بقلم: د. عدنان الربيعي
الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، تحليل السياسات، يتناول مضامين البرنامج الحكومي لرئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني ومشروعه الإصلاحي والكيفية التي يسعى من خلالها إلى إنجازه على المستويات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالرغم من عدم امتلاكه للكتلة البرلمانية الأكبر
أدناه نص المقال كما ورد في موقع المركز:
منذ أن قدم تحالف “إدارة الدولة” المُكون من قوى “الإطار التنسيقي” وقوى سنية وكردية، محمد شياع السوداني، كمُرشح لرئاسة الوزراء، سادت الساحة السياسية العراقية حالة من الترقب والحذر بين تيار يرى في السوداني شخصية مُستقلة قادرة على التعامل مع جمهور الأحزاب والكُتل السياسية، وبين من يخشى أن يُكون ترشيحه امتداداً لنظام المُحاصصة السائد في العراق منذ العام 2003، وأن حكومته لن تكون قادرة على التعامل مع الملفات والقضايا الصعبة التي سترثها عن سابقاتها.
مع ذلك، تمكن السوداني، وتشكيلته الحكومية، من نيل ثقة مجلس النواب في 27 أكتوبر من العام 2022. حيث تضمن برنامجه الوزاري أفكاراً جمعت بين مطالب ومطامح مختلف القوى والتيارات العراقية لا سيما ما يُعرف منها بالمُعارضة، من قبيل إجراء انتخابات مجالس المحافظات، وتعديل قانون الانتخابات العامة خلال الأشهر الثلاث الأولى من عمر الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية مُبكرة في غضون عام. كما ظهر سعي السوداني خلال الكلمة التي ألقاها عشية التصويت على تشكيلته الحكومة، في تقديم رسائل الثقة للمعارضة العراقية سواء التيار الصدري أو جمهور التشرينيين المحتج منذ العام 2019.
ويهدف السوداني من ذلك كله، إلى تفادي أخطاء الحكومات السابقة، بأن يبحث عن نيل “الشرعية الكاملة” وليس شرعية البرلمان فحسب، بعد أن اهتزت صورة الدولة ومؤسساتها خلال العقود السابقة وتراجعت الثقة الشعبية في الحكومات إثر تفشي الفساد وتردي الخدمات والأوضاع الاقتصادية. وهي فرصة قد تكون سانحة بتوفر حضانة حزبية داعمة للسوداني من قبل القوى الشيعية والسنية والكردية المُشاركة في تحالف “إدارة الدولة”، وبالوفرة المالية المتمثلة في إرادات النفط؛ الذي تخطت أسعاره العالمية حاجز الـ(90) دولار للبرميل.
هذا إلى جانب تمتع السوادني بمُميزات شخصية عدة، أهمها نجاحه في المناصب العديدة التي تقلدها، وعدم انخراطه في قضايا أو ملفات فساد، وانتمائه الجغرافي للجنوب العراقي وهي المناطق الاكثر فقرا في العراق، فضلا عن عدم امتلاكه لجنسية دولة أخرى، وخطابه المُعتدل والمتزن، ولربما أن تلك الميزات هي ما دفعت المعارضين من داخل البرلمان وخارجه إلى تقبل ترشيحه وعدم السعي لعرقلته.
وعليه؛ يتحلى السوداني بالظروف المواتية للسير في سياسات قد تُوسع من الدعم السياسي الممنوح له، وإنجاز مخططاته لتطوير الخدمات المُقدمة للمواطنين. لكن تبقى هناك العديد من التحديات الموروثة عن سابقاته من الحكومات، حيث البيئة السياسية تُعاني استقطاباُ حاداً، قد يُصعب من إمكانية انجاز الانتخابات المحلية والبرلمانية خلال عام، كما يُعقد من التوافق على قانون انتخابي جديد، يتطلب حال إقراره مدة زمنية لتهيئة الأرضية المُناسبة لتطبيقه من قبل مفوضية الانتخابات.
