بقلم: عبد الإله بلقزيز- الخليج
الشرق اليوم- وضعت أوروبا، بعد وحدة الولايات الأمريكيّة، نهاية لأزمة التّجزئة القوميّة لبلدانها حين توحّدت ألمانيا وإيطاليا في مطلع سبعينات القرن التّاسع عشر. وفي الحقبة التّاريخية عينِها استقرّت كيانات دول كبرى في أمريكا اللاّتينية، مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين، في حدودها النهائية من اتحاد مقاطعات عدّة، فيما سيظلّ المعظم من دول إفريقيا وآسيا تحت الاحتلال الاستعماريّ الغربيّ في القرن التّاسع عشر وثلثي القرن العشرين. وحين ستبدأ في نيل استقلالها، بدءاً من أربعينات القرن العشرين، ستتأسّس دُول معظمها ضمن حدود استعماريّة متلاعَبٍ بها؛ مبتورة أو مجزّأة دويلاتٍ أو مضافة من أراضي بلدٍ إلى آخر…
أربعُ أمم كبرى في العالم خرجت من هذا الخضمّ مجزّأةً ممزَّقةً فاقدةً لوحدتها الكيانيّة القوميّة هي: الأمّة العربيّة، والصينية، والكوريّة، والهنديّة. وهي جميعها من لا تزال، حتّى الآن، مجزَّأةً لم تستعد وحدتها؛ في حين أنجزت تركيا – بعد انفراط منظومتها الإمبراطوريّة العثمانيّة – وحدة كيانها القوميّ حين استعادت الأراضي التي فقدتها في الحرب العالميّة الأولى؛ وأعادت فييتنام تحقيق وحدة شطريْها بعد جلاء الاحتلال الأمريكي؛ مثلما أعادت ألمانيا المقسَّمة إلى شطريْن ودولتيْن توحيد كيانها القوميّ مع نهاية الحرب الباردة في دولة موحّدة.
نعم، شهدنا، في ثلث القرن الماضي، على صُوَر أخرى من التّجزئة في العالم. لكنّها لم تكن تجزئةً للأمّة الواحدة إلى دويلات، بل كانت تجزئةً داخل أطر اتّحاديّة كبرى تضمّ قوميات وكيانات عدّة، من نوع ما حصل في الاتّحاد السُّوفييتيّ والاتّحاد اليوغوسلافيّ السّابقيْن، أو من نوع ما حصل في تشيكوسلوفاكيا أو في إندونيسيا؛ حيث بدأت القوميّات تعلن انفصالها القوميّ عن الأطر الاتحادية الكبرى التي كانت تنتمي إليها في عمليّةٍ لم تكن ديناميّاتُها وأسبابُها داخليّة، تماماً، بل لعبت فيها التّدخّلات الغربيّة أدواراً ذات تأثير. إنّها عمليّات من الانفصال القوميّ لم تقع ضمن دائرة تجزئة الأمّة الواحدة، ولذلك فهي تختلف عن الأولى. وهي حالة تشبه، إلى حدٍّ، حركات الاستقلال القوميّ العربيّة، إبّان الحرب العالميّة الأولى، عن الهيمنة التّركيّة. وهذه حالة تختلف عن تلك التي نتحدّث عنها في ما تعرّضت له الأمم الأربع.
للهند وضعيّة خاصّة لأنّ تجزئة كيانها قامت على أساس انفصالٍ دينيّ لمسلميها وانتظامهم في دولة مستقلّة (باكستان)؛ أي في دولة لا تعرِّف نفسَها بقوميّتها (الهنديّة)، بل بدينها الإسلاميّ وبالتّالي، لم يعُد هذا القسمُ الكبير من مسلمي الهند يعتبر نفسه – منذ العام 1947- هنديّاً ولا يشُدُّهُ حنين إلى وحدةٍ مع الهند.
يختلف الأمر، كثيراً، في حالة الأمم الثّلاث الكبرى الأخرى. لا واحدة من هذه الأمم سلّمت بتجزئة كيانها كأمرٍ واقع لا رِجْعة عنه، ولا اعترفت بشرعيّة ما تعرّضت له وحدتُها الكيانيّة من تقسيمٍ، ولا نسيَت ما فَعَلَتْه الإرادات الأجنبيّة للدّول الكبرى بها. وهي في هذا لا تختلف إلاّ في نِسب التّجزئة التي أسفر عنها انهيارُ كيانها القومي: كيانان في كوريا والصّين، ونيّف وعشرون كياناً في الوطن العربيّ.
وإلى ذلك، فقد وُجِد تيّار وحدويّ في هذه الأمم؛ في المجتمع كما في السّلطة، وظلّت إرادة التّوحيد القوميّ حيّةً لدى نخبها وشعوبها، وإنِ اختلفت الرّؤى إلى عمليّة التّوحيد. غير أنّ فكرة إعادة بناء الوحدة القوميّة من طريق الخيار الاتّحاديّ بين الكيانات لم تبارح رؤى نخبها حتّى حينما كانت تتأزّم العلاقات بينها ويقوم من بينها من يدعو إلى التّوحيد بالقوّة.
ومن يتأمّل حالات التّجزئة في هذه الأمم الثّلاث يلْحظ، بجلاء، أنّ قسماً عظيماً من استعصائها على الحلّ يكْمَن في انتصاب إرادة أجنبيّة مناهضة لأيّ مسعًى من هذه الأمم – شعوباً ونخباً – إلى حلّ إعضال التّجزئة فيها، وتحقيق وحدتها القوميّة أُسوةً بأمم الأرض كافّة! والذين يناصبون هذه الأممَ الاعتراضَ على وحدتها القوميّة يعرفون، على التّحقيق، ما ستستجرُّهُ وحدتُها – إنْ هي تَحَقَّقت – من تحوّلات هائلة على الصّعيد العالميّ وتوازنات قواه؛ إذِ الأمرُ يتعلّق بأمم كبرى تزخر بطاقات حضاريّة واقتصاديّة وبشريّة هائلة في وُسع تسخيرها أن يغيّر الكثير الكثير، ويُحَجّم فعل الهيمنة الأجنبيّة على قسمٍ كبير من العالم.
قد تظلّ الوحدة العربيّة والوحدة الكوريّة مشروعاً معلّقاً لفترة من الزّمن قادمة، لكنّها ستبصر النّور – قطعاً – في الصّين لأنّ إرادة تحقيقها هناك أقوى. ولكن لن يطول العهدُ بالبشريّة حتّى ترى انحساراً استراتيجيّاً للهيمنة الغربيّة – وهذا عين ما قاله الرئيس الفرنسيّ ماكرون قبل أشهر- وحينها لن يكون ثمّة من رادعٍ خارجيّ للوحدة القوميّة لدى الأمم التي ظلّ مشروعُها القوميّ التّوحيديّ معلّقاً.