بقلم: بهاء محمود
الشرق اليوم– نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل سياسات، يتناول التحليل، التحول الجديد في السياسة الخارجية لألمانيا، والذي أعلن عنه المستشار الألماني أولف شولتس، في خطابه أمام المجلس التشريعي الاتحادي “البوندستاج” في 27 فبراير 2022. ويتطرق التحليل إلى أبعاد هذا التحول والانعكاسات الخارجية له لا سيما على منطقة الشرق الأوسط.
أدناه النص كما ورد في موقع المركز:
كتب المؤرخ الألماني “فريتز ستيرن” عن “الألمانيات الخمس” وهي ألمانيا فايمار، ألمانيا الرايخ الثالث، ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ألمانيا الشرقية، وأخيرا ألمانيا الموحدة بعد سقوط برلين، وتوفي ستيرن عام 2016 قبل عام من نهاية الدورة التشريعية الثالثة لحكومة ميركل. واليوم ثمة مقاربة ترى أن هناك ميلادا جديدا “لألمانيا السادسة”، بدءًا من خطاب المستشار الألماني شولتس في 27 فبراير 2022 أمام المجلس التشريعي الاتحادي (البوندستاج)، والذي أعلن فيه قرارات رئيسة تُعد بمثابة تخلي عن سياسات ميركل الخارجية وآلية إداراتها لعلاقات ألمانيا مع الدول الكبرى خاصة روسيا والولايات المتحدة. تنوعت مخرجات خطاب المستشار الألماني ما بين قرارات سوف تؤثر على الجيش الألماني، أمن الطاقة، الموقف من الأزمة الأوكرانية، وتغير في قراءة ألمانيا لسياستها الخارجية. ومن هنا تهدف الورقة لبحث مصطلح “ألمانيا السادسة”.
يأتي التحول “Zeitenwende”، كنهج جديد لإدارة ألمانيا علاقاتها الدولية، والذي يمثل انطلاقة جديدة تختلف عن تلك المتبعة منذ سقوط جدار برلين والتحالفات الحاكمة حتى رحيل ميركل، وكذلك ما سوف تُسفر عنه تلك التوجهات من مكانة ألمانيا أوروبياً وعالمياً.
ميلاد ألمانيا الجديدة و “Zeitenwende”
رسمت وثيقة التحالف الألماني المكون من أحزاب (الاشتراكيون – الخضر – الليبراليين) في 25 نوفمبر 2021 مقاربة تبدو وسيطة بين الاعتراف بأهمية روسيا وضرورة العلاقات معها، وبين معارضة ضم القرم غير القانوني ورغبة ألمانيا في التوصل لحل سلمي والعودة لاتفاقيات مينسك التي سعت لإيجاد حل سياسي بين الجيش الأوكراني والانفصاليين شرق أوكرانيا. وحتى 24 فبراير 2022 عولت الحكومة الألمانية على تفعيل النهج الدبلوماسي لحل الأزمة بين أوكرانيا وروسيا. لكن بعد ثلاث أيام فقط من بدء روسيا عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني “أولف شولتس” أمام البوندستاج عن عددٍ من القرارات الجديدة، التي لا تتعلق بتحول موقف ألمانيا تجاه روسيا والحرب فحسب، بل مثلت تغيرًا في توجه ألمانيا خارجيا، ومن هنا ظهر مصطلح “Zeitenwende” والذي يعني نقطة التحول، على اعتبار أن هذه الحظة التاريخية الفاصلة تحمل تحولاً جوهرياً لألمانيا، وهو ما برر تسمية وظهور مصطلح ألمانيا السادسة أيضا في مجلة Foreign Policy، وبدت أولى مظاهر التحولات الألمانية كما يلي:
- 1- تجميد مشروع نورد ستريم 2، الخاص بنقل الغاز الروسي لألمانيا.
- الموافقة على عزل البنوك الروسية من نظام سويفت.
- إنشاء صندوق للاستثمارات الدفاعية بقيمة 100 مليار يورو.
- رفع الحد الأدنى من الإنفاق العسكري الألماني بما يتجاوز نسبة الـ 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
- السعي لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وبناء محطات للغاز المسال.
