بقلم: يوسف بدر – النهار العربي
الشرق اليوم- أكد المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، خلال اجتماعه مع جمع من قوات التعبئة (الباسيج)، السبت 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أن مشكلة إيران مع أميركا لا يمكن حلها بالتفاوض، لأن واشنطن تريد التنازلات دائماً واستمراراً من طهران، وهذا لا يقبل به أي إيراني غيور.لكن بعيداً من خطابات السيد خامنئي، فالأمر على أرض الواقع يكشف أن الإيرانيين فطنوا جيداً إلى أن الحوار مع واشنطن يعد سبيلاً مهماً لإنهاء حركة الاحتجاجات في البلاد. وإلا ما كان المسؤولون الإيرانيون يشيرون دائماً إلى وقوف الولايات المتحدة وراء تحريك جانب منها، وأن الهدف من هذا الدعم هو كسر شوكة النظام الإيراني الذي دائماً يستعرض قاعدته الشعبية عند كل مناسبة ثورية أو وطنية في مواجهة القوى الغربية.
واقعياً، يمكن أن نقول إن النظام الإيراني استطاع بالفعل إخماد جانب من الاحتجاجات في الداخل عبر تغيير مسارها، من خلال إطلاق نظرية المؤامرة وترويج الآلة الإعلامية صور أعمال الشغب والفوضى وإرهاب الشعب في مصر وسوريا والعراق والسقوط في فخ مؤامرة الغرب، ثم الانتقال بعدها إلى تحجيم الاحتجاجات في إطار المطالب الفئوية، إلى جانب محاولة المسؤولين الإيرانيين الاقتراب من جيل الآباء (الجيل القلق) عبر الزيارات الميدانية بين الهيئات والمؤسسات والمدن، من أجل وضع جيل الأبناء (الجيل المتمرد) تحت سيطرة الضغط الاجتماعي والأسري.
وبعدما أطلق خامنئي سياسة “جهاد التبيين” التي تعني أن يتحمل كل أنصار النظام مهمة الدعاية المضادة لمواجهة الدعاية الغربية؛ طالب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أساتذة الجامعات خلال اجتماعه معهم في وزارة العلوم والتكنولوجيا، بإحاطة الطلاب بالإنجازات التي حققتها إيران، بخاصة أن طلاب الجامعات يمثلون الجيل “زد” الذي لا ينتمي إلى عصر الثورة أو مبادئ نظام ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية؛ بل ينتمي إلى عصر الانفتاح والعولمة والتكنولوجيا.
سد الثّغرات
يبدو أن المسؤولين في إيران بدأوا يشعرون بالزهو والانتصار، فقد تعالت الأصوات المطالبة باستخدام العنف في مواجهة الاحتجاجات وأخرى تطالب بإعدام قادة الفوضى. بل إن النظام حاول سد ثغراته من ناحية الجيل الجديد وطالب المسؤولون بسياسة تربوية وثقافية جديدة لإخضاع هذا الجيل والسيطرة عليه. كما ركزت آلة إعلام النظام أيضاً على تناول أبناء الجيل الجديد من الموالين للنظام والداعمين له، وأن هناك فتيات من أبناء هذا الجيل يعملن في الوحدات الأمنية الخاصة، وذلك من أجل تحطيم مفهوم الجيل “زد”، وأن هذا الوصف لا ينطبق إلا على مجموعة من الشباب الفوضوي الذي تحركه الدعاية الغربية، وأن وصف المرأة الجديدة بأنها تقود الاحتجاجات غير دقيق.
ولقد كانت زيارة الرئيس الإيراني، الخميس 1 كانون الأول (ديسمبر) لمدينة سنندج مركز محافظة كردستان الإيرانية، بمثابة رسالة إلى الداخل والخارج؛ إذ ذهب إلى المحافظة التي هي معقل الاحتجاجات التي اندلعت منذ منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي. وكذلك جاءت زيارته في إطار السياسة التي أطلقها النظام لاحتواء الاحتجاجات؛ فقد شارك رئيسي رجال الدين السنة الصلاة معهم في جماعة واحدة لتأكيد مواجهة مؤامرة القوى الخارجية لبث الاضطرابات في هذه المحافظة على أساس مذهبي.
