الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل السياسات، يدرس الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية للاحتجاجات الإيرانية المستمرة منذ وفاة الشابة مهسا أميني، والتي من المحتمل أن يكون لها دور رئيسي في امتداد رقعة الاحتجاجات واستمرارها.
أدناه نص المقال كما ورد في موقع المركز:
تشهد إيران منذ منتصف سبتمبر 2022 احتجاجات واسعة النطاق إثر وفاة الشابة من أصول كردية، مهسا أميني، وهي قيد الاحتجاز لدى مركز أمني يتبع لشرطة الآداب لمخالفتها قواعد ارتداء الزي الشرعي.
هذه ليست المرة الأولى التي تتحول فيها قضية مرتبطة بالحقوق الشخصية إلى أزمة، فمنذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 تدرجت السلطة الدينية في سن التشريعات الناظمة لحدود الحريات النسوية المسموح بها، ومع كل تقييد جديد اندلعت احتجاجات واضطرابات لعوامل سياسية واقتصادية اعتُبرت حرية المرآة واجهة لها:
– مارس 1979، كان أول هذه القيود فيما يتعلق بإلزامية الحجاب في أماكن العمل والذي قوبل برفض الآلاف من مناصري المرأة والمطالبين بالحريات.
– عام 1981 توسع التقييد ليشمل ارتداء الفتيات والنساء ملابس إسلامية محتشمة دون أن يحدد القانون ماهية هذه الملابس، ما سمح بهامش من المرونة والتساهل في بعض الفترات والمقاطعات في تطبيق القانون، لكنه في الوقت عينه خوّل جهات أمنية وشرعية لاتخاذ ما يلزم عند ضبط المخالفات، وكثيراً ما اعترضت نساء إيرانيات على تسجيل جرم بحقهن بزعم مخالفتهم قواعد اللباس الشرعي دون أن يرتكبن هذا “الجرم” فعلياً، كمن سجلت بحقهن قيود على خلفية ارتداء حذاء مكشوف.
ومع اندلاع احتجاجات 2022 توقع عدد من المراقبين أن تكون الاحتجاجات مؤقتة، على اعتبار أن القضية ضيقة ولا تتناسب مع طبيعة وهوية المجتمع الإيراني المحافظ غير المحبّذ لعلنية عدم الالتزام بالعادات والأعراف، ولكن الاحتجاجات لاتزال مندلعة وتجاوزت في مداها موجات احتجاجية سابقة كالتي وقعت أعوام 2017، 2019 و2021. حيث امتدت على نطاق جغرافي شمل أكثر من 83 مدينة مقارنة بـ 31 مدينة في احتجاجات 2019 حسب أرقام شبه محايدة.
أما العامل الأكثر دلالة على سعة الموجة الاحتجاجية الحالية فهو الأمد الزمني لاستمرارها منذ منتصف سبتمبر وحتى وقت نشر هذه الورقة -مطلع ديسمبر 2022- في حين إن الموجات السابقة من الاحتجاجات يغلب عليها أنها لم تستمر لمدة شهر واحد وبعضها خمد دون اتمام الأسبوع الأول. فما يُميز هذه الاحتجاجات، هي الظروف الداخلية والخارجية المُزامنة لها، والتي لعبت دوراً في استمراريتها، وتزيد من غموض المشهد القادم في إيران، ومن هذه الظروف ما يلي:
أولاً: تراكم الأزمات المؤثرة والمتأثرة بشرعية النظام
ناقش مقال نشرته مجلة “The New Yorker” الأسبوعية، حول الاحتجاجات الأخيرة، في أن لإيران 3 ركائز أيديولوجية متبقية: الموت لإسرائيل، والموت لأمريكا، والحجاب. لذلك قضية “الحجاب” ليست فقط متعلقة بحرية المرأة وإنما أصبحت أيقونة للاصطفاف السياسي بين التيارين الرئيسيين في إيران المحافظين والإصلاحيين.
ونظراً لتوسع الاحتجاجات حتى في مناطق شيعية المذهب فارسية القومية، فإنها تدلل على انتشار نزعة العلمانية ورفض الحكم الثيوقراطي الديني، وسعي نسبة كبيرة، خصوصاً من الشباب، للتحرر من الإطار الديني الثقافي الذي تحاول أن تفرضه المؤسستين الرسمية والدينية في البلاد.
