بقلم: نبيل فهمي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- مقالة اليوم هي الرابعة والأخيرة مرحلياً عن الوضع العربي، وعلى رغم أن تأجيلها وترتيبها ارتبطا بأحداث دولية تتطلب التعليق العاجل، لعله من الملائم إنهاء هذه السلسلة من المقالات بملاحظات حول الأمن القومي العربي.
من الطبيعي أن تكون لكل دولة عربية أولويات واهتمامات وطنية خاصة تحكم مفاهيم وحدود أمنها القومي، لكن من الملاحظ أن هناك عدداً من السمات المشتركة في ما بين مفاهيم غالبية الدول العربية ومنها أن للاعتبارات الإقليمية مكانة وثقلاً مهماً في بلورة مفاهيم أمنها القومي وفي تشكيل القرارات المرتبطة بها، فبعد معاناتها ويلات الاستعمار الأوروبي اهتمت غالبيتها بحماية الهوية العربية السياسية والثقافية والتاريخية والممتدة، وتمسكت بذلك حتى مع اختلاف الرؤى والحماسة للبرنامج السياسي الخاص بالقومية العربية، أي ظلت للحفاظ على الهوية الوطنية السياسية مكانة محددة في معايير الأمن القومي للدول العربية، كما ظل النزاع العربي الإسرائيلي، بخاصة القضية الفلسطينية قضية مشتركة تدخل في حسبان الجميع ولزمن طويل.
والاعتبار الآخر المشترك الذي لا يمكن إغفاله أن تاريخ المنطقة العربية وموقعها الاستراتيجي وثراءها في مجال الطاقة جعلها ساحة تنافس بين القوى العظمى خلال الحرب الباردة، ومطمعاً في إطار السعي إلى ضمان حرية التنقل عبر البحار والحصول على مصادر غير مكلفة للطاقة، وهو ما أضاف اعتبارات وحسابات القوى الدولية الكبرى إلى معادلات الأمن القومي للدول العربية غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، وجعل معظمها تعتمد كثيراً على دولة عظمى في حساباتها الأمنية وقراراتها.
وأضاف تداخل اعتبارات إقليمية ودولية في تشكيل مفهوم الأمن القومي للدول العربية قدراً من الضبابية وعدم الوضوح في دقة التعريف الوطني للأمن القومي في الدول العربية، خصوصاً ما يستدعي التحرك واستخدام قدراتها العسكرية الوطنية، لأن القرار لم يكن أو يعد عملياً مرتبطاً بحسابات وطنية فحسب، أو في أيدي الأطراف العربية وحدها.
وفي بعض الأحيان كان هناك تعارض وتنازع بين المفهومين الإقليمي والوطني بين دول عربية مثل الوضع في اليمن خلال التسعينيات، أو بين الرغبة والقرار العربي وموقف الدول الكبرى الداعمة لهما، مثلما شهدنا في عدم تحمس الاتحاد السوفياتي للقرار المصري السوري بشن حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وكذلك رفض الدول الغربية الموقف العربي الخليجي بوقف ضخ البترول للدول الداعمة لإسرائيل، علماً أن كثيراً من هذه الدول كانت تدعم مصر وسوريا أو توفر غطاء أمنياً للدول الخليجية في قضايا أخرى.
ولم تعتد الدول العربية إصدار إعلانات رسمية تحدد فيها أسس وفلسفة أمنها القومي بأي قدر من التفصيل، مثلما شهدنا أخيراً من الولايات المتحدة الذي تضمن تنويهاً خاصاً بخطورة الصين على المصالح الأميركية، وإن كانت التجارب التاريخية المعاصرة أثبتت أن معظم دولنا لها محددات وقضايا جدية لا تتردد إزاءها في استخدام القوة أو التهديد بها، غالبيتها مرتبطة بحماية الحدود الوطنية ومنع التدخل بشكل مباشر أو غيره في الشؤون الداخلية من قبل الدول المجاورة، أي إن أمنها القومي كان غالباً يشكل من ويتأثر بثلاث دوائر، الخارجية الاستراتيجية مع الدول العظمى، والإقليمية الشرق أوسطية، والوطنية المرتبطة بحماية المصالح المباشرة لكل بلد من بلادنا، مع مراعاة أن نسبة تأثير كل دائرة تختلف بين دولة وأخرى.