يمكن النظر للقرارات السابقة كبداية للتخلي عن سياسات ميركل في إدارتها للعلاقات الخارجية، والتي حافظت على نوع من التوازن بين الشرق والغرب، والبعد تماما عن إرث ألمانيا العسكري إبان الحقبة النازية، ولعل خفض الإنفاق العسكري طوال السنوات الماضية والاعتماد على مقاربة التنمية الاقتصادية، قد حافظ على مكانة ألمانيا كقطب اقتصادي، لكنه جلب لها عددا من القضايا الخلافية مع شركائها الغربيين سواء الولايات المتحدة أو بعض الدول الأوروبية خاصة بولندا. وللحكم على مسألة ميلاد ألمانيا الجديدة أو ألمانيا السادسة، يجب النظر في بعدين:
البعد الأول: متعلق بطبيعة الأسباب التي دفعت الحكومة الألمانية لتغيير نهج ميركل وحقبتها والتي كان الاشتراكيون-شركاء- معها في ثلاث دورات انتخابية سابقة (حكومات 2005- 2013 -2017)، وأهم هذه الأسباب ما يلي:
- استمرار الضغوط الغربية على الحكومة الألمانية لتغير موقفها تجاه روسيا، خاصة بعد تقديم إدارة بايدن دعما لألمانيا، وألغت العقوبات التي فرضها ترامب على مشروع نورد ستريم 2، ورهن الديمقراطيون فرض عقوبات على جديدة على روسيا بالهجوم الفعلي على أوكرانيا، وذلك بما يخدم المصالح الألمانية، وبالتالي بعد 24 فبراير لم يعد هناك مبرر لاستمرار دعم إدارة بايدن لمشروع نورد ستريم 2 أو عدم تفعيل عزل روسيا عن نظام سويفت، مما يعني أن ألمانيا كانت ستبقى بمفردها أمام وحدة موقف الغرب تجاه روسيا.
- أزمة القيادة الأوروبية: عقب رحيل ميركل حصرت الكتابات الغربية المنافسة على تولي زعامة أوروبا بعد المستشارة الألمانية السابقة -ميركل – في ثلاث شخصيات رئيسة، الأولى: الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” والذي واجه صعوبات وأزمات داخلية وخارجية طوال فترة رئاسته الأولى، ثم خسر في مستهل فترته الرئاسية الثانية الأغلبية المطلقة في مجلس النواب الفرنسي مما قيد من سلطاته، ولم يصل طوال السنوات الماضية لمشروع توافقي -مع ألمانيا- لإصلاح الاتحاد الأوروبي. أما الشخصية الثانية فهي رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراجي، الذي صعد للسلطة بدون ظهير حزبي، ولم يكمل عاما كرئيسا للوزراء حتى حُلّت حكومته وجاء اليمين المتطرف بدلا منه وخرج من المنافسة. ويأتي المستشار الألماني “أولف شولتز” بوصفه الشخصية الثالثة، والذي احتاج لبعض المقومات التي تدعم فرصه كزعيم جديد لأوروبا، من أهم تلك المقومات التخلص من الانتقاد الدائم لألمانيا بأنها تفضل مصالحها على حساب الاتحاد الأوروبي، كذلك القدرة على إيجاد مشروع توافقي مع أغلب قيادات الدول الأوروبية ويلزم ذلك التقارب مع دول بدت غير راضية عن طبيعة علاقات ألمانيا و روسيا، ومن أهم تلك الدول بولندا ولايتوانيا. من هنا كانت الحرب الأوكرانية فرصة جيدة لشولتس لاكتساب مساحة تؤهله للقيادة، لا سيما وأن ألمانيا بزيادة إنفاقها العسكري سوف تدعم القوة العسكرية الأوروبية التي خسرت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
البعد الثاني: يتعلق بنوعية القرارات التي اتخذت منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية، فهل كانت موجهة في مسار واحد أم أنها راعت علاج الخلل في سياسات ميركل السابقة؟
يمكن الإجابة على هذا التساؤل عبر نظرة أولية تصنف القرارات الألمانية على اعتبار أنها متدرجة في المدى البعيد والقريب، فتحديث جيش لن يتم في شهور قليلة، بل يحتاج سنوات من الإنفاق والتدريب. خاصة وأن استمرار معدل التضخم في ألمانيا عند 7.5% أو أكثر يعرض الإنفاق العسكري المعلن للخطر فمن جانب الاستثمار في الصندوق الخاص يلزمه تمويلا يتعارض مع هدف كبح الديون المنصوص عليه في وثيقة التحالف والتي من المفترض أن الحزب الديمقراطي الحر “الليبرالي” الشريك في الحكومة، كان قد وعد ناخبيه بالحفاظ على كبح الديون بداية من عام 2023.