وجسّدت مظاهرات 2017 أزمة الشرعية في النظام السياسي الإيراني وتراجع تقبل سرديته، ذلك أنها كانت تحت شعار “انسحبوا من سوريا وفكروا بنا” ففي الوقت الذي تسوّق فيه المنظومة الأيديولوجية أسباب انخراط جهات إيرانية المباشر وغير المباشر في دول من المنطقة؛ انتفض قطاع واسع من الشعب تحت وطأة تزايد كلف السياسة الخارجية وما تسببت به من أزمات.
وتنبّهت جهات إيرانية رسمية وشبه رسمية إلى ما يمكن وصفه بالأثر التراكمي للسياسات العامة المتبعة، فقبيل اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، حذر بحث أكاديمي نُشر في المجلة العلمية الفصلية للأبحاث الاستراتيجية لجامعة العلامة طباطبائي، من أن استمرار المعطيات الراهنة سيؤدى إلى تكرار الاحتجاجات التي “تحتاج إلى شرارة واحدة فقط لتجعل المحتجين ذوي الرؤى والأهداف المتعددة والمتنوعة، ينزلون إلى الشوارع”.
وقد أعادت نشره وكالة أنباء الطلبة الإيرانية -شبه رسمية- في ذروة احتجاجات 2022 وجاء فيه “إذا لم تستجب السلطات لمطالب الشعب وتجاهلت الأسباب الرئيسية للاحتجاجات، لن تبقى موجات مقبلة من الاحتجاجات على مستوياتها السابقة”.
وهو ما تحقق على أرض الواقع بشرارة “مهسا” التي وحّدت الاختلافات والتناقضات بين الفئات غير المؤيدة أيديولوجياً للسلطة، ومثلما حذر البحث السابق، كانت الموجة الاحتجاجية غير مسبوقة، وذلك يتضح من نطاق أمدها الزمني والجغرافي ونسبة تأييد الشعب للاحتجاجات، حيث قال رئيس الهيئة التمثيلية للمرشد في الجامعات، مصطفى رستمي، أن حوالي 55% من الإيرانيين يؤيدون تلك الاحتجاجات.
وقد تكون النسبة أعلى من ذلك بكثير لو توافرت أدوات محايدة لقياس الرأي العام في إيران، خصوصاً لدى جيل الشباب غير المقتنع بالمقارنة مع من هم أكبر سناً بسردية ولاية الفقيه التي تطالب بطاعة شرعية دينية للمنظومة السياسية.
ثانياً: تعمق الأزمة الاقتصادية وإفقار الطبقة الوسطى
يرى خبراء إيرانيون أن الضغوط المفروضة على الطبقة الوسطى، جراء العقوبات الأمريكية، والتي فاقمتها أزمة كوفيد-١٩، وما ترتب عن الأزمة الأوكرانية من ارتفاعات في أسعار السلع الأساسية، خلقت نقطة مركزية يلتقي حولها المحتجون باختلاف قطاعاتهم. على العكس من الاحتجاجات السابقة، التي بقيت فئوية أو مطلبية، ولم تشهد تجانساً بين المطالب الاقتصادية والغايات السياسية، وبذلك فإن دخول الطبقة الوسطى كشريحة على خط الاحتجاجات شكل العامل الحاسم لفهم استمراريتها وتوسع نطاقها الجغرافي.
حيث تسجل إيران معدلات قياسية في نسب التضخم لأسعار المواد الغذائية بلغت بحسب آخر تقارير البنك الدولي 84%، لتأتي في المرتبة الثالثة عالمياً، وقد تكون هذه النسبة محتملة لولا أن التضخم مرتفع مقارنة بعام 2017 قبل فرض العقوبات القصوى، والتي أثرت بدورها على العملة الإيرانية “تومان” ودفعتها لانخفاضات تاريخية أمام الدولار.
وبالتالي تضافرت مختلف دوافع الاحتجاجات لتضم كل الحراكات المحتجة على واقعها المعيشي وممن تضرروا وخسروا وظائفهم وأعمالهم ومدخراتهم منذ 2018، وإن كان يغلب على حراك الطبقة الوسطى الطابع شبه السلمي إلا أنه يجنح للتمرد المستدام عند وقوع “هبوط طبقي” نحو خانة الفقر.
