بقلم: بن مانستر
الشرق اليوم- تعكس القوانين الجديدة في إيطاليا التوازن الشائك الذي تحاول حكومة جورجيا ميلوني إقامته للتوفيق بين هدفَين متضاربَين، فمن جهة يجب أن تتخذ الحكومة خطوات لها شعبية بين الناس عبر تحقيق انتصارات دعائية في الحرب الثقافية القائمة، من خلال استهداف المهاجرين ورواد الحفلات الشباب مثلاً، ومن جهة أخرى، يجب أن تحافظ الحكومة على دعم الرأي العام الدولي، فقد حاولت ميلوني في المرحلة الأولى أن تضع حلفاءها المعروفين بتطرّفهم على هامش الحكومة، تزامناً مع تعيين مسؤولين معتدلين ظاهرياً في الوزارات الأساسية كي يتمسكوا بخطط الحكومة في السياسات الضريبية وملف أوكرانيا، لكن يبقى هذا النهج مجرّد وهم، إذ تنتمي جميع الشخصيات المنتقاة تقريباً إلى اليمين المتطرف.
يطغى التطرف على شخصيات “رفيعة المستوى” اختارتها ميلوني في الوزارات التي تحمل أكبر أهمية سياسية، وهي تأمل بهذه الطريقة الحفاظ على ولاء المؤسسات الحاكمة، ويبذل وزير المال الجديد، جيانكارلو جيورجيتي، جهوداً كبرى حتى الآن لتهدئة الأسواق عبر طرح ميزانية مبنية على إنفاق محدود منعاً لزيادة مستوى العجز ومواجهة انهيار مالي على طريقة بريطانيا، وقد وقع الاختيار على جيورجيتي بعدما رفض محافظان ميسوران للبنك المركزي هذا المنصب، وهو لا يُعد وسطياً مع أنه شارك في حكومة ماريو دراغي السابقة، وكان جيورجيتي من أبرز داعمي حزب “الرابطة” منذ أن كان هذا الحزب مجرّد حركة انفصالية شمالية تؤمن بأساطير وثنية غريبة، كما أنه دعم النظام السياسي الرئاسي الذي تفضّله ميلوني، بما يشبه السلطة التي يملكها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
مقارنةً بأجزاء أخرى من الإدارة الجديدة، تبدو مجموعة مبهمة من الشخصيات منضبطة على نحو إيجابي، لكن جلبت ميلوني أيضاً عدداً من المتشددين اليمينيين المرعبين، وهم ينبثقون على الأرجح من قاع المعسكرات السياسية المحلية، بالإضافة إلى مجموعة سطحية من الشخصيات الآتية من عهد سيلفيو برلسكوني والغارقة في فضائح مالية ومصالح متضاربة، تشمل الإدارة الجديدة شخصيات تَحِنّ إلى الحقبة الفاشية وترتبط بمعسكرات شبابية تنتمي إلى اليمين المتطرف، منهم أبناء ملازِمين سابقين من عهد موسوليني، ومقاتلين شاركوا في حملات عنيفة ضد اليساريين طوال عقدَين من الزمن، خلال “سنوات الرصاص” الدموية في إيطاليا.
لطالما كان السياسيون المنتمون إلى اليمين المتطرف موجودين في السياسة الإيطالية، ولو في مناصب أقل أهمية، لكن بدل قمع تلك الشخصيات، شملت حكومة ماريو دراغي السابقة أسماء مثل فانيا غافا وفرانشيسكو باولو سيستو، وهما اثنان من صغار الوزراء الجدد المرتبطين بحزب “الرابطة” وسيلفيو برلسكوني على التوالي.
قد يكون وزير الصحة، أوراسيو شيلاتشي، استثناءً نادراً في التشكيلة الجديدة، فهو أستاذ متواضع من جامعة “روما تور فيرغاتا”، وكان جزءاً من لجان صحية متنوعة ولجان فرعية أخرى خلال أزمة كورونا، ويُعد شيلاتشي خياراً مثيراً للاهتمام: يبدو أن ميلوني، التي كانت تنتقد المقاربة “الأيديولوجية” التي تبنّتها الحكومة السابقة للتعامل مع حملة التلقيح والإقفال التام، اختارته لإضفاء درجة من المصداقية على الفكرة القائلة إنها تطبّق التوصيات “العلمية” بكل بساطة، على عكس سَلَفها.
بدأ شيلاتشي يستعمل المعطيات “العلمية” بشكلٍ جدّي منذ الآن، فقد سمح في هذا الشهر بعودة آلاف العاملين في القطاع الصحي بعد تعليق عملهم بسبب عدم تلقّيهم اللقاح، وأحدثت هذه الخطوة فوضى عارمة ونشرت الارتباك في نظام الرعاية الصحية الإيطالي، تزامناً مع احتدام المشاكل المرتبطة بمنع الحفلات الشبابية العشوائية وإعاقة سفن المهاجرين، لكن هذا الوضع قد يعكس المغزى الحقيقي من هذه التدابير كلها، فبعد تشكيل حكومة ائتلافية جديدة تتألف من محترفين ومتطرفين وشخصيات متشددة تُنكِر تطرّفها برئاسة ميلوني، يمكن تحقيق مكاسب رجعية بشكلٍ علني وصريح أو تحت غطاء الاعتدال غير المُسيّس.