لكن؛ يبدو أن برنامج السوداني بالرغم من كونه على درجة كبيرة من الأهمية، يواجه تحدين رئيسين: من جهة، أن السوداني لا ينتمي إلى كتلة برلمانية فائزة تريد تحقيق وعودها الانتخابية، أو مشروعها الإصلاحي. فترشيحه جاء حصيلة توافق أطراف تحالف “إدارة الدولة” عليه. ومن جهة أخرى يتجاوز منهاجه صلاحياته كرئيس للوزراء، حيث مشروعه الإصلاحي يتعدى السلطة التنفيذية إلى التشريعية والقضائية. ما يفرض عدة أسئلة من قبيل: كيف سيتمكن السوداني من تمرير مشروعه الإصلاحي وبرنامجه الحكومي دون امتلاكه الكتلة البرلمانية الأكبر لتجيز بسهولة القوانين المقدمة إلى المجلس من حكومته، وكيف يُمكنه المُوازنة بين مبدأ الفصل بين السلطات وإصلاحاته الشاملة للنظام السياسي؟
الإصلاح الشامل كمدخل للحفاظ على الدولة
يُقدم السوداني برنامجه الإصلاحي الشامل والعابر للسلطات الثلاث، كعلامة فارقة تُجنب الدولة بأركانها مواجهة موجة جديدة من الاحتجاجات المُستمرة منذ عام 2019، ولعدم تفاقم الاستقطاب السياسي الحاد في البيئة السياسية، والذي بلغ إبان أزمة الجمود في تشكيل الحكومة حداً فاقم من مخاطر الاقتتال والعنف الداخلي بين مكونات البيت الشيعي.
إلى جانب أن السوداني يسعى من خلال إصلاحاته إلى تشكيل رافعة شعبية لحكومته تعوض عدم انتمائه لكتلة برلمانية فائزة، وتجديد في الوقت نفسه الثقة الشعبية في النظام السياسي برمته. وهو يؤكد في الوقت ذاته أنها لا تستهدف التغيير الشامل لكافة القضايا المُرتبطة بالحكومة السابقة وما قبلها. ويُمكن تلخيص أبرز تلك الإصلاحات كما يلي:
الجسم البيروقراطي: يربط العراقيون مطالبهم بالإصلاح بتصويب الجسم الإداري العام في الدولة، حيث العديد من المشكلات الخدمية والاقتصادية سببها القرارات والتعيينات والاتفاقات الحكومية السابقة، والتي كانت مُرتبطة على الدوام بسياسات التدوير الحزبية بين الوزارات، فالوزير المنتمي إلى حزب مُعين يأتي بأفراد حزبه كمدراء مكاتب وأمناء داخل وزارته. ويظهر من خلال المنهاج الحكومي للسوداني سعيه لمواجهة سطوة الأحزاب على العمل الوزاري، والحيلولة دون تدخلهم بعمل الوزارة بصورة كبيرة. إذ تضمن في فقرته الأولى “إعادة النظر بجميع القرارات والتعيينات لحكومة تصريف الأعمال اليومية وخصوصًا الاقتصاديّة والأمنيّة والتعينات العشوائيّة”، كما أوعز للوزراء في أول اجتماعات مجلس الوزراء، بأن يكون تسلمهم للوزارات سلسلاً وبعدم تعيين مدراء مكاتبهم من موظفين خارج وزاراتهم.
السلطة التنفيذية: اتخذ السوداني عدداً من المسارات التي تستهدف عمل السلطة التنفيذية؛ ومن أهمها:
- العمل القانوني، الهادف إلى ترسيخ وإقرار تلك الإصلاحات من بوابة القانون دون غيره، وبأن الحكومة لا تقصد منها استهداف أي جهة سياسية، أو إلغاء التعيينات في الدرجة الأولى بعد تاريخ 8 أكتوبر عام 2021، وهو التاريخ الذي تحولت فيه حكومة الكاظمي السابقة إلى حكومة تصريف أعمال.