ويفاقم من حدة الأوضاع الاقتصادية على عموم الشعب الإيراني معاناته من شح خدمات أساسية لا سيما الطاقة والمياه، فرغم الاحتياطات الضخمة من النفط والغاز إلا أن الشعب لا يلمس أثرها بسبب رفع سعر بيع النفط منذ عام 2019، وهو ما أطلق موجة احتجاجية رافضة، وبالنسبة للكهرباء فإن تهالك البنية التحتية يحول دون إنارة مكامن الغاز الضخمة في البلاد.
أما أزمة المياه فهي أعمق وأخطر، حيث تعاني مدن إيرانية عدة أبرزها العاصمة الأكثر سكاناً من شح مائي يقترب من “الإفلاس المائي” الذي تنقطع فيه إمدادات المياه، وكان الرئيس التنفيذي لشركة طهران للمياه والصرف الصحي قد حذر في نوفمبر 2022، بأن “طهران تمتلك احتياطي من الماء يكفيها لـ 100 يوم فقط”.
وفي الواقع تأثرت طهران بالتغير المناخي من حيث الهجرة من الأرياف إلى المدن بسبب تعذر إعالة الزراعة للأسر، مما فاقم من الضغط على محدودية خدماتها ومعدلات البطالة. كما تعرضت أنهار فرعية وبحيرات في عموم المحافظات الإيرانية لانحسار في منسوب المياه، كبحيرة أورمية الأكبر في الشرق الأوسط الواقعة شمال غرب إيران التي تقترب من الجفاف التام، ما ينذر بارتدادت أمنية ومجتمعية في تلك المنطقة الزراعية.
وعادة ما تشهد البلاد احتجاجات متقطعة على انقطاع المياه، كما جرى في 2021، وانضم “محتجو المياه” إلى تظاهرات 2022 تحديداً في مدينة همدان.
ثالثاً: مراكز الثقل السياسية وخلافة المرشد
تخضع الطبقة السياسية برمتها إلى مؤسسة المرشد وتوجيهاته، مع مراعاة وجود تباينات شكلية وجوهرية في وسائل الحكم وتنفيذ الاستراتيجية العليا للدولة التي تحددها مؤسسة المرشد والمجلس الأعلى للأمن القومي.
تنحصر هذه التباينات في تيارين رئيسين: المحافظ المتشدد، والإصلاحي المدني، يتناوبان على تولي المناصب العامة باستثناء المتصلة منها بالأمن والدفاع لعلاقتها الوثيقة بمؤسسة المرشد والتيار المحافظ.
شعور الاصلاحيين بأن مؤسسات بالدولة ترجح كفة المحافظين في حصة تقاسم السلطة، أدى إلى نوع من الاستياء الكامن يتم التعبير عنه بطريقة غير مباشرة بحسب الظروف. ولأن الرئيس الإايراني المنتخب منذ عام، ابراهيم رئيسي، ينتمي إلى الجناح المحافظ الثوري، لا يُلقي الإصلاحيين بثقلهم الشعبي لاحتواء الاحتجاجات، ويمكن ملاحظة نوع من التماهي بين الإصلاحيين والاحتجاجات عبر تصريحات قياداتهم ووسائل إعلامهم التي تغطي الاحتجاجات بمنظور محايد مقارنةً بالإعلام المحافظ الذي يتهم المحتجين بالتآمر وتنفيذ أجندات خارجية، فالتيار الإصلاحي عادة يضغط لتوسيع الحريات المدنية وتقليص التشدد السياسي والمجتمعي.
ولا يدلل الكم المحدد من الحرية الممنوح للتيار الإصلاحي بأنه يقود الاحتجاجات ذلك أنها دون قيادة واضحة، فضلاً عن أن الإصلاحيين يتجنبون الاصطدام ببعض مؤسسات الدولة، وقد يكون هذا الكم مجرد مناورة لاحتواء الغضب الشعبي عبر جناح رسمي داخل بيروقراط الدولة. فيما نقلت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية في 23 نوفمبر، عن مصادر أن رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، طلب من عائلتي رفسنجاني والخميني وهُما من العائلات المعتدلة والمُشاركة في تأسيس الجمهورية، بـ”إلقاء خطابات علنية لتهدئة الاضطرابات”.