ومن جانب أخر، فأن نسبة الإنفاق العسكري المطلوبة والتى تصل لـ 2% من الناتج القومي لن تحقق العام الجاري ولا القادم بل عبر متوسط يصل لخمس سنوات، مما يعني أن زيادة الإنفاق العسكري الألماني للحد الذي ترغب به الولايات المتحدة وحلف الناتو قد لايتحقق قبل 2027، مع وجود صعوبات في استثمارات الصندوق الخاص بالدفاع المحدد له بـ 100 مليار يورو ، والتى تصطدم أيضا بمخاطر التضخم وتكاليف التشغيل خاصة وأن بند الأجور فقط يستحوذ على 50% من الإنفاق العسكري المنصوص عليه في ميزانية الدفاع الفيدرالية.
وبذلك سوف تعزز ألمانيا مكانتها بين حلفائها، استنادا على عدم تفضيلها مصالحها الآنية على حساب وحدة الموقف الغربي ضد روسيا، كما أنها راعت عدم غلق كل الأبواب في وجه روسيا، فلم تقبل حظر استيراد الغاز الروسي حاليا، بل تسعى لتقليل الاعتماد عليه وتوفير بدائل جديدة، مع الاستمرار في النهج الدبلوماسي، مما يعني أن هناك مساحة استقلالية للقرار الألماني، وبالتالي يمكن القول إن يوم 27 فبراير بمثابة انتهاء حقبة ميركل وسياساتها وبداية لميلاد ألمانيا الجديدة.
انعكاسات خارجية
تمثل العلاقات الألمانية مع (روسيا -الصين -الولايات المتحدة) حجر الزاوية لألمانيا على المستويات الاقتصادية، والعسكرية، وأمن الطاقة، حيث إن الصين الشريك التجاري الأول لألمانيا، وتستورد النسبة الأكبر من النفط والغاز من روسيا، فيما يتواجد حوالي 52 ألف جندي أمريكي داخل قواعد عسكرية بألمانيا.
مرت العلاقات الألمانية الأمريكية بتوتر في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ثم بدأت في التحسن عقب مجيء جو بايدن، والذي حمل أجندة تحسين العلاقات مع دول حلف الناتو ومنها ألمانيا، ومع ذلك كانت لدى إدارة بايدن تحفظات على الائتلاف الحاكم في ألمانيا عقب توليه، برزت في مسائل العلاقات مع روسيا والصين، وزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 2% وفقا لما تم الاتفاق عليه في قمة الناتو بويلز عام 2014. لكن أدت الأزمة الأوكرانية، والموقف الألماني منها؛ بالموافقة على تصدير الأسلحة لأوكرانيا، وتعليق نورد ستريم 2 وبقية القرارات إلى ظهور انعكاسات سوف تؤثر على طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا من جانب، كما أنها تفرض أيضا نهجا مغايرا للعلاقات مع الصين ذلك الركن الثالث في التحول المطلوب طبقا لـ “Zeitenwende” من جانب آخر ويمكن بحث ذلك كما يلي:
أولاً: انتهاء سياسة “أوست بوليتيك –OstPoltik“
حكمت العلاقات الألمانية الروسية منذ فترة حكم المستشار “ويلي براندت” سياسة “أوست بولتيك”، والتي تم صياغتها بهدف تقريب الاتحاد السوفيتي من أوروبا، وظلت ألمانيا الجسر الذي يربط بين الغرب والشرق. وتستدعي انتهاء سياسة أوست بوليتك فقدان روسيا الحليف الأهم لها وهي ألمانيا، والتي طالما رأت ضرورة دمج روسيا أوروبيا عبر التعاون الاقتصادي خاصة في مجال الطاقة.