- العمل الإعلامي، لاستهداف ملفات الفساد والترويج لمكافحته، لنيل الدعم الشعبي كخطوة تسبق البدء بإجراءات مُحاسبة الفاسدين.
- العمل القطاعي، بالتخصص في معالجة كل ملف وقضية بشكل مُنفرد، وقد أصدر السوداني عدداً من التوصيات للبدء في ملف الصحة ثم الأمن ووصولاً إلى الكهرباء.
السلطتين التشريعية والقضائية : إلى جانب الإصلاح في الشق التنفيذي، فإن هناك قضايا أخرى يرى السوداني حاجتها للتصحيح العاجل، وأن الإصلاح الشامل يتعدى السلطة التنفيذية، ليشمل أركان النظام السياسي التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولتحقيق ذلك أدرج السوداني في برنامجه الوزاري عدداً من مشاريع القوانين؛ ومنها
تشريع قانون مجلس الاتحاد خلال ستة أشهر، تشريع قانون المحكمة الاتحادية خلال ستة أشهر، تعديل قانون الانتخابات النيابية خلال ثلاثة أشهر؛ وإجراؤها خلال سنة، مراجعة قانونية لقانون العفو العام، إكمال تشريع قانون مكافحة الإرهاب، تشريع قانون إلغاء قانون مجلس قيادة الثورة المنحل، تعديل قانون مؤسسة الشهداء، تشريع قانون مجلس الأمن الوطني، مراجعة العمل بقانون 27 ويحال الملف للقضاء للبت فيه، تُجرى انتخابات محافظة كركوك بنفس التوقيت مع باقي المحافظات.
الإصلاح عبر السلطة القانونية الموازية
اتجهت العديد من الحكومات المتعاقبة في العراق منذ العام 2003، إلى اعتماد القوانين والتشريعات البرلمانية لتغيير بعضاً من الممارسات السياسية، أو لمواجهة خصومها أو لتمرير مشاريعها. وهي ما بات يُعرف بـ”السلطة القانونية الموازية”. حيث حيازة الحكومة على ثقة الكتلة البرلمانية الأكبر أو انبثاقها منها يُمكنها نسبياً من تمرير مشاريع القوانين دون قُدرة المعارضة على عرقلتها. كما يتيح وجود (51) مادة مؤجلة في الدستور العراقي لعام 2005، والتي يتبعها عبارة يُشرع بـ”قانون”. الحق لمجلس النواب بتشريع القوانين وتأجيلها وفق ما تقتضيه المصلحة.
كما أن للمحكمة الاتحادية، سُلطة تفسير المواد الدستورية، وقد يُغير تفسيرها العديد من المسارات السياسية. خاصة في تلك المواد المختلف على تأويلها ضمن روايات كثيرة. وعندها فإن دور المحكمة الدستورية هاماً ليس فقط في تفسير النص ولكن في تحديد الممارسة السياسية المرتبطة به. فضلاً عن دورها بالحكم في قضايا التعيينات والمناصب الإدارية.
كما أن هناك ازدواجية قانونية عند تطبيق بعض النصوص وتنفيذها، ومثال ذلك؛ الأغلبية البرلمانية التي طالب بها التيار الصدري لتشكيل الحكومة بعد نيله أكبر عدد من مقاعد البرلمان في انتخابات العام 2021، حيث جاء تفسير المحكمة الاتحادية للمادة (76) من الدستور عام 2021، “أن الكتلة الكبرى هي التي تتشكل داخل البرلمان وليس بالضرورة الفائزة في الانتخابات”، ما يعني عملياً أن التيار الصدري كان يُطالب بتشكيل الحكومة من ناحية قانونية، إلى جانب قانونية ترشيح ائتلاف “إدارة الدولة” لرئيس الوزراء بعد انسحاب الصدريين.