وبالمقارنة مع احتجاجات سابقة جرت في عهد الرئيس السابق الإصلاحي حسن روحاني الذي حكم في الفترة 2013-2021، لم يكن لتلك الاحتجاجات هذا الزخم الشعبي والزمني، رغم أن عهده شهد ذروة العقوبات القصوى ورفع أسعار بيع الوقود وأزمة كورونا.
وبعث المرشد الإيراني، علي خامنئي، برسالة تقارب بين التيارين عبر تشكيلة مجمع تشخيص مصلحة النظام التي أُعلن عنها في سبتمبر 2022، حيث لاحظ مراقبون أن القائمة المكونة من 31 عضو متوازنة في تمثيلها بين التيارين الرئيسين، وهو ما قد ينعكس على حالة الانسجام السياسي بين كلا التيارين، كون المجمع يعتبر هيئة استشارية عليا وتمتلك صلاحية فصل المنازعات بين السلطات أحياناً.
تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات الرئيسية في إيران كمجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلسي الخبراء وصيانة الدستور والجيش الإيراني والحرس الثوري، جميعها مستنفرة تحسباً لوفاة المرشد البالغ من العمر 83 عاما ويعاني من مشكلات صحية، حيث تسعى كل من هذه المؤسسات إلى الدفع بمرشحها نحو خلافة المرشد.
ولأن الرئيس الإيراني الحالي من الشخصيات المحتمل توليها هذا المنصب أو إشرافها على “هندسة” المرشد التالي، قد تدفع جهات أصولية محافظة إلى التشويش على حكومته، فصحيح أن رئيسي محافظ لكنه ثوري وله باع طويل في مكافحة الفساد.
رابعاً: الاحتجاجات في نقاط شبابية
شاركت في هذه الاحتجاجات كيانات شبابية هم الأكثر عدداً وحيوية من مجموع عدد السكان، كالجامعات ومدارس الإناث، ووقعت داخل أسوار بعض الجامعات احتجاجات عنيفة سقط فيها جرحى وقتلى.
وهذه ليست المرة الأولى التي تنضم فيها الجامعات إلى الحراك الاحتجاجي، لكن ما يُميز الاحتجاجات الحالية أن الحراك الجامعي ليس مجرد مشاركة رمزية وإنما فعلية، مما دفع ببعض إدارات الجامعات للتحول إلى التعليم عن بعد وسط إعلان اتحادات طلابية إضرابها عن حضور المحاضرات احتجاجاً على اقتحام أجهزة أمنية الحرم الجامعي واعتقال طلبة وفض عنيف لتجمعات طلابية.
خامساً: الاحتجاجات العمالية والخدمية
شجعت سقوف وأحجام التظاهرات على اندلاع شبكة من الاحتجاجات العمالية والخدمية احتجاجاً على مجمل الظروف العامة، كاحتجاجات العاملين في مراكز بيع الوقود وإنتاج الفولاذ وبعض الاتحادات العمالية، والمجلس التنسيقي لنقابات المعلمين الإيرانيين الذي أعلن إضراب محدود رفضاً لما قال إنه “قمع وقتل تلاميذ إيران”.
وتصر الجهات الداعية إلى هذه الاحتجاجات على عدم ربطها مع الاحتجاج الكبير ذو الطابع السياسي، على اعتبار أن مطالبها إما خدمية أو تضامنية مع ضحايا الاحتجاجات. ولكن تؤدي زيادة الفئات المشاركة في هذه الاحتجاجات إلى تقوية الاحتجاج السياسي واستمراريته، والعكس صحيح حيث باستمرايته ستدخل فئات جديدة مطالبة بحقوقها أو معترضة على واقعها.
سادساً: تخفيف القمع الأمني
تتبع الأجهزة الأمنية حول العالم استراتيجيات مختلفة لاحتواء الاحتجاجات تتراوح من الأمن الناعم إلى القمع العنيف بالأسلحة النارية. وربما اضطرت المنظومة الأمنية الإيرانية لاتباع وسائل أقل عنفاً هذه المرة في تعاطيها مع المحتجين لاعتبارات دولية ومحلية. فدولياً طهران ملتزمة أكثر من أي وقت مضى في تصدير صورة تتناسب وهدفها في العودة للمجتمع الدولي، كما أنها تسعى لتجنب توفير حجة للمفاوضين الأوروبيين للضغط عليها في ملفات إنسانية خصوصاً وأن ثمة عقوبات مفروضة عليها ذات صلة بقضايا حقوقية.