ثانياً: إرث الحروب العالمية
ورث الساسة الألمان تحفظا تاريخيا تجاه روسيا، على خلفية ضحايا الحربين الأولى والثانية، والتي تخطت ضحاياها أكثر من 20 مليون مواطن من روسيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفيتى، ولعل هذا الإرث كان سببا من ضمن أسباب أخرى في رفض تصدير ألمانيا أسلحة دفاعية لأوكرانيا لمواجهة روسيا. ومع موافقة الحكومة الألمانية على مد أوكرانيا بأسلحة مضادة للدبابات وصواريخ ستينجر، فإنها بدأت التخلص التدريجي من عقدة الذنب تجاه روسيا، مع الأخذ في الاعتبار أن ألمانيا مازالت مترددة في إرسال نوعية الأسلحة المطلوبة في أوكرانيا سواء كقيمة مالية أو فنية، تحت حجج مختلفة ما بين تأخير دخول بعضها لعدة شهور، أو خروج بعضها من القوائم المتفق عليها، أو حتى إرسالها بدون ذخيرة، فضلا عن كون الأسلحة الغربية بصفة عامة تعزز من القدرات الدفاعية الأوكرانية وليس الهجومية، لاسيما من نوعية الأسلحة الألمانية التالية (15 دبابة مضادة للطائرات – ثلاث قاذفات صواريخ – مضادات للدبابات المحمولة – مدافع هاوتزر). وفي المجمل تعد المقارنة بين حجم ما أرسلته ألمانيا كأكبر اقتصاد في أوروبا أقل كثيرا من مما أرسلته غيرها مثل دول البلطيق.
ثالثاً: دعم أوروبا الشرقية
حمل خطاب المستشار الألماني أمام البوندستاج في 27 فبراير الماضي، مؤشرات إيجابية تجاه دول (أرمينيا– جورجيا – مولدوفا –أوكرانيا) في ضوء رغبة هؤلاء الانضمام للاتحاد الأوروبي –خاصة أوكرانيا– بما يعزز بناء ألمانيا منظورا جديدا تجاه تلك الدول يختلف عن الرؤية الروسية، وينتج عن ذلك مسارين، الأول: تضييق الخناق على روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، والثاني: التقارب مع دول البلطيق وبولندا، وخاصة الأخيرة التي طالما عارضت مشروع نورد ستريم 2، بحجة أنه سوف يزيد من اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، وإن كان الأرجح أن موقف بولندا مبني على حرمانها من رسوم العبور التي كان يفترض أن تجنيها لو مر خط أنابيب نورد ستريم 2 داخل أراضيها، مثل خط الغاز “يامال –أوروبا ” الذي يبدأ من روسيا ثم بيلا روسيا ومنها إلي بولندا ثم ألمانيا.
رابعاً: تحرر قطاع الطاقة
تستورد ألمانيا حوالي 55% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، وهو ما يدعم الاقتصاد الروسي الذي يعتمد بصورة كبيرة على مبيعات الغاز. وتخطط الحكومة الألمانية إتباع ثلاثة مسارات من شأنها تقليل الاعتماد على الغاز الروسي وربما الاستغناء عنه مستقبلا، وتتمثل هذه المسارات في دعم التحول نحو الطاقة الخضراء، بناء محطات غاز مسال لاستيراده من الدول الكبرى المصدرة مثل (الولايات المتحدة- الإمارات العربية المتحدة–قطر- الجزائر- إيران) . فيما يدعم المسار الثالث إبقاء ألمانيا على بعض المحطات النووية كبديل لتوليد الطاقة وهو ما ظهر في الإعلان عن تأجيل إغلاق محطتين نوويتين كان المفترض أن تغلقا بنهاية 2022، ليستمرا في العمل حتى أبريل 2023. هذه المسارات من شأنها أن تحرر قطاع الطاقة الألماني من الاعتماد على روسيا تدريجيا.
