بقلم: الهاشمي نويرة – صحيفة البيان
الشرق اليوم- أعربت واشنطن الجمعة الماضي عن خيبة أملها جراء قرار موسكو إرجاء الجلسة المتعلقة ببحث إمكانية استئناف زيارات تفقد ومراقبة مدى التزام الدولتين (روسيا والولايات المتحدة) بمقتضيات اتفاقية “نيو ستارت” للحد من التسلح، وقد كان مقرراً أن تنعقد هذه الجلسة أصلاً الثلاثاء الماضي قبل أن تؤجل في مرحلة أولى إلى يوم غدٍ لترحل لاحقاً بقرار روسي إلى أجل غير مسمى.
وتم توقيع اتفاقية “نيو ستارت” بين روسيا والولايات المتحدة 8 أبريل 2010 في براغ، ودخلت حيز التنفيذ في فبراير 2011، وكان مقرراً لها أن تنتهي صلاحيتها العام الماضي، غير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مدد في أجلها إلى 2026، وتعتبر الاتفاقية المرجع الأساسي في مراقبة والحد من ترسانة الأسلحة الاستراتيجية للدولتين.وتندرج هذه الاتفاقية في صنف الاتفاقيات الثنائية، ومعلوم أنه ومنذ توقيع اتفاقية الأمم المتحدة التي تمنع انتشار الأسلحة النووية في 1968، تعددت الاتفاقيات سواء أكانت ذات طابع عام أم إقليمي.
وقد كانت هذه الاتفاقيات السمة التي ميزت حقبة الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية وإلى تاريخ انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، غير أنه تواصل العمل بهذه الاتفاقيات مع الاتحاد الروسي الذي كان منذ انهيار حائط برلين وانفصال بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة، حريصاً على استمرار العلاقة مع الغرب في إطار هذه الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الأمريكي تحديداً، وللعلم فإن الولايات المتحدة عمدت إلى وقف العمل بهذه الاتفاقيات التي يعود تاريخ بداياتها إلى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون في 1972، في مناسبات عدة، أهمها بداية الثمانينات وفي عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وذلك بسبب إقدامها حينها على تنفيذ برنامج تطوير منظومة صواريخها في إطار ما يسمى بـ”حرب النجوم”.
وإذا كان العالم لا ينتظر معجزات من مثل هذه الاتفاقيات، إلا أنه لا بد من الإقرار بأنها ساهمت بنسبة معقولة في الحد من انتشار الأسلحة النووية ومن حدة السباق نحو التسلح، ما مكن الدول والمجتمعات من التركيز أكثر على التنمية الاقتصادية وتوفير الثروة لتحقيق حاجيات مجتمعاتها ولتطوير مبدأ التضامن بين الشعوب والأمم، وهو الأمر الذي يفسر أن تأجيل المباحثات حول اتفاقية “نيو ستارت” أثار مجدداً خشية وتخوفات أغلب دول العالم، لأنه من شأنه أن يفتح مجدداً باب التسابق والتلاحق حول التفوق العسكري والتسلح ويعيد إلى واجهة الأحداث شبح الحروب التي لا تنتهي.
وقد بدا واضحاً منذ البداية أن الحرب الروسية الأوكرانية – التي كان منطلقها الاختلاف على “مسائل حدودية” – هي في واقع الأمر المحرك الأساسي للرجوع بالعالم إلى وضع ما قبل جل الاتفاقيات الدولية والإقليمية، والتي أصبحت في تقدير بعض القوى الدولية (الولايات المتحدة تحديداً) أطراً غير مناسبة لطموحاتها ومصالحها، خصوصاً في ضوء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهيكلية التي تمر بها أغلب دول المنظومة الليبرالية الغربية.
ورغم أن كلفة هذه الحرب كبيرة على أغلب دول المنظومة الليبرالية الغربية باستثناء بعضها ومنها أساساً الولايات المتحدة وكندا، فإن “الغرب الديمقراطي” وجد نفسه مدفوعاً إلى تمويل مواصلة هذه الحرب، وذلك خوفاً من أن يؤول حسمها لفائدة روسيا مقدمة لتغيير جذري في العلاقات الدولية قد لا يخدم مصالحها الوطنية.
إن الحروب في الأدبيات الكلاسيكية هي “مواصلة السياسة بوسائل أخرى” وهو ما يعني أن الحرب هي آخر الوسائل لتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية، الشيء الذي جعل منها الاستثناء في العلاقات بين الدول، لأنه وبعد تجارب الحروب الكونية المدمرة الأولى والثانية، استقر وعي البشر على أن تجنب هذه الحروب هو الحل الوحيد الذي يضمن استقرار العلاقات والمعاملات بين الدول والمجتمعات، فتراجع أو اندثر تبعاً لذلك حضور المنظمات ذات الطابع العسكري (حلف وارسو والحلف الأطلسي)، وتم تركيز وتطوير منظمات أخرى في مختلف مجالات التعاون بين الدول (تجارة وسياسة وثقافة وبيئة وغيرها).
إن الحرب الروسية الأوكرانية ليست بهذه المعاني مواصلة للسياسات قدر ما هي استباق لسياسات ولعالم جديد بدأت ملامحه تتشكل، وهو الأمر الذي يسّر على دول الغرب “الديمقراطي” الالتقاء رغم تضارب المصالح وغياب المساواة في اقتسام كلفة هذه الحرب، وفي المقابل، فإن مخاض وطريق هذا العالم الجديد متعدد الأقطاب ليس سالكاً، ولكن إرادة الدول تنزع عموماً إلى التخلص من قيود التبعية في المواقف والسياسات إن كان ذلك من أجل مصالح اقتصادية أو تلبية لأهداف قومية ووطنية.. إنها حرب باردة بوسائل أخرى وفي ضوء أوضاع تتسم بالحدية والتناحر ويكون البقاء لمن يمتلك القدرة على الصمود أكثر.