أما محلياً، فيراقب التيار الإصلاحي بطريقة التعامل الحكومي مع الاحتجاجات لتسجيل مكاسب سياسية على أرضية “الفشل” في احتواء الاحتجاجات والاعتداء على حرمة حياة المواطنين.
وعملياً، بينما تشهد الساحة الإيرانية احتجاجات مستمرة منذ أعوام، فالمقاربة الأمنية الخشنة التي غالباً ما كانت تتبعها السلطات، لم تجد نفعاً ولم تأتي بالنتائج المطلوبة في خفض حدة هذه الاحتجاجات، ذلك أن التعامل الخشن يزيد من إصرار المحتجين على مطالبهم.
وبسبب هذه العوامل الثلاث (دولياً، محلياً، عملياً) قد تكون المقاربة الأمنية لإخماد الاحتجاجات أقل حدة، لكن يبدو أن هناك توجهاً بممارسة مقاربة أمنية خشنة، بدت ملامحها تتضح في توعد المرشد بـمواجهة “المتمردين والمأجورين”، وأثنى على دور قوات الباسيج، المناط بها دوماً مهمة إخماد المظاهرات بالقوة.
وحتى في ضوء أن المُقاربة الأمنية لا تزال أقل عنفاً، إلا أن حدة الاحتجاجات ونطاقها زاد من عدد القتلى خلالها، والتي قدرتها مراكز حقوقية إيرانية بحوالي 402 قتيل حتى 18 نوفمبر 2022، وهو أعلى مُقارنة باحتجاجات 2019 والذي قدرت منظمة العفو الدولية عدد ضحاياها بـ 304 شخص على الأقل.
سابعاً: الإعلام الناطق بالفارسية في الخارج وبرامج تخطي الحجب
شهدت السنوات القليلة الماضية، زيادة في أعداد المنصات الإعلامية والقنوات الإخبارية الناطقة باللغة الفارسية، والتي تبث برامجها من خارج إيران، مثل بي بي سي الناطقة بالفارسية، ودويتشه فيله فارسي، وراديو فرنسا الدولي، وصداي أمريكا (صوت أمريكا)، وإيران انترناشونال. وهذه الأخيرة تؤدي دوراً حيوياً في تغطية واسعة ومستمرة للاحتجاجات.
ومما يدلل على أن المنصات الإعلامية تلقى قبولاً لدى الرأي العام الإيراني، هو كثافة تصريح المسؤولين الإيرانيين حولها واتهام جهات خارجية، بتمويل ورعاية هذه المنابر “المعادية” على حد وصفهم، وقد فرضت طهران عقوبات على العديد من تلك المؤسسات الإعلامية لا سيما شبكة إيران إنترناشيونال، وبي بي سي الناطقة بالفارسية، بتهم تتعلق بالتحريض على العنف والتطرف بحسب وزارة الخارجية الإيرانية، وفي 26 أكتوبر 2022، فرضت عقوبات مماثلة على 8 مؤسسات في الاتحاد الأوروبي، منها دويتشه فيله فارسي، و12 فرداً من ضمنهم رئيس تحرير صحيفة “بيلد” الألمانية.
مع ذلك، ثمة وسائل عدة لوصول بثها المرئي والمسموع والمقروء نحو الداخل الإيراني، بالرغم من الحجب أو العقوبات، من خلال تقنيات سهلة الاستخدام وشائعة لتخطي الحجب الذي تفرضه السلطات الإيرانية على شبكة الانترنت، حيث تسمح بشبكة انترنت محلية تطلق عليها “انترنت حلال” يخضع لمراقبة الأجهزة الأمنية المعنية بالأمن والآداب.