خامساً: دعم مكاسب الولايات المتحدة
في مقابل الأضرار التي تتعرض لها روسيا بسبب توجهات ألمانيا الجديدة سوف تزيد مكاسب الولايات المتحدة، فقد تحققت مطالبها بزيادة ألمانيا لإنفاقها العسكري، ما يعني بالضرورة الحصول على صفقات تسليح متطورة وليس هناك أفضل من الولايات المتحدة لتكن المورد الرئيسي لألمانيا في سعيها لتحديث جيشها. وهو ما ظهر في الإعلان عن شراء ألمانيا طائرات (F-35A) من الولايات المتحدة للوفاء بالتزاماتها تجاه حلف الناتو وكنوع من الاستثمار في صندوقها الدفاعي الجديد.
وثُم تحققت مطالبها بتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، والذي يساهم في زيادة إنتاج الولايات المتحدة للغاز المسال ومن ثَم زيادة مبيعاته لدول أوروبا وفي مقدمتها ألمانيا، وهو ما تم ترجمته في إعلان الولايات المتحدة نيتها في زيادة كميات الغاز المسال لأوروبا بمقدار 15 مليار متر مكعب خلال عام 2022، على أن يصل حجم المخطط له سنويا حوالي 50 مليار متر مكعب بداية من عام 2030.
سادساً: النهج المغاير تجاه الصين
على الرغم من أن “Zeitenwende” تتطلب التخلص الثلاثي من اعتماد ألمانيا على الطاقة من روسيا، والامن من الولايات المتحدة، والتجارة من الصين، إلا أن شولتس بدأ نهجاً مغايراً تجاه الصين، بداية من سماح الحكومة الألمانية لشركة الشحن الصينية كوسكو في 26 أكتوبر 2022 بشراء حوالي 24.99% من أهم ميناء في هامبورج، مما يزيد من توسع الصين لامتلاك مقدرات اقتصادية في ألمانيا بخلاف الشكوى السابقة من سعيها للتفرد بالتكنولوجيا الألمانية. ثم عقب تلك الصفقة زيارة المستشار الألماني للصين في 4 نوفمبر 2022، ولم تلقى خطوات شولتس دعما لا من شريكه حزب الخضر أو من اليمين المحافظ. وإن بدت هناك تفسيرات لموقف شولتس أولها أن التجارة مع الصين والاستثمار معها ضروري بعد أزمتي كوفيد-19 والأزمة الأوكرانية، وما عقبهما من تباطؤ في الاقتصاد الألماني القائم على الصناعة وتصدير فائض الإنتاج، وتبرز أهمية الصين في كونها أكبر سوق عالمي وموقع استراتيجي في سلاسل التوريد وتمتلك على أراضيها العديد من فروع المصانع الغربية. بالإضافة إلى أن حجم التبادل التجاري بين ألمانيا والصين كبير للغاية، حيث تمثل الصين حوالي 12.4% من الواردات الألمانية وتستحوذ على 7.4% من صادراتها مما يجعلها الشريك التجاري الأول لألمانيا. كما أن زيادة الإنفاق العسكري لألمانيا يتطلب استثمارات ضخمة ومستدامة وهو ما يجعل الاستثمار والتجارة مع الصين أمرا حيويا.
تأثيرات أمنية ودفاعية
لخص المستشار الألماني “أولف شولتس” حال جيش بلاده قائلا “قوة عسكرية من الجنود مجهزة ببنادق غير مناسبة، طائرات لا تستطيع الطيران، وسفن لا تستطيع الإبحار”، وليس هذا فقط، بل إن قائد الجيش الألماني الفونس ميس، أضاف ما يؤكد وضع الجيش الألماني السيء من خلال تصريحه على موقع التواصل الاجتماعي “لينكد إن” قائلا: “في السنة الحادية والأربعين من خدمتي العسكرية، وفي وقت السلم لم أكن أفكر في أنني سأضطر إلى اختبار حرب، والجيش الألماني الذي أتشرف بقيادته خالي الوفاض إلى حد ما. الخيارات التي يمكننا تقديمها للحكومة لدعم الناتو محدودة جدا”. وفضلا عما سبق، إن “القوة العسكرية الحالية للجيش الألماني فقط 200 ألف جندي من أصل 500 ألف كانت قبل إعادة توحيد ألمانيا”؛ لذا كان مبررا عدم انخراط القوات الألمانية في مهام عسكرية كثيرة والاكتفاء بالقوات الأمريكية وحلف الناتو لحماية أمن ألمانيا.