ويبدو أن السوداني يستثمر تلك الآليات القانونية، لتغيير القيادات التي يعتقد أنها ستعرقل برنامجه الحكومي. فبينما أوجد انطباعاً سابقاً بعدم استهدافه لشخصيات وتيارات معينة، فهو يُعفي بأولائك الذين تشوب تعييناتهم مخالفات قانونية، ووصل عددهم 169 مسؤولاً رفيعاً، من قيادات أمنية ومحافظين ووكلاء ومستشارين ومديرين، في مختلف الدوائر والوزارات الحكومية، استناداً على قرار من المحكمة الإدارية في 17 مايو 2022، والقاضي بأن صلاحيات حكومة تصريف الأعمال تنحصر في نطاقات إدارية ومالية ضيقة. ولا يحق لها العديد من المهام والتي من بينها التعيينات في الدرجة الخاصة.
استثمار خبراته السابقة لتعزيز برنامجه الحكومي
يتضح من خلال برنامج السوداني الحكومي، وخطاباته الرسمية، تركيزه على البرامج التي يمتلك خبرة فيها، في سياق عمله السابق كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية، وكذلك وزيراً بالوكالة للصناعة ثم للتجارة، إضافة إلى منصبه وزيراً لحقوق الإنسان العراقي خلال الفترة (2010-2014). ولذلك نجد تكثيفاً في برنامجه الحكومي لتلك القضايا المتعلقة بالضمان الصحي، والرعاية الاجتماعية، والصناعة، وغيرها من القضايا الاقتصادية.
وعلاوة على ذلك، يظهر عزم السوداني على مكافحة الفساد، وهذا الاختيار الأكثر جدية لحكومته كما لأي حكومة عراقية تتبنى نهجاً إصلاحياً، ويُدرك السوداني ذلك بقوله أنه أمام “جائحة الفساد”. يدعمه في ذلك سيرته النزيهة والخالية من أي شُبهات أو ملفات فساد، سواء على المستوى السياسي أو الشعبي.
ونظراً لدور المؤسسة الأمنية الرئيسي في دعم مساعي السوداني في مكافحة الفساد، فقد بذل الأخير جهداً مضافاً في لقاءاته القيادات الأمنية للتنبيه على دورهم في هذا الشأن.
كما يسعى السوداني لتطوير الخدمات المُقدمة للمواطنين، ولتحقيق درجات متقدمة من الرضى الشعبي عن أداء الدولة ومؤسساتها، ومن أهم تلك الخدمات هي ملف الكهرباء، حيث طالب المسؤولين بوضع خطة زمنية تبدأ صيف العام 2023، وتمتد للمواسم التي تليه. بالإضافة إلى ملف تحلية مياه البصرة الذي كلف محافظها بالتوقيع مع الشركات المختصة للعمل عليه سريعاً. فلطالما كان للملفين المذكورين سبباً في الاحتجاج والغضب الشعبي.
وفي الختام؛ يُقدم السوداني برنامجه الحكومي، ومشروعه الإصلاحي الشامل، من أجل تجسير الهوة بين الدولة بمؤسساتها والثقة الشعبية، من خلال العمل على تصويب تلك القضايا والملفات التي مثلت مصدر قلق شعبي على مدار سنوات. ولهذا أهميته في عدم مواجهة الدولة لموجات جديدة من الاحتجاج مع إدراك الكُتل والنخب السياسية أن الدولة العراقية تواجه خطر الانفلات جراء الاستقطاب السياسي وفقدان الثقة الشعبية، وبمنح السوداني فرصته لتمرير مشروعه الإصلاحي وبرنامجه الحكومي فهو بذلك يُحافظ على ما تبقى من النظام السياسي وبمكوناته من أكثرية ومعارضة أيا كانت مسمياتهم.