ووفق تقرير نشره المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة” في أكتوبر 2022 بعنوان “اختراق الستار الرقمي الإيراني”؛ يقبل عدد متزايد من الإيرانيين على استخدام برامج وتطبيقات للإفلات من الحظر والرقابة، كتطبيق TOR المستخدم حول العالم للولوج إلى الإنترنت المظلم. ويرى المعهد، أن موجة احتجاجات 2022 جعلت من استخدام وسائل تخطي الحجب أمراً شائعاً.
بالإضافة إلى هذه الوسائل، أعلنت شركة “Starlink” التي أسسها رائد الأعمال الأمريكي، إيلون ماسك، عن بدء توفير الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية داخل إيران، وكشفت مصادر إعلامية تهريب عدد محدود من المعدات اللازمة لاستقبال إشارات الإنترنت الفضائي عبر الحدود مع إقليم كردستان.
ولأن هذه التقنية لا تزال جديدة ويلزمها أجهزة ومعدات مكلفة ويمكن رصد إشارتها من قبل السلطات الإيرانية، فإنها لم تحقق تغطية مؤثرة كما هو الحال في أوكرانيا حيث وفر الإنترنت الفضائي شبكة فعالة للتواصل والاتصال رغم التشويش والاستهداف الروسي.
أمام هذه المنصات الإعلامية ووسائل تخطي الحجب، لم يعد الإعلام الرسمي صاحب الرواية الحصرية، ونظراً لكثافة انتشارها في هذه الموجة الاحتجاجية فإنها لعبت دوراً حيوياً في إدامة التحريض وبث خطاب يحرك العواطف والأفكار نحو استمرارية زخم التظاهرات.
ثامناً: تعثر المفاوضات النووية وتوريد مسيرات عسكرية إلى روسيا
لم تفلح الأزمة الأوكرانية في تشكيل ظروف ملائمة لإنضاج تفاهمات نووية يعود بموجبها النفط والغاز الإيراني للتدفق في الأسواق العالمية عبر منافذ شرعية، حيث تمسكت طهران بمطالب من بينها إنهاء تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن العثور على آثار يورانيوم في 3 مواقع نووية قديمة غير معلن عنها.
وفي ذروة الجمود الذي أصاب المفاوضات النووية، كانت الأنباء تتواتر عن تعاون دفاعي عسكري روسي إيراني بموجبه قدمت طهران مسيرات للجيش الروسي في تحدٍ صريح لروح التفاوض، الأمر الذي اعتبرته الدول الأوروبية الثلاثة في مجموعة 5+1 (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) إشارة سلبية لطبيعة تفاعل طهران معها لا سيما وأن هذه الدول تقوم بجهود أقرب ما تكون للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران.
وبفارق زمني لا يتعدّى الأربع أيام، صادق الاتحاد الأوروبي على قرارين في أكتوبر 2022 لفرض عقوبات على كيانات ومسؤولين إيرانيين بينهم قيادات في شرطة الأخلاق والجيش الإيراني على خلفية ملفي قمع الاحتجاجات وتوريد المسيرات إلى روسيا.
وفي أواخر أكتوبر 2022 أعلنت وزارة الخارجية الألمانية، أن الاتحاد الأوروبي يعكف على دراسة تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، وصدور هذا التصريح من الخارجية الألمانية يختلف عن صدوره من الفرنسية أو البريطانية أو البلجيكية مثلاً، ذلك أن ألمانيا تعتبر الأكثر تفهماً للموقف الإيراني – أو هكذا تُظهِر – والأشد تأثراً من بين الدول الأوروبية بأزمة الطاقة.
الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، التقى بدوره في نوفمبر 2022، بناشطات إيرانيات، مشيداً بـ”الثورة التي يقدنها”، وهو الأمر الذي قيمته الخارجية الإيرانية على أنه “خرقاً صارخاً لالتزامات فرنسا الدولية في مكافحة الإرهاب والعنف وبمنزلة ترويج لهاتين الظاهرتين المشؤومتين”.
وهذا اللقاء جاء بعد الكشف عن اعتقال السلطات الإيرانية مواطنين فرنسيين اثنين قبل بداية الاحتجاجات، وكان وزير الداخلية الإيراني، أحمد وحيدي، ادعى أن إيران اعتقلت “عناصراً من وكالة المخابرات الفرنسية”، وهي ليست المرة الأولى التي يُعتقل فيها مواطنون أوروبيون في توقيت سياسي حساس بتهم تتصل بالاختراق الأمني، وأصبحت هذه الممارسة تندرج ضمن ما يوصف بأنه “دبلوماسية الرهائن”.
