من هذه التوقعات. من ذلك قول زعيم حزب سياسي مساند للرئيس سعيد إن الحملة الانتخابية تسير “سيراً عادياً”، مضيفاً أن نسبة المشاركة لن تختلف كثيراً عن تلك التي سجلت خلال الاستفتاء الأخير حول الدستور الجديد الذي كان قد عرضه الرئيس التونسي على الناخبين في تموز (يوليو) الماضي.
النتائج الرسمية بعد استفتاء تموز أظهرت أن نحو 94 في المئة من الناخبين صوّتوا بنعم لفائدة نص الدستور الجديد، ولكن نسبة المشاركة لم تتجاوز 28 في المئة.
من المتوقع أن تبقى المشاركة في الاقتراع البرلماني محصورة أساساً في الناخبين الذين يساندون مسار الرئيس. ولن يغير الاقتراع كثيراً من قدرة البلاد على معالجة جذور الأزمة بمختلف تجلياتها. وبالإضافة إلى استمرار التوترات السياسية في غياب أي حوار جوهري بين الأطراف الفاعلة، فإن من المتوقع أن تتواصل التجاذبات الاجتماعية، يفاقمها توجه اتحاد العمال نحو التصعيد مع الحكومة على خلفية تفاوضها مع صندوق النقد الدولي على إجراءات تقشفية يفرضها عجز الموازنة وترفضها العديد من الأطراف السياسية والنقابية.
في نهاية التحليل، لا يبدو أن الاقتراع بالأساس سيغير من حالة الاستقطاب ضمن النخبة السياسية، ولا في عدم حماسة عامة التونسيين للشأن العام.
والخشية في هذا الخضم هو أن يصبح الجلوس على الربوة العنصر المميز للحياة السياسية.