وأمام التحركات الدولية في الأمم المتحدة لتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق حول احتجاجات إيران؛ رفضت طهران هذه اللجنة وقامت بتشكيل أخرى محلية. وخرج الرئيس الإيراني ليعلن السبت الماضي، أن الدستور الإيراني ليس فيه طريق مسدود، إذ يمكن إجراء التعديلات فيه على آليات تطبيق القانون. مع تأكيده الحفاظ على مبادئ الدستور وأنها غير قابلة للتعديل، والتي منها مبدأ الجمهورية والإسلامية. أي أن النظام الحاكم بدأ التفكير في تقديم أطروحات جديدة تساعده على مواجهة التحولات الجديدة ومطالب التغيير والإصلاح، ومنها مسألة حرية الحجاب، التي يمكن معالجتها بتعديل القوانين التي توفر مسألة التغاضي من جانب السلطات عن هذه المسألة، مثل عدم تجريم غير المحجبات في الأماكن العامة مع الإبقاء على مسألة الأمر بالمعروف.
وكذلك كان بيان مجلس الأمن القومي الإيراني، السبت الماضي، الذي أعلن للمرة الأولى عدد ضحايا الاحتجاجات والخسائر المادية التي وقعت خلالها، كأنه بمثابة إعلان رسمي لانتهاء الاحتجاجات والسيطرة عليها. لكن هذا البيان ركز على نظرية المؤامرة، معللاً اندلاع الاحتجاجات بأن القوى الغربية انزعجت من قدرة الحكومة الحالية على مواجهة العقوبات وتخطيها، وبأن هذه القوى استغلت الاحتجاجات السلمية التي اشتعلت في بداية الأزمة من أجل الضغط على الحكومة الإيرانية التي تصر على الرفع الكامل للعقوبات قبل أي عودة للاتفاق النووي.
انتظار نتائج الاحتجاجات
يدرك الساسة الإيرانيون أن الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية تنتظر نتائج الاحتجاجات من أجل العودة إلى استئناف المفاوضات النووية. ولذلك يأتي إصرار النظام على أن الاحتجاجات قد انتهت وتمت السيطرة عليها كإعلان من جانبه للجانب الغربي، أن ورقتكم لم تفلح، وحان الوقت للقبول بشروط إيران! بينما الجانب الغربي ما زال يسعى إلى زيادة الضغط ويصر على بقاء النظام الإيراني تحت وطأة الاحتجاجات حتى يستجيب لمطالبه.
ثم جاءت تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، بأن واشنطن يجب ألا تتفاوض مع طهران بشأن أي قضية، بما في ذلك إحياء الاتفاق النووي، رغم أن كلينتون عارضت من قبل انسحاب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب من الاتفاق النووي. إلا أن هذه التصريحات تزامنت مع البيان المشترك للرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمريكي جو بايدن، الذي أشاد بالمتظاهرين في إيران، وأكد حرص البلدين على عدم تطوير إيران أو حيازتها السلاح النووي، وكذلك التصدي لتزويد إيران حلفاءها بالصواريخ والطائرات المسيرة بما يهدد الشركاء في الخليج والمنطقة.
والملاحظ، تجنب هذا البيان الإشارة إلى مستقبل الاتفاق النووي مع إيران؛ ما يعني أن واشنطن منفتحة على خيارات عدة في التعامل مع إيران. وهو ما أكده المبعوث الأميركي الخاص بالشأن الإيراني، روبرت مالي، في حواره مع مجلة “فورين بوليسي”، من أن واشنطن ما زالت تراهن على المفاوضات النووية لكبح البرنامج النووي لإيران، وأن إدارة بايدن لا تستبعد الخيار العسكري إذا ما فشلت العقوبات والضغوط والدبلوماسية. وهنا تأكيد من روبرت مالي أن الإدارة الأميركية تراهن على الاحتجاجات وما صاحبها من عقوبات وضغط إعلامي ودولي في إعادة الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات من دون مطالبتهم بامتيازات أكبر.
العودة إلى المحادثات النوويّة
يدرك الإيرانيون حجم الضغط الذي يواجهونه، وإن كانوا قد راهنوا في السابق، على قسوة الشتاء في إدخال الأوروبيين إلى بياتهم؛ بسبب أزمة الطاقة والغاز بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. لكن الأوروبيين مارسوا ضغوطهم بقوة على طهران خلال تلك الاحتجاجات. وإلى جانب العقوبات الأوروبية على أثر عنف النظام ضد المتظاهرين، جاء قرار مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي دان إيران لعدم تعاونها مع الوكالة الدولية، كجرس إنذار لطهران؛ بأنها إذا فقدت ثقة الأوروبيين فإن إيران قد تواجه تفعيل “آلية الزناد” بما يعيد فرض العقوبات الدولية عليها.