ويبدو الدعم الأمريكي للاحتجاجات أكثر وضوحاً وقوة من نظيره الأوروبي، وقد تعبّر حماسة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في قوله “سنحرر إيران” عن موقف شخصي وليس عن نهج سياسي جديد كما وضّح البيت الأبيض في تصريح لاحق، إلا أن هذه الحماسة يشاركه بها قيادات في مؤسسات سيادية أمريكية.
ولأن إيران تمهد لمرحلة انتقالية لتفاعلاتها الإقليمية والدولية، قد تجد الاحتجاجات مصادر دعم وقيادة -وربما افتعال- خارجية للضغط على الموقع التفاوضي لطهران وتليين رفضها، وهو ما قد يكون أحد العوامل التي تطيل أمد الاحتجاجات.
تاسعاً: الاتهامات الإيرانية بالتدخلات الخارجية
التصريحات الإيرانية الاتهامية لدعم إسرائيل وبعض الدول الاحتجاجات كثيرة، كتغريدة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، التي اتهم فيها “أجهزة أمنية متعددة وإسرائيل وبعض السياسيين الغربيين” بوضع خطط لتفكيك إيران عبر حرب أهلية.
ومثل هذه التصريحات العلنية قد تكون موجهة للرأي العام الإيراني لمواجهة المحتجين واستثارة عواطف المحافظين والمترددين كي لا ينخرطوا في الاحتجاجات، فمن الواضح أن الاحتجاجات لم تصل بعد إلى نهايتها وقت نشر هذه الورقة – مطلع ديسمبر 2022- وهي مرشحة لانضمام المترددين الذين قد تتولد في عقولهم وقلوبهم حماسة المشاركة.
وبغض النظر عن الخطاب الإيراني المتصاعد إزاء الدعم الخارجي للاحتجاجات، إلا أنه لا ينبغي موضوعياً تضخيم أثره أمام المسبّبات المحلية، مع الإقرار بأن الدعم الخارجي قد يعطي زخماً لاستمرارية التظاهرات، خصوصاً إن تم بطريقة منسقة موحدة بين مختلف الدول التي تطمح لتوظيف الاحتجاجات في سياقات الضغط والتفاوض والمساومة مع طهران.
عاشراً: تمركز الأقليات في النقاط الحدودية
يقيم في إيران قوميات من العرب الأهواز والأكراد والبلوشستان والأذر، حيث تتمركز هذه الأقليات في نقاط حدودية، فالعرب ينتشرون على سواحل الخليج العربي، والكرد على تماس مع الحدود الشمالية الغربية مع كردستان العراق، أما البلوشستان فينتشرون على تماس مع امتداداتهم الإثنية في أفغانستان وباكستان.
وبالنسبة للأقلية الأذرية فيقيمون في أقصى الشمال بمحاذاة بحر قزوين والحدود مع أذربيجان والتي تقيّمها طهران أمنياً على أنها قاعدة متقدمة للموساد للتجسس والتدخل في الشأن الإيراني.
وبالتالي يمكن القول إن حدود إيران يقطنها مواطنون من قوميات إثنية من غير الشيعة الفرس، وهذه الأقليات تفترض أن المركز في طهران يهمّشهم، مما أوجد حس بالمظلومية وإشكالية في المواطنة والهوية لدى قاطني الأطراف من الأقليات.
وهذا أدى إلى بلورة بيئة مثالية للتدخل في الاحتجاجات وإدامتها لا سيما وأن الحدود الإيرانية مع أفغانستان وباكستان غير مستقرة أصلاً من على الجانب المقابل لهشاشة الوضع الأمني في هاتين الدولتين، أما كردستان فهي في حالة اشتباك أمني مستمرة مع طهران.
الحادي عشر: تصاعد الأهمية الجيوسياسية لبلوشستان في مشاريع الربط الاقليمي والدولي
تطل هذه المقاطعة على بحر العرب النافذ إلى مضيق هرمز، وتقع على مقربة من ميناء جوادر في باكستان أحد الموانئ الرئيسية في مبادرة الحزام والطريق الصينية. ولو تحقق الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي على امتداد السواحل الإيرانية الباكستانية لأمكن تفعيل مشاريع إقليمية ودولية معنية بربط الطاقة إلى آسيا الوسطى وربما إلى وجهات أخرى.