من ناحية أخرى خلق الإرث التاريخي والأمني العربي عامة ثقافة عربية حميدة بالتريث في استخدام القوة خارج الحدود، وشهدنا ذلك حتى مع احتلال جزء من أراضيها أو وجود نزاعات حدودية مختلفة، على سبيل المثال وليس الحصر احتلال إيران لجزر إماراتية، بل إن هذا التريث الحميد شمل أيضاً التعامل مع أخطار على أساسيات الحاجات المجتمعية مثل تفضيل مصر التفاوض على استخدام القوة في النزاع المائي مع إثيوبيا، واستخدمت هنا تعبير التريث وليس الرفض لأن مصر أعلنت منذ عامين أن تجاوز تركيا نقاطاً محددة في الساحة الليبية من سرت إلى الجفرة يعتبر مساساً بالأمن القومي وستكون له تبعاته، وهو تطبيق منطقي وتقليدي لهذا المفهوم الذي يستند أساساً إلى أخطار أمنية تتجاوز نقاطاً جغرافية محددة في الحوار الوطني، والحمد لله أخذ الإنذار بجدية ولم يحدث صدام مباشر. وشهدنا حالة أخرى في اليمن حيث يعتبر السعودية والتحالف أن المساس بالحكومة الشرعية في اليمن الجارة يشكل تهديداً لأمنها القومي، بخاصة في ظل الدعم وطموحات الهيمنة الإيرانية، أي إنها حالة جمعت بين اعتبارات المساس بالشرعية في الساحة المجاورة والأخطار الأمنية الإقليمية، كما أنها حالة واضحة لاختلاف الرؤى العربية الوطنية مع رؤية الحليف الدولي الرئيس المتمثل في الولايات المتحدة، مما ترتب عليه شد وجذب بين التحالف العربي والسعودية من جانب والولايات المتحدة الحليف الأمني الرئيس من آخر، وهو ما شهدناه مرة أخرى خلال الأسابيع الأخيرة حول زيادة الضخ البترولي.
وهناك أمثلة أخرى لمفاهيم واعتبارات عربية أكثر تحفظاً لاستخدام القوة، بخاصة إذا لم تكن القضية إقليمية شاملة مثل فلسطين منها موقف الجزائر الذي يمنع دستورها استخدام قواتها خارج حدودها.
أيّاً كانت حسابات واعتبارات وثقافة الأمن القومي العربي فليس من المبالغة القول إن الساحة الأمنية الدولية والشرق أوسطية في مرحلة اضطراب وتغيير، فالغطاء الأمني للدول الكبرى انكمش وانكشف كثيراً، والتوازن الأمني الإقليمي اختل في غير مصلحة العرب، وازدادت وتنوعت الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي، بعضها من تيارات متطرفة تتحرك من ساحة إلى أخرى، وأخرى ترتبط بأسلحة متطورة مثل الصواريخ بعيدة المدى والاتصالات من الأقمار الاصطناعية أو الطائرات من دون طيار والحروب السيبرانية، وقد يمتد ذلك إلى تطبيقات من الذكاء الاصطناعي، ومن ثم أرجو أن تعطي الدول العربية موضوع الأمن القومي الاهتمام اللازم بهدف دعم القدرات من خلال قرارات ودراسات تتناول مزيداً من الخطوات التقليدية وغير التقليدية ومنها:
أولاً: تنوع صداقاتها وتعدد حلفائها سياسياً وأمنياً.
ثانياً: رفع كفاءاتها ونشاطها الدبلوماسي والسياسي تجنباً لتفاقم النزاعات والصدامات خلال مرحلة بناء قدراتها الأمنية.
ثالثاً: تدعيم قدراتها العسكرية والأمنية بتنوع مصادر السلاح وتطوير قدراتها الذاتية، مع تركيز خاص على التكنولوجيات الجديدة استعداداً لأخطار آنية ومستقبلية، مع إعطاء اهتمام خاص بتحقيق توازن أمني مع دول الجوار.
رابعاً: جذب وتوطين التكنولوجيات الجديدة محلياً لأن معظمها لها تطبيقات مزدوجة سلمية وعسكرية، مع تركيز خاص على المشتقات السيبرانية ووسائل التواصل عن بعد والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا القابلة للاستخدام من دول وتيارات غير مشروعة.