ويدرك النظام الإيراني أن صورة السيطرة على الاحتجاجات التي يرسمها لن تكتمل إلا بالعودة إلى المحادثات النووية مع الغرب. ولذلك كان الاجتماع الثلاثي، الأربعاء 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، الذي ضم ممثلي إيران وروسيا والصين في فيينا، بمثابة إعلان ترويكا سياسية تواجه القوى الغربية، وأن إيران ليست وحدها في المفاوضات مع الغرب.
وكذلك، جاءت زيارة كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري موسكو، الجمعة 2 كانون الأول (ديسمبر)، ولقاؤه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف؛ لتأكيد دور هذه الترويكا في مساندة إيران. كما تمثل هذه الزيارة مؤشراً قوياً إلى احتمالية العودة إلى المفاوضات النووية، إذ جاءت بعد زيارة باقري الدوحة ولقائه نظيره القطري. وتلعب قطر دوراً في تبادل الرسائل بين واشنطن وطهران. وقد أفصح رئيس الوفد الروسي إلى مفاوضات فيينا ميخائيل أوليانوف، أن زيارة باقري تناولت مراجعة احتمالية التنفيذ الكامل للاتفاق النووي.
وأيضاً، ناقش الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان بمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، آخر تطورات المفاوضات النووية لرفع العقوبات والتعاون بين إيران والوكالة الدولية. ويمثل هذا الاتصال إشارة قوية أخرى إلى جدية العودة إلى طاولة المفاوضات؛ بخاصة أن جوزيب بوريل هو مَن قدم المقترح الأوروبي الأخير لصيغة العودة للاتفاق النووي.
وفي السياق، يأتي تصريح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي، الجمعة الماضي، بقوله: “نحن بحاجة إلى إعادة علاقتنا إلى مسارها الصحيح مع إيران”، وبأنه لا يزال يأمل أن تقدم طهران تفسيراً لآثار اليورانيوم التي عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة قبل سنوات قليلة، كجزء مهم من إعادة ترتيب استئناف المحادثات النووية؛ لأن مسألة التعاون مع الوكالة الدولية وملف المواقع المشبوهة من أهم الموضوعات التي أعاقت التوصل إلى نتيجة خلال المحادثات النووية الأخيرة.
المحصّلة
يدرك النظام الإيراني الرسالة من الضغوط الغربية التي تمارس عليه في إطار دعم الاحتجاجات التي اندلعت في شوارع إيران. وأن حاجته إلى العودة إلى طاولة المحادثات النووية، تأتي في إطار سياسة سد الثغرات التي يتبعها لمواجهة الاحتجاجات والسيطرة عليها وتغيير مسارها.
ما زالت واشنطن وطهران تصران على الاتفاق النووي ولا تعلنان وفاته؛ لأن الأمر يتعلق بالاستفادة من السياسة أولاً وتجنب تكلفة الحرب والوصول إلى النتائج بأفضل السبل وإن طالت. وحتى الآن يمكن الحديث عن قوة مؤشرات العودة إلى المفاوضات النووية؛ لكن لا يمكن الجزم بنتائج هذه المحادثات في ظل إصرار إيران على مطالبها، خصوصاً في ظل إصرار المرشد الأعلى والمحافظين على الخروج بأكبر المكاسب من هذه المحادثات.
يأتي الحديث عن احتمالية استئناف المحادثات النووية، في ظل لوذ النظام الإيراني بالإصلاحيين بعدما قام بوأدهم؛ وذلك من أجل أن يساعدوه على استعادة الهدوء إلى الشارع، وهو ما يفسح المجال لوجهة نظر الإصلاحيين تجاه الاتفاق النووي. إذ يرون أن الاقتراب من المعسكر الغربي يحقق التوازن في العلاقة مع الشرق.
على عكس نظرة المحافظين الذين يراهنون على الشرق في نجاتهم من الغرب. يرى الإصلاحيون أن الشرق يستغل إيران كهراوة في مواجهاته مع الغرب، وهو ما يضع إيران في منطقة غير مفيدة، ودليلهم إلى ذلك، دور روسيا في إفشال أي اتفاق بين إيران والغرب. ولذلك ينظر الإصلاحيون إلى الغرب كشريك استراتيجي أفضل بالنسبة إلى إيران؛ لأن القوى الشرقية لا تريد أن تصبح إيران قوة صاعدة أخرى منافسة لها.