ومن واقع طبيعة الجيش الألماني فإن البعد العسكري في السياسة الخارجية لألمانيا بدا منحصرا في صفقات التسليح، لاسيما وأن ألمانيا تأتي كرابع أكبر مصدر للأسلحة ما بين عامي 2017 وحتى 2021 بنسبة 4.5% من إجمالي صادرات السلاح في العالم. وفي المجمل صدرت ألمانيا أسلحة لحوالي 55 دولة. وبالتبعية ينعكس تحديث الجيش الألماني وإعادة تسليحه على عدد من النقاط التي تصب في مكانة القوة العسكرية الألمانية وعلى دورها إقليميا ودوليا كما يلي:
أولاً: الواقعية والقوة
ظهرت في الآونة الأخيرة تزامنا مع الأزمة الأوكرانية، تحليلات غربية اهتمت بتفسير العمليات العسكرية في ضوء أدبيات العلاقات الدولية، وسلكت اتجاهين، الأول: ما كتبه “فرانسيس فوكوياما”، حول حرب بوتين ضد النظام الليبرالي، والذي فسر الحرب بكونها حربا على قيم الديمقراطية الغربية والنظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، والثاني: ما نشره “ستيفن والت”، و”جون ميرشايمر”، وهما من أنصار المدرسة الواقعية، والتي ترى أن القوة هي المحرك الرئيسي للعلاقات الدولية، وأن الدول تستخدم القوة العسكرية لحماية أمنها القومي خوفا من تهديد محتمل، وأن العالم فوضوي، ولا اعتبارية لمؤسسات مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة، وبإسقاط ذلك على الأزمة الأوكرانية فإن روسيا لجأت للحرب حماية لأمنها القومي من تهديد حلف الناتو على حدودها، وعلى نفس المقياس فإن ألمانيا أكبر قوة اقتصادية أوروبية، لا تمتلك قوة عسكرية تحمي أمنها، ومن ثَم فإن الأزمة الأوكرانية وإن كانت بعيدة جغرافيا عن حدود ألمانيا، لكنها مهددة لأمن الدول الأوروبية ومنها ألمانيا؛ لذا فإن قرار تحديث الجيش الألماني وإعادة بنائه هو أقرب لتكملة معادلة القوى (العسكرية + الاقتصادية)، والتي تعد بمثابة التفسير النظري لتحرك ألمانيا، فمسألة القيم الليبرالية والديمقراطية التي يروج لها أنصار المدرسة الليبرالية كتفسير للعلاقات الدولية، لم تعد مناسبة لألمانيا ولم تمنع الأزمة الأوكرانية؛ لذا فالواقعية هي الأفضل لنهج ألمانيا العسكري الجديد.
ثانياً: الاستقلال الدفاعي
تعتمد أوروبا بشكل رئيسي في أمنها على القوات الأمريكية وقواعدها العسكرية المتواجدة في عدد من الدول الأوروبية ومنها ألمانيا، ولطالما توترت العلاقات الأوروبية الأمريكية في فترة تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة، على خلفية تهديده بتقليص القوات الأمريكية من ألمانيا، ومطالبة الأخيرة بتحمل أعباء الدفاع عنها ورفع إنفاقها العسكري، الأمر الذي قابله مطالب الرئيس الفرنسي بإنشاء جيش أوروبي موحد. وفي غضون ذلك لم تر حكومة ميركل ضرورة زيادة الإنفاق العسكري، فيما لم يكن هناك توافق على المقترح الفرنسي خاصة من دول البلطيق التي تفضل الاعتماد على الولايات المتحدة في أمنها، بدلا من جيش أوروبي تقوده فرنسا وألمانيا. كما مثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وآليته مهددا أمنيا لأوروبا؛ لذا يعد تحديث الجيش الألماني والذي يحتاج لعدة سنوات من التدريب والإنفاق العسكري كي يصبح قوة عسكرية لها مكانتها على المدى البعيد بمثابة خطوة نحو الاستقلال الدفاعي الأوروبي، كون القيمة المخصصة من قبل ألمانيا للاستثمارات الدفاعية سوف تجعلها ثالث أعلى دولة في العالم من حيث الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين، مما يجعلها مستقبلا القوة العسكرية الأهم أوروبياً.