ويرى بعض الخبراء أن اهتمام رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، بتنمية العلاقات الاقتصادية مع الصين -تحديداً عبر ميناء جوادر ومبادرة الحزام والطريق- كان أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى خسارة حكومته ثقة السلطة التشريعية، ودخول البلاد في أزمة سياسية.
وبالنسبة لبلوشستان الإيرانية فإنها نقطة احتجاج مزمن وتعد الأكثر كثافةً من حيث عدد المتظاهرين والضحايا بحسب جهات تتولى رصد الاحتجاجات في إيران، ووفق بعض هذه الجهات سقط في بلوشستان في أحد الأيام أكثر من 50 مدني ناهيك عن الإصابات.
وفي خضم الاضطرابات المحلية والدولية في الشرق الأوسط؛ لطالما كان التنافس على مشاريع الربط العابر للحدود أحد الملفات العميقة التي يجري تباحثها عند التطرق لأسباب الأزمة وسبل حلها.
وتُعِد إيران العدة لأن يكون هلال نفوذها من سواحل بحر العرب إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط مساراً للتجارة الدولية، وهو الأمر الذي يُقصي مصالح اقتصادية لمحور آخر من الدول ويعود بالمنفعة الجيوسياسية على الصين، ولذلك يُستبعد تنفيذ إيران مسارها التجاري الدولي دون تعرّضه لعرقلة جادة، وقد تكون استمرارية الاحتجاجات واحدة من أدوات العرقلة.
ختاماً؛ يدلل اتساع الاحتجاجات غير المسبوق على هشاشة الاستقرار وأن مناعة البلاد ضد التقلبات في أقل مراحلها، وهو ما انعكس في استمرارية المظاهرات حتى مطلع ديسمبر -تاريخ نشر هذه الورقة- وهي مرشحة للاستمرار ما لم تقدم الدولة “تنازلاً” ما تهدئ به الغضب المتفاقم.
ولكن سيكولوجية القيادة الإيرانية ومنطق إدارتها السياسي تميلان إلى عدم تقديم تنازلات تراها علامة ضعف بحكم تكوينها الأيديولوجي، ويحتمل أن تكون أطراف خارجية ومحلية استغلت هذه السمة لـ”توريط” البلاد في دوامة من الاحتجاجات تستنزف الجهد الإيراني وتشتت أولويات طهران في مرحلة انتقالية تُعالج فيها ملفات حاسمة، كالمفاوضات النووية والمحادثات الإقليمية، وخلافة المرشد.
فاستمرارية الاحتجاجات قد تكون -بالإضافة إلى العوامل الموضوعية المحلية ذات الصلة بالظروف المجتمعية والاقتصادية والسياسية- جزء من تصفية حسابات استراتيجية مع المرحلة السابقة قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة تدرك فيها طهران أن للقوة حدود، وأن لاستخدامها عواقب وارتدادات على الداخل المحلي.
فمن غير المنطقي دعوة طهران لتغيير سلوكها ما لم يكن لسلوكها “ثمن” على الاستقرار الداخلي، عندها فقط ستتولد القناعة لدى التيار المحافظ في السياسة الخارجية أن استمرارية الدولة محل شك في حال استمرارية النهج القائم المستند على سياسة خارجية تدخلية تصادمية مع قوى إقليمية ودولية.
وعليه، قد تكون استمرارية الاحتجاجات دافع واقعي لمراجعة إيرانية تُفضي إلى تغييرات جذرية في حالة الحريات والسياسة الخارجية، وقد يرى البعض أن هذين المجالين منفصلين، ولكن الدول ذات الحكم المركزي تميل إلى مخاطبة عواطف المجتمع عبر بروباغندا تسوّق بها سياستها الخارجية لحث المجتمع على التحمل في سبيل تحقيق أهداف هذه السياسة، وفي حال توسيع هامش الحريات و/أو تعديل أسلوب السياسة الخارجية فإن نهج الاعتدال سيسود بحكم الأمر الواقع.