ثالثاً: تعزيز الناتو
تنصب زيادة قوة ألمانيا عسكريا لصالح تقوية حلف الناتو، وتعزيز مهامه الخارجية وحماية أراضيه وتنوع من مساحات التحرك، خاصة في وجود قوى فرنسا التي ربما ترغب في الانخراط أكثر في حلف الناتو مع وجود جديد لألمانيا. ولذا تعهدت الحكومة الألمانية بتعزيز مساهمتها في الدفاع الجماعي للناتو عبر ترقية كتيبتها في لايتوانيا إلي لواء، مع إضافة دبابات وقوات تقدر بـ 15 ألف جندى، و65 طائرة و20 سفينة حربية.
رابعاً: المهام العسكرية
لا تملك ألمانيا مهام عسكرية كبيرة في الخارج، فلطالما كانت ترفض الانخراط العسكري في الصراعات المختلفة، وتتواجد فقط في المهام التي يوافق عليها البوندستاج تحت رعاية الأمم المتحدة، بعض المهام تم مد أجلها العام الحالي مثل القوات الموجودة في العراق، وبعضها توقف عمله مثل سوريا، ويعد الفيصل في المهام العسكرية للقوات الألمانية متوقف على بعدين رئيسيين، الأول: متعلق بطبيعة المصالح الألمانية في الخارج وحدود الدور العسكري في السياسة الخارجية في ضوء مكانة القوات الألمانية مستقبلا، والثاني: متعلق بنجاح مهام القوات ذاتها خاصة في مناطق أزمات وصراعات عانت منها القوات الألمانية، مثل: تواجدها في منطقة الساحل وبالتحديد مالي، والتي أعلنت ألمانيا في 16 نوفمبر أنها سوف تنهي مهامها بنهاية العام.
الانعكاسات على الشرق الأوسط
تحتل منطقة الشرق الأوسط مكانة هامة في صفقات التسليح الألماني، فقد حلت كثاني أكبر متلقي للأسلحة الألمانية بنسبة 23% خلال الفترة من عام 2016 وحتى عام 2020، بحسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، فدولتي مصر والجزائر فقط تمتلكان حوالي 19 % من نسبة مبيعات ألمانيا في المنطقة. أما على مستوى الخليج لا تعد ألمانيا المورد الرئيسي لها، خاصة أن الموردين الرئيسيين للملكة العربية السعودية هم (الولايات المتحدة –بريطانيا –فرنسا) على الترتيب، فيما تعد دول (الولايات المتحدة –فرنسا –روسيا) بنفس الترتيب هم الدول الرئيسة المصدرة لدولة الإمارات خلال الفترة من عامي 2016 وحتى 2020.
حيث فرضت ألمانيا قيودا تصديرية على بعض الدول العربية، على خلفية تقارير متعلقة بحقوق الإنسان وانخراط بعض الدول في الصراعات العسكرية في المنطقة، وتعللت ألمانيا بأنها قيدت التصدير تماشيا مع قانونها الأساسي الذي يحظر تصدير أسلحة لمناطق النزاعات، على الرغم أنها وطبقا لتقرير نشره موقع “دويتشه فيله” منسوب لوزارة الاقتصاد الألماني، فإن ألمانيا صدرت أسلحة لدول منخرطة في الصراع الليبي بما قيمته 330 مليون يورو، في الفترة التي تلت مؤتمر برلين في يناير 2020 وحتى شهر مايو من نفس العام، أي أنها لديها سياسة متناقضة فيما يخص مناطق النزاعات. وعلى مستوى مشتقات الطاقة، لا تعتمد ألمانيا في سد احتياجاتها على دول الخليج والمنطقة العربية بشكل مؤثر، حيث أنها تعتمد على دول روسيا بنسبة 56 %، والنرويج وهولندا بنسبة 43.3%.
مما سبق فإن الانعكاسات الأولية لسياسة ألمانيا الجديدة على الشرق الأوسط والخليج تبرز كما يلي:
أولاً: تحتاج ألمانيا التحرر من تبعية الطاقة الروسية، ولا تستطيع هولندا والنرويج تعويض نسبة روسيا من إمدادات الغاز لأنهما تنتجان أقصى ما لديهم، مع العلم أنه خلال الأزمة الأوكرانية انخفضت نسبة روسيا من سوق الغاز الألماني إلى حوالي 30%، نتيجة لتقليل الإمدادات الروسية، وتكثيف الإمدادات النرويجية التي غطت حوالي ثلث الاحتياجات الألمانية. ومن شأن بناء محطات غاز مسال جديدة في ألمانيا أن يساهم في تعزيز قدرة المنطقة العربية التي تملك احتياطات غاز مسال، خاصة دولة قطر والتي تصدرت عام 2021 قائمة الدول الموردة للغاز بما يعادل 22% من تجارة الغاز المسال عالميا. وساهمت الأزمة الأوكرانية في التوجه الغربي نحو قطر كي تكون أحد البدائل المحتملة حال أوقفت روسيا إمدادات الغاز عن أوروبا. وعلى مستوى الغاز الطبيعي غير المسال، يمكن لألمانيا التفكير في مشروعات نقل الغاز الطبيعي المتوقفة مثل خط أنابيب “إيست ميد”، كذلك خط الغاز المغربي النيجيري، وخط الغاز بين الجزائر وإسبانيا والذي يمر بالمغرب. كما أن ألمانيا سعت لاستثمار في مشروعات الهيدروجين الأخضر لاسيما مع دول مصر والخليج أيضا. فضلا عن ما سبق أبرمت الحكومة الألمانية في 25 سبتمبر 2022 شراكة موسعة مع دولة الإمارات بموجبها تصدر الأخيرة شحنات غاز مسال إلي ألمانيا تسلم نهاية عام 2022 في سياق التشغيل التجريبي لمحطة الغاز العائمة في مدينة برونسيوتل الألمانية.
ثانياً: يحتمل أن تغير ألمانيا سياستها المتعلقة بتقييد صادرات الأسلحة إلى المنطقة العربية، خاصة وأن ورقة الغاز عامل ضغط يدفعها للتحلي بالمرونة النسبية، وبالتالي يمكن أن تزيد حصة المنطقة العربية من ورادات السلاح الألماني، خاصة وأن الموازنة الألمانية سوف تحتاج لتعويض الإنفاق العسكري على الجيش الألماني.
وفي الختام؛ رغم الأهداف المعلنة حول ميلاد ألمانيا السادسة ونقطة التحول “Zeitenwende” والتي تستدعي تحررا ثلاثيا من روسيا والصين والولايات المتحدة في مجالات الطاقة والأمن والتجارة، إلا أن سياق التوجه نحو الصين مؤخرا وعدم وجود بدائل كافية حتى الآن من الغاز، والتردد في دعم أوكرانيا عسكريا، فضلا عن سياق صعوبة توفير الموارد المالية اللازمة لتحديث الجيش الألماني والالتزام بمعدل إنفاق 2% من الناتج المحلي، كلها عوامل تبرهن على ألمانيا السادسة لم تولد بعد وإن كانت هناك بعض الإرهاصات الأولية، وأن نقطة التحول الحقيقية لم تأت بعد، وإن كان تغير توجهات ألمانيا وسياساتها الخارجية من شأنه أن يعيد توازن القوى في المنطقة الأوروبية كما يعد فرصة جيدة لإعادة صياغة العلاقات العربية الألمانية بما يحقق مكاسب للطرفين. حال استطاعت ألمانيا المضي حقا للإمام.